إن الدين الإسلامي قد وقع عليه الظلم من قبل فريقين من الناس ، فريق علمت عداوتهم منذ بعثة الرسول صلى الله عليه و سلم ، وهم اليهود و النصارى ، و الفريق الثاني وهم أشد خطرا لأنهم من المسلمين ، و هؤلاء ظنوا آن الجهاد في الإسلام يقتصر فقط على المواجهة ، و الذي زاد من خطرهم أنهم عمدوا إلى نصوص القران ووضعوها في غير سياقها وموضعها ، واعتقدوا أنهم على حق و من خالفهم من المسلمين رموه بالردة و الكفر. والحقيقة أن الإسلام بخلاف هذا ، فهو كغيره من الأديان السماوية يدعو إلى السلم و نبذ النزاعات و الخصومات التي لا تفضي في كل الأحوال إلا إلى الفتنة و الشر . و فكرة السلم والسلام في الإسلام فكرة أصيلة عميقة تتصل اتصالا وثيقا بطبيعته وفكرته الكلية عن الكون والحياة و الإنسان، هذه الفكرة التي ترجع أليها نظمه جميعا، وتلتقي عندها تشريعاته وتوجهاته، وتجتمع إليها شرائعه و شعائره. فالأصل في الإسلام إذن هو تحقيق السلام للمخلوقات المكلفة في الدارين ، الدنيا و الآخرة معا ، و لكن إذا رفض بعض المخلوقات المكلفة التعاون لتحقيق هذا السلام الشامل ، فإن الإسلام جاهز أيضا للتعاون مع الجميع لتحقيق هذا السلام المحدود، قال تعالى { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير }. فالإسلام لم يأت ليفرق بين الناس و لا ليزرع بينهم العداوة و البغضاء ، أو ليشجع على سفك الدماء ، أو قطع الروابط الإنسانية و أواصر القرابة و الرحم . هذه حقيقة السلم في الإسلام فهو الأصل ، وإذا تقرر أن الإسلام صريح في النص على وجوب معاملة المسلمين و غير المسلمين بالحسنى ، أمكن اعتبار أي معاملة غير هذه حدثا شاذا ليس من الأصول الثابتة في شيء، الآن هذا الانحراف لا يأتي من روح الدين بل من دوافع أخرى سواه. أما بخصوص الحرب فقد عاش المسلمون ردحا من الزمان يعذبون في الله و يفتنون في دينهم ، و يتمنون لو أذن لهم بالقتال ليتشفوا من أعدائهم ، لكن الله سبحانه و تعالى أمرهم بالصلاة و الزكاة وكف الأيدي ، و حثهم على الصفح و العفو على المشركين و الصبر على أذاهم إلى حين . قال تعالى { خذ العفو وأمر بالعرف و اعرض عن الجاهلين }. لقد نهى الله سبحانه و تعالى عن القتال و أمر بالعفو و الصفح ، و ذلك لحكمة بالغة ، فلو أذن للمستضعفين بالقتال لكان هدفهم من ذلك هو الانتقام و رد الاعتبار لأنفسهم ، و بذلك تكون العقيدة الإسلامية و الهدف الأسمى مغيبا ، بل على العكس قد جاء الإسلام لتصحيح المسار و نقل الصراع من الدائرة الشخصية المغلقة إلى هدف أسمى و أرقى . و هذا من شأنه أن يكف نزوات الإيذاء و الظلم و الإساءة إلى الغير و يقيم أركان المجتمع الإسلامي على الفضل و حسن الخلق و الصفات النبيلة ، التي منها الصفح و العفو عن الإساءة و الحلم و ترك الغضب و الانتصار للنفس . للنفس شأن الإسلام يدعو إلى اتقاء الحرب و محاولة فض النزاع بالتي هي أحسن ، لكن الذي زلت فيه إفهام كثير من المسلمين و غير المسلمين هو كيفية الفهم و التطبيق للآيات التي ورد فيها الحرب في القران ، و قد يدعون أن هناك تناقض بين ما ينظر له المدافعون عن الإسلام و بين ما ورد في القران من الآيات التي تدعوا إلى الحرب و القتال ، و الذي ينبغي على هؤلاء هو فهم تلك الدعوة في سياقها، فالقران الكريم يدعوا إلى عدم التسرع إلى الحرب و القتال ، لكنه في نفس الوقت يشجع على الحرب و القتال ، و ليس هذا فقط ، بل رتب على ذلك أجرا لمن خاضها ، و توعد المخالفين عنها بالعذاب في الآخرة ، لكن العبرة في فهم هذه الدعوة و الآيات في سياقها. وسوء الفهم هذا جعل كثيرا من الناس يرمون الإسلام بالغضب و الشدة مع المخالفين و غير المعتنقين له ، كما جعل فئة أخرى من المسلمين يوظفون هذه الآيات في غير سياقها و يرفعونها من مضامينها ، وكلا الفريقين لم يصادف الحق و الصواب . و الحق أن الإسلام منذ ظهوره في صراع دائم مع أعدائه ، ذلك لأنه كان في فترة انتشاره شبه محاصر من جميع الجهات ، ففرض عليه القتال فرضا ، و كان من الطبيعي أن يحارب من أجل فك الحصار عن نفسه فاضطر إلى الحرب و القتال من أجل التوسع و تبليغ الدعوة . و هذا الحصار كانت له أسباب تتمثل في التعصب اليهودي و النصراني حينما لم يظهر فيهم النبي ، وكذلك الخشية من ضياع الامتيازات المادية ،ومن الجهة الأخرى وجد التعصب القبلي و التعصب لموروث الآباء من المعتقدات الباطلة ،و نشأ عن هذا التعصب رفض الدعوة الجديدة و محاولة وأدها ، واختاروا المواجهة ما جعل المسلمين آنذاك أمام خيارين ،إما الدفاع أو الاندثار. ولما فرضت الحرب على المسلمين جاء الإذن من الله سبحانه و تعالى لقتال المعتدين قال تعالى { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير } . فهذه الآية تبين أن المسلمين في حالة الظلم بحيث لم يكونوا هم البادئين بالعدوان ، فهي بمثابة ترخيص على رد العدوان بعدما وجدت لهم المقدرة المادية التي تمكنهم من رفع هذا الظلم الواقع بهم من طرف قيادات قريش ، نعم نزلت آيات الإذن بالقتال و الحرب الدفاعي ، وقد جاءت آيات أخرى تبين كيفية هذا الدفاع و شروطه ، قال تعالى { وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم و لا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين }. فرغم الإذن بالقتال إلا أن الله سبحانه و تعالى قد ضيق خناق الحرب تضييقا ، بحيث جعل لها شروطا لا ينبغي للمسلم أن يتعداها ، فيجوز له الدفاع لكن يحرم عليه الاعتداء ، وكل النصوص القرآنية التي جاء فيها الأمر بالحرب لا تجيز إلا قتال المعتدين ، و لا تجيز هذا القتال إلا الحد الكافي لحسم عدوانهم ، دون التمادي في القتال لمجرد التعصب و إشباع رغبة الانتقام ، بل توجب التوقف عند حد الدفاع لمنع هذا العدوان تحقيقا للعدالة ، مع ضبط النفس و إيثار الحق و الرحمة . "وواقع الرسول صلى الله عليه و سلم و أصحابه في الحرب و الغزوات يشهد بهذا الحق ، فالمسلمون في جميع حروبهم لم يظلموا أحد و لم يعتدوا على أحد ، و لم يحرقوا القرى و لا المدن ، و لم يقتلوا أحدا غير المحاربين ، و أبرز مثال على هذا أنه لم يتجاوز عدد القتلى من الطرفين أربعمائة شخص طوال ثلاث وعشرين سنة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم . هذه حقيقة السلم و السلام في الدرس القرآني ، و هذا الذي ينبغي أن يتنبه له من يرمون الإسلام بالتهم العارية من الصحة ، و يتنبه له أيضا أولئك الذين يحرفون الكلم عن موضعه ويفرغون الآيات من مضامينها و يستعملونها في غير سياقها ما أدى إلى ظهور هذه الفوضى و الفتن في الأمة الإسلامية.