قبل ان يتشكل حزب العدالة والتنمية المغربي، مرت الكتلة البشرية المكونة لعموده الفقري بتجارب تنظيمية وفكرية متنوعة . فبعد فشل النزعة الانقلابية لجمعية الشبيبة الاسلامية ، خضعت الحركة لفترة كمون و اعادة تشكيل تمثلت في الجماعة الاسلامية ، ثم بدأت في الانفتاح المجتمعي بشعارات جديدة تجسدت فيما سمي آنداك بمشروع "التغيير الحضاري" . وكانت في الواقع مجرد صدى لموجة عامة رافقت حالة المراجعة التي عرفتها الحركات الاسلامية في باقي البلدان ، اذ بدأت تبحث عن خطاب يؤسس لمشروعية جديدة تمسح ما علق بها من طابع صدامي سياسي و عقائدي ، وتمكنها من التصالح النسبي مع مجتمعاتها و دولها . فوجدت هذه الرغبة بغيتها في كتابات مالك بن نبي و جودت السعيد وتنظيرات الترابي والغنوشي ، وكانت مجلة الامة الصادرة في قطر عنوانا لهذه الموجة الجديدة التي تروم اخراج الحركات الاسلامية من حالة الانسداد الذي تورطت فيه عقب الصدام الذي اخد اشكالا مختلفة حسب الدول . لم يكن خطاب التغيير الحضاري يكتفي بإقرار مبادئ العمل الحركي الجديد المتمثلة في العلنية و السلمية والشرعية والتدرج والتصالح مع الدول والمجتمعات ، بل يذهب ابعد من ذلك في تشخيص جديد للأزمة يتجاوز اختزالها في الجوانب السياسية والعقدية ،ليرجعها الى العوامل الحضارية العميقة والمركبة . وهذا ما كان يفترض الخروج بالعمل من مأزق الصراع على السلطة ،الى العمل المجتمعي المفتوح بدءا بالتغيير الثقافي والفكري وصولا الى النهضة الشاملة ، وكان ذلك يفترض التأسيس النظري والمعرفي لمقومات هذا النهوض الحضاري والمفضي الى انتاج بدائل أصيلة على كل المستويات ، ومن ثم يتقلص العمل السياسي تلقائيا ليأخد حجمه الطبيعي باعتباره لن يكون سوى انعكاسا تدريجيا للتغيير في المستويات الاخرى . مثلما كان يفترض هذا التوجه الخروج من الطائفية التنظيمية الى التشارك المجتمعي ، ومن الخطاب الايديولوجي الى التأسيس المعرفي ، ومن العمل الفردي الى التخصص المؤسساتي. انقضت مرحلة هذا الخطاب سريعا بسبب انتفاء الذرائع التي كانت تدفع اليه ، فبعد ان حصلت الحركة على قدر من الشرعية والاعتراف الحذر من طرف السلطات ، بدأت مرحلة الاحتواء التدريجي سواء بالادماج السياسي الجزئي أو بتوظيف النخبة الدينية في مؤسسات الدولة مثل المجالس العلمية ومهام الوعظ والارشاد . وكان من نتائج ذلك، الانحسار التدريجي لكل خطابات المرحلة السابقة وخصوصا منها شعارات البديل الاسلامي (الادب الاسلامي – الفن الاسلامي- الاقتصاد الاسلامي – اسلامية المعرفة………) .كما انسحبت نخبة من مثقفي الحركة الذين واكبوا هذا المد ليخلو المجال للقادة التنظيميين والسياسيين . بعد أن بدأ العمل السياسي يحتل مساحات متزايدة من الاهتمام ، ويتستقطب مزيدا من الاعضاء ، كان الجواب الوحيد لذلك هو ما سمي بالفصل بين الشأن الدعوي والسياسي ،وهذا ما يبين اعادة اختزال المشروع في الوظيفتين التقليديتين للحركات الاسلامية ، وان الخطاب الفكري لمرحلة ما كان مجرد طارئ تم تجاوزه . ومع استمرارالتوسع في المجال السياسي ظهرت بعض الاصوات التي تنادي بتسخير السياسة لقضايا الدعوة مثل المرحوم فريد الأنصاري الذي كان يرى بأن الاولوية هي الاهتمام بالقضايا الاخلاقية العامة و اشكالات الهوية في العمل السياسي (الفجور السياسي) . ولكن مآلات الأمور لا تسير وفق النوايا و الرغبات ، بل تتحكم فيها طبيعة الاشياء و بنيتها التكوينية الكامنة مهما رفع من شعارات . اذ يتبين بالتدريج ان الحركات الاسلامية بطبيعتها حركات سياسية بالأساس ، تعبر عن تطلعات فئات اجتماعية تنتمي الى عمق المجتمع المحافظ ولكنها بدات تتلمس طريقها الى موقع الطبقات الوسطى بفعل التمدرس و المهن الوظيفية ، و تحمل معها مطالب فئات عريضة اخرى تشعر بالاحباط من فشل الدولة الحديثة بعد الاستقلال و تدمج داخل التدافع السياسي و الصراع الاجتماعي مطالب ثقافية و هوياتية تعكس انتمائها الاجتماعي باعتبار أن الصراع مع النخبة الحاكمة هو ايضا صراع مع اختياراث ثقافية و رؤية مجتمعية متحالفة مع مراكز الهيمنة الاقتصادية الدولية . نخلص من هذا السرد الموجز الى ان الحركات الاسلامية قد أصبحت بالفعل ما كانت عليه بالقوة ، أي انها اخذت شكلها المناسب في أحزاب سياسية تعبر عن مطالب ثقافية واجتماعية ، واذا أفلحت في فهم طبيعتها فستنجح في تحديد الارضية الفكرية والنظرية لوظائفها ووسائلها ، وإلا فستبقى رهينة لمقولاتها التقليدية التي قد تنفع حشد النفوس وضم الاتباع ،ولكنها ستعجز تحقيق قدر من الوضوح مع الذات يمكن من معرفة آفاق الفعل وحدوده ، ويسمح بالمراجعة والتصحيح المستمرين وتقويم الفعل على ضوء الغايات والامكانيات . كما ستتحول المرجعيات و الافكار الى مجرد ايديولوجيا للتبرير و اوهام للطمأنة ، في حين سيكون المرجع الفعلي للسلوك هو التكيف مع إكراهات الواقع والتلون حسب الاوضاع والاحوال ، والاستجابة السلبية للتحديات من أجل تحقيق بعض المكاسب ن وأحيانا من اجل مجرد الحفاظ على البقاء . وهذا قد يناسب سلوك الكائن الطبيعي في تكيفه مع وسط العيش ولكنه لا يناسب الفعل الانساني القائم على الوعي والارادة ، خصوصا اذا كان يرفع شعار الاصلاح والتغيير . تنص أطروحة المؤتمر الوطني السادس على مايلي :" يستمد حزبنا أصوله الفكرية وأسس مشروعه المجتمعي من المرجعية الاسلامية للدولة والمجتمع المغربيين ومن الرصيد الحضاري للمغرب وقيمه الثقافية الغنية متعددة الروافد والتي انصهرت في إطار حركة تاريخية وحضارية خلاقة كونت معالم الشخصية المغربية وسماتها المتعددة". وإذا كانت من ملاحظة أولى على هذه الفقرة فهي أنها تصلح ان تكون تعريفا للهوية الثقافية للمجتمع المغربي أكثرمن كونها تحديدا للمذهبية السياسية لحزب معين ،و التي يفترض ان تميزه كاختيار سياسي ضمن التعددية الحزبية. وقد نتج عن الشعور بضبابية هذا التعريف مشكلات حاولت فقرات اخرى تلافيه، ولكن بنوع من التسويغ الذي يكشف عن قصور في الابداع النظري والقدرة على الانتقال من المرجعية الجامعة الى الاجتهاد الخاص . تعترف الأطروحة أن "الاسلام أسمى الثوابت المشكلة للهوية الوطنية …." ثم تستمر في ترديد المقولات العامة التي تحفل بها أدبيات الصحوة الاسلامية مثل الوسطية والاعتدال والجمع بين الثوابت والمتغيرات وضرورة التجديد ومواكبة العصر، ولكنها لم تصغ ولو فكرة واحدة تخرج من هذه العموميات الى مقاربة خصوصيتها الثقافية والاجتماعية أو توجه تجربتها السياسية . وعندما تقترب من علاقة هذه المرجعية العامة بالمجال السياسي تبدأ في وضع تحديدات وشروط اتقاء لما يمكن ان ينتج عن احتكار المرجعية الجامعة من سوء فهم لدى الاطراف الاخرى . فتعرف الحزب بأنه مدني ذومرجعية اسلامية وتحاول التمييز بين دور السياسي و الفقيه وبين مجال الفتوى ومجال التشريع و تنص على نسبية الاجتهادات في مجال السياسة ، وتلمح الى ضرورة القبول بالمرجعيات المنافسة "في اطار الدستور" ،ثم تؤكد أن الشأن الديني خاص بوظيفة امارة المؤمنين وأن العلاقة بين الدين والسياسة ليست فصلا ولا وصلا تامين وأن الشريعة أعم من القانون ثم تختم بالاشارة الى ضرورة حماية حرية الاعتقاد الديني . يتبين مما سبق أن تبني الحزب لمرجعية الاسلام دون اجتهاد فكري يستنبط اختيارا مذهبيا و أرضية نظرية خاصة من هذه المرجعية التي تشترك فيها الامة كلها اوقعه في كل محاولات التسويغ التي تلت الفقرة الاولى والتي تعبر عن مخاوف وهواجس ورسائل للطمأنة وردا على تهم الاحتكار وابتغاء التفوق الجماهيري بادعاء الامتياز الديني وخرق شروط المنافسة السياسية ، أكثر مما تعد مجهودا فكريا لتأسيس اختيارات سياسية ،ولو ان التصور السياسي للحزب كان عبارة مجهود فكري خاص لسهل تقديمه باعتباره اختيارا فكريا في اطار التنوع لذي يتسع فيه الاسلام للجميع ،دون الحاجة الى كل تلك التبريرات المضطربة. ولم تقتصر هذه العلاقة الملتبسة بين المرجعية والممارسة في مستوى التنصيص الأولي فقط وانما ستعود في فقرات لاحقة وكانما تريد ان تلتف على القيود التي وضعتها في البداية ،تقول الاطروحة :"والتأكيد على أن مجال اشتغال الحزب هو المجال السياسي وتدبير الشأن العام لا يعني عدم اهتمام الحزب بقضايا المرجعية الاسلامية ، فالتجارب السياسية …..تؤكد عودة قضايا المرجعية الدينية وقضايا الهوية الاخلاقية الى ساحة العمل السياسي " ثم تطمئن من جديد الى أن هذا الاهتمام يجب أن يكون بأدوات السياسة والتشريع وفي اطار ديمقراطي. وشعورا من واضعي الورقة بما يمثله اعلان التفرد بالدفاع عن الهوية من مخاطر ، أشارت فقرة اخرى الى ان كون المرجعية جامعة للدولة والمجتمع يقتضي من الحزب تحديد تموقعه السياسي على أساس النضال الديمقراطي الذي يجد فيه قواسم مشتركة مع الآخرين . واذا كانت الاعمال التحضيرية مرجعا عند فقهاء القانون في فهم النصوص التشريعية فلا بأس أن نورد فقرة كانت ضمن مشروع الاطروحة ثم حذفت ، تقول :" ان تفريط الحزب في التأكيد على تعزيز الارتباط بالمرجعية الاسلامية من شأنه أن يفقده احدى المقومات الاساسية الضامنة لتميز أعضائه ، ومن خلال تميزه في التأكيد على المرجعية والدفاع عن قضايا الهوية يستجيب في ذلك لتطلعات فئة عريضة من المواطنين تتعامل معه على هذا الأساس " ، وأخطر ما في هذه الفقرة المحذوفة هو أنها تحول المرجعية الى مصدر للمشروعية السياسية و خزانا للأصوات الانتخابية . وقد أكدت أطروحة المؤتمر السابع على نفس المقتضيات فيما يخص المرجعية الفكرية ، وأضافت اليها فقرة حول ما سمي بالمشروع المجتمعي للحزب ، تركز في مجمله على كيفية التعامل مع المبادئ الدولية لحقوق الانسان ومضامين الاتفاقيات و قضايا الحريات الفردية وعلاقتها مع الخصوصيات الثقافية …. نخلص مما سبق الى أن الحزب لم يستطع بعد الخروج من مرحلة الخطابات العامة وأدبيات الصحوة التي تتحدث عن ضرورا ت التجديد ، ولذلك بقي محتميا بانتمائه العام غير قادر على تاسيس أرضية فكرية اجتهادية توجه عمله السياسي . واذا كان هذا الامر مقبولا في مراحل النشاة و البحث عن الشرعية فلم يعد سائغا بعد تولي مسؤوليات الشان العام . لقد اصيبت الحركات الاسلامية بعجز فكري مزمن جعلها تنشغل بالتجريب اللامتناهي للواقع دون اي موجه نظري ، وعندما تشتد الازمات التي تستوجب اجوبة فكرية ، يتم اللجوء الى حقيبة الحلول التراثية و الاسقاطات الجزافية ، فبعد قصة صلح الحديبية و قصة عزل عمر بن الخطاب لخالد بن الوليد ، هاهو احد المسؤولين في الحزب يلجأ الى حديث مرتبط بسياق الفتنة الكبرى " ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي والماشي فيها خير من الساعي،من تشرف لها تستشرفه فمن وجد منها ملجأ أو معاذا فليعد به " ، ولجا آخر الى حديث عن دور الحسن بن علي الذي سيصلح بين فئتين متقاتلتين من المسلمين ….. إن الحزب مطالب بأن يغادر لحظة التاسيس و يجيب عن أسئلة الغايات والوسائل ويقوم بتشخيص قدراته وامكاناته ، وحاجات الواقع و ممكناته ،وهذا لن يتم في غياب ابسط المقاربات العلمية ،وبالتغاضي عن المجهودات المتوفرة في العلوم الاجتماعية ،ولم يعد مقبولا أن تبقى الوثائق التوجيهية مجرد نصوص بلاغية مليئة بالزخارف اللفظية تنتهي مهمتها بانتهاء المؤتمرات ، ويعود الجميع الى الانخراط في التفاصيل اليومية ،وعندما يحدث الخلاف يتم حسمه بالخطاب الوعظي أو العضلات التنظيمية. وبذلك تتحول الافكار من اطار موجه للممارسة الى مجرد خطاب للتبرير ،و لتبيان تجليات هذه الازمة الفكرية في الممارسة السياسية سنفرد مقالة لاحقة بحول الله .