كم أشتاق في لحظات كثيرة إلى معانقة التراب.. عن تراب الأرض الطاهر من كل مؤثرات الحضارة أتحدث.. كم أعشق الارتماء في أحضان الأرض النقية الصافية.. بلا حائل من فراش وثير.. كما يفعل الفلاح وهو ينتظر أن تمتلئ "المدية" بالماء الذي يسيل رقراقا ليروي عطش حبات القمح.. أو كالراعي يرتشف كأس الشاي الذي صنعه بيديه البدويتين.. حيث امتزجت فيه حلاوة السكر مع رائحة دخان العيدان اليابسة .. لطالما تمنيت أن أسند ظهري إلى أديم الأرض الذي يتلألأ كالإبريز.. وأنظر بعيني المنهكتين بضوء الحاسوب والهاتف.. إلى ضوء السماء الصافية التي لم تصب بعد بعدوى التلوث البشري.. وإلى النجوم ليلها المتلألئة.. التي تحوم حول القمر ليلة النصف كما تحوم البراقش حول النار الهادئة.. بينما تستمع أذناي لموسيقى لم تستعمل فيها أي من آلات الطرب المصطنعة.. وإنما صيغت بأصوات نقيق الضفادع.. وخشخشات "بوكريبة".. ونباح الكلاب البعيد والقريب.. على شكل سمفونية طبيعية بدون مايسترو. أنا لا أحس أنني أعود إلى أصلي وطبيعتي.. إلا عندما ألامس الشجر والحجر والطين.. الطين الذي منه خلقت.. فيه أفرغ كل الشحنات السالبة التي تراكمت في جسدي.. بفعل الحضارة المصطنعة.. وكثرة التكلف في التماهي معها.. أجلس في حجر الأرض التي هي أمي وأصلي.. أرمي بكل صراعات الدنيا في بئر سحيق.. حيث أتناسى المال والأعمال.. أتخلص من اللباس الغريب عني.. الذي فرضه التقليد الأعمى.. وترتاح أذناي من صخب الحياة الهادر.. الذي طالما صم أذناي.. حتى غدوت كعامل "الطاحونة".. مسحوقا بين غبار الدقيق وضجيج الآلات المتصارعة.. أعدم التفكير في الأسواق والأبواق.. وكثرة الأخبار والهرج والأوراق.. تجذبني الأرض إليها جذبا.. كما تجذب المغناطيس الحديد.. فأنساب بين حباتها وحصياتها.. انسياب الماء بين الجداول.. كيف لا أهيم بالأرض.. وأنا البدوي القروي الموغل في البداوة حتى النخاع.. إني أعشق البداوة حد الهيام.. أعشق صياح الديكة تداعب نسمات الفجر.. أعشق ثغاء الأكباش وهي تخرج من زرائبها.. متلهفة لتقبيل أعشاب الأرض الطرية الزكية.. أعشق دخان التنور وهو يخرج من فتحات "الكشينة" يحمل معه رائحة خبز الصباح الفاتن.. الذي لا يمكن أن تضاهيه أرقى المخبزات في باريس.. أهيم طربا وأنا أشم رائحة التراب.. عندما تداعبه شذرات المطر.. وبعد أن يروي عطش شهور خلت.. يفسح لها المجال لتترجل رقراقة نحو الجداول فالوديان.. بينما الأشجار تتمايل مرحبة بقدوم ضيف السماء.. والعصافير تنظم شعرا مغنى على شرف الزائر الكريم.. الذي يحمل معه الخير والبركة.. بينما القروي يفرك يديه فرحا بالعطاء الإلهي.. الذي يغنيه عن انتظار ما يحيكه السياسيون والاقتصاديون. كم أتلهف شوقا إلى أن أسير حافي القدمين.. لأرتشف من حرارة الأرض.. رشفات تدفئ عظامي المنهكة ببرودة الإسمنت.. وتمتص ألم ملايين الخطوات فوق أرصفة لامعة زائفة.. كسراب يحسبه الضمآن ماء.. حتى إذا جاءه لم يجده إلا أمراضا مزمنة. جرفتني الرغبة الجامحة لأن أشتري "دلاحة بلدية" .. لم تتسرب إليها سموم المصانع الكيماوية.. وأكسرها على صخرة صماء لامعة.. دون استعمال لسكين حادة ولا لأطباق مصقولة.. وأضع فيها وجهي بكل مكوناته.. وألتهم من لبها الأحمر.. كما يلتهم الوحش الفريسة.. طبعا أنا لست همجيا لهذه الدرجة.. ولكني أعلم أني أتخلص طوعا من شحنات الحضارة الزائفة.. والمظاهر الخادعة التي قدسوها إلى حد العبادة.. إنها المظاهر التي جعلت من الشوكة والسكين.. مقياسا من مقاييس المدنية والتحضر. عشق البادية يغلب على طبعي.. و"تاعروبيت" سكنت عظامي.. واضطرتني لمغادرة المدينة الضيقة.. نحو أرض الله الواسعة.. والجمال الخالي من أصباغ المكياج الاجتماعي والثقافي.. طبعا أنا لا أكره أحدا على هذا الاختيار.. ''فكل واحد وهوايشو''.. فأنا مجدوب أعشق التلاحم الطبيعي بين التراب والتراب.