أرجع من الحانة قبل الفجر بدقائق كل يوم تقريبا مخمورا أترنح، أكاد أسقط من الإسراف في الشرب..دائما نلتقي في نصف الدرب،هو يهم بإغلاق الباب بهدوء والذهاب إلى مسجد الحي..أسند ظهري على الحائط لاخذ بعض الأنفاس قبل اسئناف جر الخطوات حتى أصل إلى البيت..تلتقي نظراتنا..فأغض الطرف احتراما له فقد كان في عينيه وميض خاص يجذبني نحوه وابتسامة ثغره الوضاءة كشروق الشمس.. لم نكن نتبادل أي كلام فكيف يحق لي الكلام أمام شيخ ورع أفنى عمره في بيت الله وفي طاعة الله وأنا السكير اللعين الغارق في الذنوب حتى الأذنين..!! أعوام مرت ونحن نلتقي في نفس المكان، في منتصف الزقاق أنا أعود من الحانة وهو يتوجه لتلبية نداء الله في المسجد، السماء صافية، والسكون يلف الكون والنجوم مازالت ساطعة والقمر يبدو قريبا من متناول يدي كتفاحة يانعة تنتظر من يقطفها. لماذا لا يتجهم في وجهي ويلعنني كما يفعل العديد ممن يدعون الإيمان والقرب من الله، أو على الأقل يغير طريقه عندما يراني من بعيد قادم للحي..لكنه عوض ذلك كان يبتسم في وجهي حتى حفظت ملامح وجهه المنيرة مثل قمر في ليلة البدر. وقد كانت عينيه الصافيتين المشعتين مثل نجمتين تبعثان في عيني كلاما مستفيضا لا افهمه لكن قلبي كان يطرب كل فجر بهذا اللقاء.. لكن فجر أمس..خمسة دقائق قبل اذان الفجر..وقفت في نفس المكان..مسندا ظهري على الحائط منتظرا سطوع وجهه المنير لارتشف من بسمته المشرقة طاقة وحيوية وأتشرب من بحيرة عينيه الرقراقة أمن وسكينة تتسرب في كياني فتغمرني نسمات النور وتطير بي في سماوات العشق فأحس بوزني خفيف كريشة أو فراش يجذبه نور المصباح إليه.. انتظرته أكثر من ساعة..لم يأتي..فبدأ التذمر يتسرب إلى مسامات جلدي ..كأني كنت معه على موعد يومي وقد تأخر علي..!! ترى ماسبب تأخره عن الذهاب إلى المسجد في هذا الفجر كما تعودت أن أراه..أيكون حدث له مكروه ﻻ قدر الله..عندما نطقت اسم الله الذي كان كامنا في أعماق دواخلي، فجأة نشط البركان الخامد..حدثتني نفسي أو شيطاني: الله! كيف تلفظ اسم الله بفمك النتن برائحة الخمر أيها السكير..! بدأ قلبي يخفق وأثر السكر يزول رويدا رويدا وقشعريرة سرت في أوصالي..وشريط حياتي ترائى لي واضحا ساطعا مثل شمس الظهيرة..فبدأت دموع غزيرة تندلق من حدقتي عيني فتركتها تنحدر على خدي بكل حرية فلم يكن عندي جهد لأرفع كم قميصي لأعدم تلك الدمعات التي تختزل ندم ثلاثة عقود..!! خفضت عيني إلى الأرض استحياء أن أنظر إلى السماء..وقررت أن أتصالح مع الله وأطلب غفرانه ورحمته ويتقبلني ضمن زمرة التائبين إليه وفي عباد الله الصالحين.. لكن الشيخ النوراني اختفى بعد أن أدى مهمته ورسالته ورسم لوحته الشفافة التي خطها من ذرات نورانية لسنين طويلة وبصبر وتؤدة وحكمة وبصيرة حتى اكتملت اللوحة داخل قلبي فوقع التغيير الداخلي في أعماق نفسي وانعكس على سلوكي بعد ذلك..