إنه لمن غير اللائق أن نسمع اليوم عن المس بمجانية التعليم، وأن ينتقل هذا النقاش إلى المناورات والمزايدات السياسية دون إخضاعه للتنظير الفكري الفلسفي و الضبط الأكاديمي في حدود اختصاصاته، لوضع أسس المجتمع المحصن القادر على السير قدما نحو التقدم، وإنه لمن الحمق، الكلام عن ضرب مجانية شيء لم يعد موجودا إذا استحضرنا الشروط التي يجب أن تؤسس لقيامه على أحسن وجه. لذلك يمكن اعتبار الكلام عن إلغاء مجانية التعليم كمؤشر على قمة الانحطاط الفكري والثقافي الذي أصاب المجتمع، لأن التعليم لا يجوز الكلام فيه إلا لمناقشة جودته، وسبل إنجاح مهامه. حين يصبح معنى الحياة ملتبس، ويصبح الإنسان لا يكترث بالبحث عن معنى للحياة، ويصبح التعامل مع التقدم، الحداثة، التنمية والثقافة لا يتجاوز الخطابات الافتراضية، فإن المدرسة لا تقوم بدورها، حيث يتحول الطموح إلى نوستالجيا، ما يعني أن الحاضر أسوأ وأن سبيل المستقبل ملتبس ومتعدد الحواجز. فبدل المحاولات لضرب مجانية التعليم وتدميره، كان من الواجب الكلام عن تجديد هياكل التعليم، وإعادة تقييم القطاعات الجامعية وتنويع مضامين الخزانات العمومية وتجويد وظائفها. وكان من اللازم التفكير في وضع سياسة تعليمية تنتقي المعطيات والأنشطة الثقافية ذات المنفعة العامة وتعميميها في المجتمع عبر المدرسة، حيث لا يجب أن يكون هدف التعليم الأساسي والرسمي فقط هو الإدماج في الحياة المهنية والتأهيل لما تمليه الرأسمالية وتفرضه عبر المقاولات والشركات، مما يجعل الطالب حبيس خط معرفي لا يجيب على رغباته وطموحاته كقاعدة لميولاته المهنية، فيصبح بذلك مستهلكا للثقافة ولا ينتجها، وذلك من أسباب التبعية العمياء والتخلف. الهدف الأولي من التعليم بكل بساطة، هو الحاجة إلى المعرفة والعلم والبحث والإبداع والترفيه، وكل ما يطور عقلية التحليل والتأمل والحس النقدي، ويقوي الشخصية ويطور الخيال ويجسد الأهداف المعرفية، فالمسألة التربوية التعليمية تتطلب، بعد النقاش الفكري المنبثق من الواقع، أبحاثا ودراسات لوضع إستراتيجية على كل المستويات، من التعليم الأولي إلى التعليم العالي، وفتح الجامعة في وجه العصاميين وتخصيص شهادات شرفية لفائدة الاجتهادات والمجهودات ذات الإفادة للمجتمع. المغرب في حاجة إلى مواطن يرفع من شأنه ويقوي مكانته في المجتمع الدولي، وهذا لن يتأتى إلا بتعليم قادر على ذلك. فهناك علاقة قوية بين التعليم وجميع القطاعات، بحيث لا يمكن الرفع من مستوى أي قطاع دون النهوض بالتعليم، ولا يمكن الكلام عن تنمية الثقافة والمعرفة دون تعليم جيد، يغذي العقل والروح، ويؤهل المواطن لممارسة حقوقه وواجباته تجاه وطنه، وينتج ثقافة تساير التطور الإنساني الكوني، وذلك عبر تطوير إمكانياته في تبادل المعارف والعلم، شريطة ألا ينحصر هذا في طبقة اجتماعية دون أخرى. فزرع بذور ثقافة مجتمعية راقية، ينطلق من المدرسة العمومية التي توفر فضاء بناء وتحصين شخصية المواطن لجعله قادر على استيعاب ما يحيط بالمجتمعات الهشة ثقافيا، من مخاطر كارثية، في إطار التحولات الكونية، وتمنحه إمكانيات الرفع من مستوى التعبير الثقافي والإبداعي كدرع ضد هذه المخاطر. فلا يمكن لثقافة المجتمع أن تستقيم إلا انطلاقا من المدرسة، بعقلنة النظام التعليمي والتربوي، وتنزيهه عن كل ما هو دوغمائي وإيديولوجي، فهي المكان الأولي لزرع ونمو ورعاية الثقافة وضمان مستقبلها، ولتأمين ديمومة نسج الروابط بين الأجيال، أي بين أفراد الجيل الواحد، وبين الجيل الواحد وسابقه ولاحقه. الوضع لا يتسع لمناقشة فرض أداء رسوم على التعليم، بل على العكس الوضع في حاجة إلى تجويد المدرسة وتوسيع المجانية والتحفيز والدعم، وتيسير الولوج إلى المعرفة بضمان مستوى اجتماعي يوفر الإمكانيات للأسر، من أجل القدرة على مواكبة المدرسة التي يطمح إليها المجتمع.