في الأمم التي تحترم شعوبها وتتطلع إلى مستقبل زاهر لتنشئة أجيالها وتربيتهم وتعليمهم، يقومون بوضع رؤى إستراتيجية بناء على تشخيص وتخطيط ، تتعاقب عليها الحكومات وتنفذ وتفعل جميع بنود هذه الرؤى وتدابيرها المختلفة عبر مراحل بكل دقة وإتقان، ومن مرحلة إلى أخرى تقيم وتقوم هذا التفعيل والتنزيل دون تغيير أو تحوير من طرف الحكومات المتعاقبة باعتبار أن المسألة هي وطنية أشرف عليها ثلة من المفكرين والمنظرين والبيداغوجيين والباحثين والأساتذة الجامعيين وليس متعلقة بفترة زمنية لتعاقب الحكومات أو بنزوة وزير أو رؤية وزارة ، فاليابان والدول الاسكندنافية، والدول المتقدمة عامة أو التي لا تمتلك موارد طبيعية، استثمرت في المورد البشري لتنميته، وخططت لذلك عن طريق تعليم يتماشى ومرجعية الشعب وهويته وثقافته فنجحت وهي الآن تسير بالقافلة إلى الأمام معتمدة على لغتها الأم ومنفتحة على لغات العالم فلا هي متقوقعة ولا هي ناكرة للغتها الأصل لغة التعليم والتكوين، لكن ما يقع في بلدنا الحبيب يجعلنا نتساءل أين نحن من هؤلاء، كل مرة يخرج وزير أو مسؤول ويغير بجرة قلم برامج و مواد فيحذف تلك ويضيف أخرى، دون إتباع المنهاج العلمي التشخيصي ولا العودة إلى الفئة المستهدفة والتي ستصبح فيما بعد الضحية، فما ذنب طالب درس جل المواد العلمية باللغة العربية من مرحلة الابتدائي إلى مرحلة الباكلوريا، ليصطدم جامعيا فيما بعد باللغة الفرنسية ويكابد ويكافح لفهمها قبل فهم الظواهر الطبيعية والفيزيائية أو المعادلات الرياضية والإحصائية، ليجد نفسه أخيرا في سلك الدكتوراه أمام عقبة التمكن من اللغة الانجليزية فعوض البحث في مجال تخصصه وجب عليه إتقان هاته اللغة قبل الغور في دهاليز البحث العلمي ومع ما يتطلب ذلك من إمكانيات مادية، علما أن جلهم من أبناء الفئات الفقيرة والمهمشة والتي تريد أن تصنع موقع قدم لها في هذه الحياة المعيشية قبل الحياة العلمية، فمنهم من لا يملك حتى ثمن تذكرة الحافلة أو دراهم يؤدي بها ثمن قوت يومه، تجدهم يكترون مكدسين في بيوت اقل ما يقال عنها أنها تصلح لكل شيء إلا لحياة طالب علم، فحتى في الماضي القريب كان أجدادونا يوفرون كل شيء لطلاب العلم وحفظة القرآن من المبيت إلى المأكل والملبس والمشرب فلا يعود الطالب إلا وقد ترقى درجات العلوم وحفظ الذكر الحكيم، فماذا أعدت وزارة التعليم العالي لإصلاح الجامعة ؟ وهل التمكن من اللغات أكثر استعجالا من توفير الأساتذة وبناء القاعات والمدرجات وتغيير طرائق التدريس؟ وهل الإصلاح يكون شمولي أم ترقيعي؟ وهل بناء المعارف واكتساب المهارات اللغوية يكون هرمي أم العكس؟ إن قبل إنجاح أي إصلاح شمولي لا بد من توفير البيئة والعدة والعتاد لذلك، لكن تقزيم الإصلاح في المسألة اللغوية يعتبر مجرد در الرماد في العيون وصناعة عدسات مفرقة تعطي صور ضبابية في اللانهاية، لا نستطيع بعدها الرؤية بوضوح بل ستكون كبوتها أكثر من كبوات نظيرتها الفرنسية، فيصبح السقوط الحر أسهل والارتطام اشد وأقوى وبجاذبية أكثر،و يؤدي إلى تشتيت للجهود وهدر للطاقات، فمتى كانت اللغة الانجليزية عائق أمام الطلبة الباحثين في سلك الدكتوراه، علما أن كلهم يستطيعون فهم المقالات العلمية الانكلوسكسونية للغتها التقنية الخاصة، ويستطيعون أن ينشروا مقالاتهم بهذه اللغة دون ضرورة التمكن من لغة شكسبير وقواعدها النحوية وبحورها الجمالية والإبداعية، وحتى ولو افترضنا جدلا بضرورة إتقانها، أفما كان على الوزارة أن تفكر في وسيلة عملية لتلقينها لهؤلاء الطلبة بوضعها ضمن تكوينات الدكتوراه الإلزامية والمجانية وتوفير أساتذة لذلك، أو التعاقد مع المراكز الثقافية الانجليزية والمعاهد والمراكز اللغوية المتخصصة لتلقينها لكل الطلبة الباحثين عوض إجبارهم على تحمل تكاليف مادية وزمنية إضافية ترهق عاتقهم وتجبرهم على التضحية بساعات كثيرة هم في حاجة إليها في البحث العلمي النظري أو السريري، وكم سيتبقى لهم من المدة الزمنية لكي يبحرون في أدغال العلوم وتشعباتها بعدما تم التعاقد مع فئة كبيرة منهم لإعطاء دروس جامعية، أو حراسة امتحانات أسلاك الإجازة الأساسية دون مراعاة أهم ركائز البحث العلمي المتمثل في تأمين زمنه, وهل المدة التي حددتها المراسلة الوزارية كافية للمقبلين على مناقشة أطروحاتهم السنة المقبلة للتمكن من إتقان هذه اللغة، علما أن هذه المرحلة تكون من أصعب مراحل انجاز الدكتوراه لما فيها من تعب الرقانة والتجميع, إن البناء يكون من الأساس وليس في نهاية الطور فيكون التصور واضح بعدسات مجمعة وليست مفرقة، فالمرآة العاكسة لا تمكن من حقل بصري واسع بقدر ما تؤدي إلى تحجيم الصورة وقلبها، والإصلاح يجب أن يكون شمولي يلامس جميع الجوانب من البنيات التحتية إلى توفير الموارد البشرية ومحاربة الاكتضاض وإصلاح طرائق التدريس وتحديثها وإرجاع القيمة الاعتبارية في المجتمع لحامل شهادة الدكتوراه وتمكينه من الالتحاق بالجامعات عوض إقبار كفاءته بالمؤسسات والإدارات العمومية، وحث وتشجيع الشركات الوطنية والأجنبية على الاستثمار في البحث العلمي والتقني، هو السبيل الوحيد للنجاح وغير ذلك مجرد فرقعة في فنجان,