كلما استجد مستجد في الحقل السياسي، إلا ونجد له من المسببات والمسوغات ونقحمها بنوع من البرغماتية، التي تخدم الفاعل المتضرر، أو الفاعل المستفيد، فغداة الحراك العربي الذي أينع أواخر سنة 2010، كان حديث الاستثناء المغربي يطفو على السطح، وكانت عبارة التغيير في ظل الاستقرار والاستمرار عنوانا لمسلسل الحراك المغربي الذي تجسد في حركة عشرين فبراير. اليوم وبعد مرور خمسة أشهر على اقتراع السابع من أكتوبر، وانسداد أفق تشكيل الحكومة، نتيجة استدعاء أدوات قديمة في الحقل السياسي المغربي، والرغبة في الحد من امتداد حزب العدالة والتنمية ذو المشروعية الانتخابية، وخفض وهج مصباحه داخل المجتمع، اليوم وبعد مرور هذه الأشهر وعسر مخاض ولادة الحكومة، بدأنا نقرأ تبريرات واهية وجوفاء من قبيل التمرين الديمقراطي والدفاع عن مصداقية المؤسسات التمثيلية وعن الإرادة الشعبية... هذه التبريرات والمسوغات التي يراد لها تبرير طول أمد تشكيل الحكومة، وشلل الدولة والمؤسسات، لا تمتلك الجرأة، في كشف المستور، وإزالة الغبش على حقيقة الأمور، ولا تريد الاعتراف بأن التاريخ يعيد نفسه. تعتبر الأدبيات المركسيات، أن التاريخ عندما يعيد نفسه، يكون في وهلة أولى على شكل تراجيديا، وفي وهلة ثانية على شكل مهزلة، ولعل التاريخ اليوم الذي يعيد نفسه على مستوى تعثر مسلسل تشكيل الحكومة، وجهل الحلقة الأخيرة من هذا المسلسل قد يؤدي بينا إلى نوع من التراجيدية والمهزلة. لفهم مسألة التعثر، يجدر بنا القيام بنوع من السياحة والرجوع قليلا إلى الماضي، وتصفح بعض المؤلفات التي توثق لنا التاريخ السياسي المغربي ما بعد الاستقلال، يطالعنا الأستاذ عبد اللطيف أكنوش في حديثه عن واقع المؤسسة والشرعية في النظام السياسي المغربي على مشارف القرن الواحد والعشرين، "أن إنشاء حزب ما من أجل لعب دور الأغلبية البرلمانية والحكومية، أمر كثير الحدوث عند مطلع كل استحقاق انتخابي، وتوكل مهمة تسييره إلى رجل قوي من الحكومة أو من المقربين للملك، أو من الزبناء السياسيين في حالة الأحزاب المواكبة أو ما يسمى بأحزاب الرصيد الباقي، ويتعلق الأمر عادة بوزير الداخلية أو وزير العدل يوظف طاقاته من أجل جمع مجموعة من الأتباع لا هدف لهم سوى طلب القربى من موقع صنع القرار السياسي. ويذكرنا الأستاذ أكنوش هنا بإسم المرحوم أحمد رضا أكديرة الذي كان وزيرا للفلاحة والذي أسس جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية في20 مارس 1963" وها نحن اليوم نشاهد وزير الفلاحة والصيد البحري في حكومة ما بعد الربيع العربي، يلعب نفس الدور الذي لعبه المرحوم أحمد رضا أكديرة، ويقود بين عشية وضحاها حزب الحمامة الزرقاء، دون رصيد نضالي وحزبي يذكر وبدون شرعية انتخابية. ولفهم هذا الدور جيدا، نرجع لصاحب مؤلف أمير المؤمنين، الملكية والنخبة السياسية المغربية، لجون واتربوري، حيث يورد ما يلي، تنص إحدى الأفكار الأساسية عند أكديرة على أن المغرب لا يمكنه أن يحافظ على تماسكه إلا إذا وجدت فيه عدة مجموعات سياسية تتنافس حول السلطة الحكومية، وإذا ما هيمن حزب ما، سوف يقضي على الاستقرار السياسي من وجهتين، قبل كل شيء إذا غابت ضرورة وجود حكم، لن تعود هناك حاجة الى الملكية، وعلى العكس فقد أصبحت الملكية بفعل دورها التاريخي والديني، رمزا للوحدة الوطنية، وموطنا للإجماع الشعبي، بالإضافة إلى ذلك فإن أي حزب لا يمثل إلا نفسه أو بعض العناصر في مجتمع شديد التعقيد، ولا يمكنه أن يحافظ على هيمنته إلا إذا استعمل القوة، مما سيقود بصفة حتمية إلى شكل جديد من السيبة. من أجل ذلك لا يخفي إكديرة أن جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية لم تكن سوى وسيلة لتجنب انتصار حزب الاستقلال في الانتخابات. إذا كان حزب الفديك أنشئ للحد من فوز وامتداد حزب الاستقلال في ستينيات القرن الماضي، فقد أنشىء حزب الأصالة والمعاصرة للحد من امتداد حزب العدالة والتنمية، لكنه في الانتخابات التشريعية الأخيرة وما بعد سابع من أكتوبر، بدا أن دوره انتهى- كما إنتهى وتعثر التجمع في الثمانينيات وإنشاء الاتحاد الدستوري- والدفع بعزيز أخنوش لما يحظى به من رضا داخل القصر وبين رجال الأعمال، الى لعب نفس الدور. إن تعثر مسار تشكيل الحكومة وما يعتمل اليوم في الحقل السياسي لا يعدو إلا أن يكون تكتيكا من قبل المخزن، وتقديم دروسا للحزب العدالة والتنمية، وأن صناديق الاقتراع لا تكفي للممارسة السلطة الحكومية، بل الأمور أبعد من ذلك، ولكل شمعة توهجها لكنها تخبو مع أول زفرة قوية أو رياح عاتية.