يستمر الجدال الدائرفي المغرب حول اللغة العربية وما يتصل بعلاقاتها مع اللغات الأخرى سواء الأجنبية منها أو المحلية وخصوصا الأمازيغية ليظهر مع هذا الجدال في الحقل المغربي العام من يدافع عن العربية انطلاقا من معطيات واقعية، ومن يتحامل عليها ويهاجمها ويتهمها بالقصور والعجز عن مواكبة العصر، بل والدعوة إلى تشجيع اللغات الأجنبية واللغة العامية على حساب اللغة العربية الفصحى. ويبدوأنالإشكال ليس كما يعتقد للوهلة الأولى أنهجدال علمي حول إمكانية مواكبة اللغة العربية للعصر التكنولوجي وكفى، بل إنالإشكال أعمق من ذلك بكثير. إن قضية اللغة العربية وعلاقاتها بباقي اللغات في المغرب لها امتدادات عميقة تتصل بالهوية الوطنية والايدولوجيا والسياسة والاقتصاد والتركيبة الاجتماعية وغيرها من المجالات التي تتصل باللغة عموما. ويمكن القول إن مشكلة اللغة العربية ترتبط في العمق بالسياسة العامة المفتقرة إلى الوضوح والجرأة والتخطيط والتدبير والإرادة السياسية للنهضة باللغة العربية وهذا ما استغله البعض ممن يمثل نفسه ويعتقد أنه يمثل المغاربة ليتهجم على اللغة العربية. فعلى مستوى الهوية فان المغرب ومنذ اثني عشر قرنا ونيف وهو دولة قائمة على الإسلام الذي اعتنقه المغاربة الأمازيغ عن طواعية ودون إكراه، وذلك بعد أن قاوموه في البداية اعتقادا منهم أن من جاء به غزاة مثل الروم والبيزنطيين. ومنذوضحت الصورة لهم وتصحح اعتقادهم؛ أصبح الإسلام العنصر المؤثر والحاسم في تكوين الإنسان المغربي وصياغة شخصيته، كما شكل وعيه وزاوية إدراكه للكون والوجود. واللغة العربية جزء هام في تشكيل هذه الشخصية المغربية وطرق تفكيرها، وهذا يرتبط بكون اللغة العربية لغة القرآن والسنة ولغة التعبد وبالتالي اللغة المؤهلة لفهم الإسلام فهما عميقا. ولعل هذه الخاصة المميزة للغة العربية هي ما جعلت الأمازيغ يقبلون عليها ويتعلمونها دون تمدرس في المدرسة الرسمية ونكاد لا نجد في المغرب أمازيغيا من أجدادنا لايتحدث اللسان العربي سواء كان متعلما أو لم يدخل المدرسة قط؛ فحتى المناطق التي لم يكتب لأمازيغييها التعلم فإنهم يتحدثون العربية بالاحتكاك مع من يتكلمها دون إحساس كما يدعي البعض اليوم بتهميش أو عنصرية أو عداء بين لغة وأخرى، بل إنالأمر تجاوز ذلك إلى الزواج وبناء الأسربينالعرب و الأمازيغ(لسانا) كما حدث مع أعلى هرم في دولة الأدارسة المولى إدريس عندما تأسست المملكة. أما على المستوى الأيديولوجي، فيبدو أن نخبة "مغربية" علمانية أو بالأحرى لا هوية لها ترى في كل ما يرتبط باللغة العربية وفي كل ما يربط الإنسان المغربي بالإسلام وبأصالته أمر يجب عرقلته والوقوف في وجهه ولو تعلق الأمربأحد مكونات الهوية الوطنية وهو اللسان العربي الذي هو في كل الأحوال ليس محصورا في كونه لغة القرآن فحسب، بل لأن اللغة العربية لغة تواصل تحمل حضارة عريقة وقيما أصيلة تبلورت في اطار الثقافة الإسلامية فضلا عن أنها شكلت هوية المغاربة وطرق تفكيرهم. ونعتقد أنهذه النخبة تتبع أساليب ممنهجة وتعمل "بوعي" وبإصرار وترصد بهدف الوقوف في وجه اللغة العربية، لذلك لايفوت هؤلاء فرصة إلا واتهموا اللغة العربية بالقصور والعجز عن مواكبة التقدم العلمي والتكنولوجي والاقتصادي، ونكاية باللغة الفصحى تجد هؤلاء يشجعون العامية شفاهة في برامج تلفزيةوإذاعية، وكتابة في مجلاتهم وجرائدهم ويدافعون عنها لتحل محل الفصحى. وعلى مستوى التركيبة الاجتماعية تلتقي النخبة العلمانية مع فئة اجتماعية كانت ضحية تهميش اللغة العربية في أسلاك التدريس، فوجدت نفسها مفروضا عليها دراسة الطب والاقتصاد وكل التخصصات العلمية باللغة الفرنسية بل حتى بعض التخصصات في العلوم الإنسانية كعلم النفس وعلم الاجتماع الفلسفة. وهؤلاء رغم غياب الجانب الايدولوجي عندهم حينما يدافعون عن اللغة الأجنبية فإنهم،ولما سبق ذكره، لايستطيعون التحدث باللغة العربية بل لا يتصورون - جهلا منهم - أنهبإمكان هذه اللغة أن تكون لغة الطب والاقتصاد والتجارة وغيرها، بل أكثر من ذلك أصبحت اللغة الفرنسية عند هؤلاء جزءا من السلوك الاجتماعي وتعبيرا عن "ثقافة راقية" مرتبطة بمستوى معيشي يصنف أصحابه ضمن الفئات الغنية. يتمظهر ذلك في الأحياء الراقية بالمدن والتي ينظر قاطنوها بازدراء لمن لا يتواصل بالفرنسية. والحال أن ذلك الاتهام الموجه للغة العربية المتعلق بالقصور والعجز بعيد كل البعد عن الموضوعية والعلم والواقع ويكفي أن نستدل في هذا السياق بما حققته سوريا على مستوى التدريس باللغة العربية بفضل السياسة اللغوية السليمة،إذ إن العلوم تدرس باللغة العربية الفصحى بمفاهيمها ومصطلحاتها. أما على المستوى السياسي فيمكن أن نتحدث عن غياب إرادة سياسية حقيقية للارتقاء باللغة العربية وإعطائها مكانتها المستحقة حتى تكون رائدة في مجال العلم والتكنولوجيا والاقتصاد. فحتى الإجراءات الفوقية التي حاولت حكومتا اليوسفي وعباس الفاسي اتخاذها عبر القوانين التي تروم جعل اللغة العربية لغة المراسلات الإدارية لم تجد طريقها للتطبيق بسب غياب هذه الإرادة السياسة كما أن مشروع أكاديمية محمد السادس للغة العربية لازال يراوح مكانه ولم يسلك بعد الطريق. هذا إذا سلمنا انه بهذه الإجراءات يمكن أن ننهض باللغة العربية لكن الأمرأعمق من ذلك . إن الارتقاء باللغة العربية لا يمكن أن يتحقق بقرار فرضها أو إنشاء أكاديمية خاصة بها فحسب، بل يجب أن يتجاوز ذلك إلى رؤية استراتجيه تعطي البحث العلمي ما يستحقه باللغة العربية حتى تكون لغة إنتاجوإبداع في العلوم الحقة والإنسانية. ونرى أن هذا السبيل هو الكفيل للإرتقاء باللغة العربية إلى مصاف اللغات الأكثر تداولا خصوصا وأن جميع الشروط متوفرة من حيث عدد الناطقين بها وتوفر سوق عربية واسعة لتسويق الإنتاجوالإبداع في مرحلة أولى ثم تعميمها عبر تعليمها وتعلمها لغير الناطقين بها سواء من اجل اقتناء المنتوج أو الاطلاع على الحضارة الإسلامية فضلا عن كونها لغة الوحي والتعبد. وبالعودة إلى الجدال المحتدم حول اللغة العربية وعلاقتها باللغة الأمازيغية واللغات الأجنبية،فان النظرة الضيقة التي ينظر بها البعض إلى اللغات تجعله يتحدث عن لغة باعتبارها عدوا للأخرى بل ويذهب البعض أكثر من ذلك عندما يروج خطابا يذكي النعرات القبلية والعنصرية والعرقية عبر تصنيف المغاربة إلى عرب و أمازيغ ويصور العرب مستعمرين!في حين أن الواقع أبعد عن ذلك بكثير. فعلى المستوى الشعبي لا نلمس مثل هذه العداوة بين اللغتين بل إن الامازيغ – كما سبقت الإشارة – يقبلون على العربية والعرب يتزوجون من الامازيغ والعكس صحيح. ثم إن هؤلاء الذين يتحدثون بهذا التقسيم العرقيالذي تنبعث منه رائحة الميز و الفتنة، ليس لهم حجة علمية دقيقة يمكن الاعتماد عليها في تقسيم المغاربة إلىأمازيغ وعرب وكل ما يستند إليه هؤلاء هو أن من يتكلم اللسان الأمازيغي فهو من أصل أمازيغي والقاعدة نفسها تنطبق على من يتكلم اللسان العربي! وبناء عليه فان تحديد الأصل استنادا إلى العرق غير وارد وغير ممكن وبالتالي يصبح التقسيم مبني على اللسان، ونحن نعلم كم من قبائل أمازيغية عرقا عربية لسانا وكم من قبائل عربية عرقا أمازيغية لسانا. ونؤكد مرة أخرى أن إشكالية العلاقة بين اللغات في المغرب تعود في جوهرها إلى انعدام سياسة لغوية دقيقة ومنظمة لطريقة ومراحل تعليم وتعلم اللغات، لذلك نرى أنالأمر يتطلب وضع استراتجية وطنية شاملة تأخذ بعين الاعتبار ضرورة الارتقاء باللغة العربية وجعلها لغة العلم عبر الترجمة في افق الانتاج العلمي والتكنولوجي، وبالموازاة مع ذلك لابد من الاهتمام باللغة الأمازيغية وتدبير طريقة تدريسها بحيث تبدأ في الجامعات والمعاهد لتكوين أطر قادرة على تدريسها في المراحل الأولية وفق عملية إقراء علمية. ثم تدبير الحاجة الملحة إلى تعلم اللغات الأجنبية وإنشاء معاهد للترجمة كفيلة بجعلنا على دراية بالتطورات التكنولوجية والعلمية. أخيرا لا بد من الإشارة إلى أن نجاح مثل هذه السياسات التدبيرية لا يمكن أن يتحقق إلا إذا أخذت المصلحة الوطنية بعين الاعتبار،بل أن تكون هي الهدف الأول والأخير عند الفاعلين الرئيسيين بشتى تلاوينهم بعيدا على التصورات الضيقة والأيديولوجيات المقيتة.