بمجرد ما يدور الحديث حول موعد انتخابي جديد تستعد له البلاد، إلا وانتشر الكلام حول مجموعة من المواضيع المتعلقة بالعزوف ونسبة المشاركة الضئيلة، التي تعكس بشكل أو بآخر طبيعة الممارسة السياسية وتجاوبها مع تطلعات وطموحات المجتمع، وغالبا ما يربط هذا العزوف بفئة الشباب باعتبارها تشكل نسبة كبيرة من بنية المجتمع (أي مايقارب 65%)، ولو أننا لا نتفق مع مفهوم العزوف، باعتباره حكما مسبقاً يمكن أن يطلق على عواهنه ازاء مختلف الظواهر التي تخص الشباب "كالعزوف عن الزواج مثلاً" فالواقع يقدم معطيات مخالفة تماما تتعلق بنظرة الشباب للممارسة السياسية، صحيح أن نسبة التصويت تبقى ضعيفة جداً، لكن هل يعني هذا أن الشباب غير مهتم بالسياسة؟ في الواقع لا، فما يتبناه هؤلاء هو موقف خفي ازاء الممارسة السياسية يتجلى في اعتزال أي نشاط يحمل صبغة سياسية، نظراً لما أصبحت تعنيه كلمة "سياسة" في مخيلتهم، كرمز للكذب والخداع والتدليس والوعود الزائفة، بالاضافة الى اقترانها بأصحاب المال والعلاقات المشبوهة، ان هذه الأمور العالقة في الذهن، لا تفتح شهية الشباب الى الاقبال على المشاركة السياسية، الشيء الذي يجعلها حكراً على أشخاص كبار في السن بغض النظر، عن محاولات التشبيب التي نهجتها مجموعة الأحزاب في السنين الأخيرة، وتخفيض سن الترشيح الى 18 سنة، فالمشهد السياسي لا يزال يحتفظ بنفس الوجوه القديمة، لكن هل وقفنا عند تجارب بعض الشباب المحزب؟ هل هم فعلا فاعلون داخل أحزابهم، أم الأمر لا يعدو أن يكون سوى رضوخ لموجة التشبيب كما هو الحال مع رفع حصص النساء داخل الأحزاب؟ مسألة أخرى توضح تلك الصورة النمطية عن السياسة والسياسي في المجتمع، وهي طبعاً نتاج لممارسات قديمة بدأت تتلاشى شيئاً فشيئاً، فشباب اليوم داخل المدينة لم يعد همهم من السياسة: تنفيد وعود من قبيل اصلاح الطرقات وأعمدة الانارة... كما لم يعد الشغل الشاغل لشباب البادية: كلام عن تعبيد الطرقات والماء الصالح للشرب... لقد اتسعت لائحة المطالب الغير مصرح بها، وتجاوزت اهتمامات الشباب وطموحاتهم ما يمكن أن تدلي به الأحزاب داخل برامجها، التي لازالت تردد نفس أسطوانة محاربة الفساد، ولم تواكب الرهانات الجديدة للشباب، وهذا الشرخ بالأساس يعود الى اعتزال مجموعة من الأحزاب لأدوارها في التنشئة والتربية، وصارت أبعد ما يكون عن واقع هذه الفئة التي تذرف الى عوالم افتراضية لتعبر عن نفسها، وتسخر من الواقع السياسي بصنع "الترولات" وفيديوهات الكرتون التي تتناول شخصيات السياسة بطرق ساخرة، تبين جلياً أن مستوى الوعي الذي وصلت له هذه الفئة تجاوز بكثير ما تعبر عنه الأحزاب السياسية في ممارساتها، فالسخرية هنا لن تنبع سوى من ذكاء فطن ازاء سلوك أو ممارسة هي في نظر هذا الذكاء تكتسي صبغة القوة لأنها تصدر عن أناس في منصب اتخاذ القرار، لكنها في الوقت نفسه ممارسة تسخر من هذا الذكاء، وكأننا أمام عملية فعل ساخر ورد فعل أكثر سخرية، ان الشباب وفق هذا المنطق ليس عازفا، انهم يتبنى موقفاً صارماً، مادام الوضع غير مشجع بتاتاً ومادامت الأحزاب على كثرتها لم تغير من استراتيجياتها لجلب الناخبين، فكيف سيرد رجل السياسة، حين يسائله أحد الشباب على هذا النحو، هل لأصوت على الحزب الذي يقنعني علي أن أطلع على ما يفوق 30برنامجاً؟ ! ان الأمر محبط ولن يؤدي بنا سوى الى ثنائية السخرية التي طرحناها، مادام شباب اليوم يعلمون أن لديهم سبلهم الخاصة في الضغط واسماع الرأي ولو كانت علاقتهم بالمحطات السياسية علاقة يصر الكثيرون على توصيفها بالعزوف، الا أن المشاركة السياسية لا يمكن تضييق مجالها في المشاركة في الانتخابات واختيار المنتخبين، بل تشمل بصفة عامة الاهتمام بالشأن العام ومواكبة المشاكل والمعيقات التي يعاني منها المجتمع..