أثار مقال "إيمان أم اقتناع؟!" الذي نشر في الأيام القليلة الماضية حول موضوع سبيل وماهية الاعتقاد الغيبي بين الإيمان والتصديق والتسليم من جهة، والبرهنة والاستدلال والإقناع من جهة أخرى، أثار هذا المقال عددا من التعليقات تبلورت سجالا كلاميا بين فريقين متعارضين يساند كلُّ واحد منهما رؤية معاكسة للآخر حول مدى عقلانية الدين وحقيقة وجوده، مقابل "خرافيته" وبالتالي عدم صحة وجوده.. وبما أني رأيت -في المقال المذكور- صحة وحقيقة وجود الدين كمكون غيبي في حياة الإنسان شرعه موجد الوجود، وأنه إيمان وليس اقتناعا، فإنه لا يجدر بي الالتفات للتعليقات التي كانت في هذا الاتجاه، وإنما سأحاول التعرض بإجمال واقتضاب لتلك التي رأت أن مطلق مبدأ التدين هو خرافة مختلقة مفتعلة موظفة من طرف نفر من الناس لسيادة بقية الشعوب وسياستهم،، وهي في الوقت نفسه حاجة نفسية فردية تعوض خصاصا في الجانب الانفعالي لشخصية الإنسان، وذلك بسبب الجهل والخوف، كما تلبي احتياج الإنسان للشعور بالطمأنينة بعد الموت، لأنه في الواقع لا يتقبل فكرة الفناء.. وأصحاب هذا التوجه العام هم فئات: منهم من ينكر الدين(عامة) عقلا ويكتفي، ومنهم من ينكره لأنه خرافة ويربط به المثالب، ومنهم من يركز على نبذ الإسلام بالذات كونه سبب التخلف في مقابل الحضارة الغربية(مع أنهم يتناسون أنها -مبدئيا- متدينة) العقلانية المتقدمة النموذجية المثالية... لذا سأحاول التعرض لمجمل هذه الفئات. غير أني لا أصبو أن أحول الموضوع إلى مراجعات في علم العقائد أو علم الكلام أو علم الأصول أو المنطق... وإنما يكفيني ذكر عموميات وإيراد ملاحظات عامة ظاهرة تفي بالغرض وتؤدي المطلوب وتوصل المرغوب، مبتدئا برصد تناقضات ظاهرة في دفوعات القوم، لا أدري والله كيف خانهم بناؤهم كي تتسلل إلى صلب الاستدلال.. تهافتَ أصحابنا -الذين لم يمتلكوا الشجاعة الأدبية للإفصاح عن هويتهم الحقيقية، متنكرين وراء ألقاب سريالية- تهافتوا في تعليقاتهم وتسابقوا وتنافسوا في إثبات صدق دعواهم معتمدين على اجترار ما ورد في "الكتب الصفراء" في نسختها الغربية من جدليات هلامية وسفسطة بيزنطية، ساقطين في معرض تركيبهم لأطروحاتهم في تناقضات لا يمكن أن تفسرها إلا فطرة التدين من جهة، وعناد الجاحد من جهة أخرى، نورد بعضها بأخطائها المطبعية -بكل أمانة- مطردة: {الم يدع ابراهيم ربه ان يريه كيف يحيي الموتى ، فلما ساله ربه ان كان مومنا قال له بلى ولكن ليطمئن قلبي، الم يطلب موسى مشاهدة ربه ؟هدا يعني ان التصديق لا يكتمل الا بالاطمئنان كما سماه ابراهيم، و الاطمئنان لا يتحقق الا بالعقل او بالتجربة العلمية، وهي المشاهدة في حالة ابراهيم وموسى}، {ادا كنا نحل مشاكل الميتافيزيقا والوجود بالتصديق القلبي، وندبر امر معيشتنا بالغريزة والطبع، فما هو دور العقل ولمادا خلقه لنا الله؟}، {طبعا للقعل دور في انتاج الحلول العملية ولكن دوره الاساسي هو التفكير الوجودي الميتافيزيقي، حتى القران يحث على التامل في الوجود وليس فقط تدبير العيش}... فكيف يستقيم الاستشهاد بمضامين قرآنية استغاثة لمن يدعي الإلحاد؟؟!!! تناقضات أصدقائنا لا تحصرها النصوص، بل يشملها المنهج أيضا. فبالنسبة إليهم كل فكر إنساني أو علمي هو مقبول ماضيا كان أو مستقبلا، قريبا كان أو بعيدا، لا يحتاج إلى تمحيص ولا عقلانية ما لم يكن ذا خلفية دينية!! مع أن نفس منهج نقل مصادر سقراط وحمو رابي، هو منهج نقل مصادر يوحنا وجابر بن عبد الله: النقل.. فلماذا يتم قبول ما نقل عن أحدهم، ولا يتم ذلك بالنسبة للآخر، مع وجود قوة سند وعضد بتدوين عند هذا الآخر؟؟ يطرح السؤال بهذه الصيغة لأن أصدقاءنا لا يتعرضون لتحريف أصاب مصادر دين معين فأصبح "فاسدا" كليا أو جزئيا.. فهذا موجود أكيدا تماما كما يكون الزيف والتزوير والتحريف قد طال أحداثا تاريخية ونظريات فكرية أو فلسفية، لكنهم ينفون مفهوم الدين من حيث مبدئه!! فلا "يعقل" أن يكون النقض المطلق "للنقل" في حقل معين دون استحضار أية هوامش، والقبول المطلق به في حقل آخر.. بهذا المنطق يصح لأحدهم أن يدعي أنه لم يمر في تاريخ البشر أصلا إنسانا عرف باسم أفلاطون، ولا مدوَّن متعلق بمسمى المدينة الفاضلة، وإن وجد موضوع وذات فليس ملزما أن يَربط علاقة بينهما ما دامت قد نُقلت له... ويكون بصدد هدم تاريخ البشرية أجمعه من القواعد"النقلية".. نعم، لو تعلق ادعاؤهم بدين معين لأمكنت دراسة صحة متونه بأساليب تدقيق المرويات، عبر اعتماد دراسة الأسانيد، وإعمال طرق الجرح والتعديل لغربلة وتمييز الصحيح من المكذوب، كما هو معمول به في مثل هذا المجال.. فعلا، من المعروف أن الدين ليس عقلانيا بالمفهوم الجاف المجرد العام الشامل المطلق للعقلانية، وذلك لأن منهج الاستنباط العقلي يحدده الحقل المعرفي والنسق الابستمولوجي.. غير أنه: - ليس الدين هو الوحيد الغير عقلاني، فالامتناع عن أكل لحم الإنسان، وارتداء لباس في مناخ لا يتطلب حماية أو تكييفا للجسم(لأن اللباس، كما هو الأكل، هو شيء وظيفي يستعمل عند الحاجة فقط)، ومضاجعة المحارم، و المساعدات الاجتماعية... كلها أشياء وتصرفات غير عقلانية بمفهومها الذي ذكر سابقا.. وإنما يجب تدخل عنصر آخر يحدد للعقل مجالا معينا يكون الاستدلال فيه وفق رزنامة محددة تتضمن أوليات ومسلمات واستلزامات منطقية وفق المجال المذكور.. وليس المقصود قبول ما ليس عقلانيا فقط لوجود أمثاله، وإنما التدليل هو على أن العقلاني وغير العقلاني ينظر إليهما في مجال تعريفهما؛ - أليس في الرياضيات(نموذج تمظهر العقلانية في شكلها العلمي) La notion d'admettre, et le raisonnement par récurrence s'appuyant sur l'admission؟؟ إذن، أليس هناك مرحلة أو موقف يستلزم التقبل والتسليم، يبنى عليه بعد ذلك منطق وبرهان؟؟ إن الدين تكاليف والتكليف مرتبط بالإرادة المساءلة، أما الاستدلال فهو مرتبط بقدرات عقلية، وهي غير مضمون توفرها لدى الجميع.. إن البديل عن الخلق والقصد لن يكون سوى الصدفة والعبث، والصدفة تنافي الإرادة، والقاعدة الأولية تقضي بالحصول على نفس النتائج انطلاقا من نفس الأسباب، فما أو من الذي جعل الاختلاف في الكون -ما دام هناك إجماع على أن له بداية- وقد انبثق من سبب واحد في لحظة واحدة؟؟ بل ما هو الباعث الخفي الذي أوقف الميكانيزم العلمي الموحَّد في تكوين وانهطال المطر في جغرافيا طبيعية ممتدة من حيث التضاريس والغطاء النباتي(أقصد ما أو من الذي خلق أو جعل الاختلاف في الضغط الجوي وحرارة الجو... وغيرهما من عوامل التساقط في بيئة واحدة؟) من الذي جعل الكروموسوم الأنثوي للبويضة يلتحم بالكروموسوم الأنثوي أو الذكري للحيوان المنوي، كل هذا مع ثبات وديمومة الوضع التالي: وجود شحنة كهربائية قارة الإشارة في الكروموسوم الذكري للحيوان المنوي(Y)، وشحنة كهربائية بإشارة قارة معاكسة في الكروموسوم الأنثوي(X) لنفس الحيوان المنوي، وشحنة كهربائية مترددة الإشارة في كروموسوم البويضة(X)؟؟ إذا لم تكن الصدفة، فيجب تدخل إرادة لتحديد أي كروموسومي الحيوان المنوي يجب أن يلتحم بكروموسوم البويضة(في الحقيقة تحديد الإشارة المترددة لحظة تقارب كروموسومات الجنسين).. الدين -كما قلت في المقال المعني- مرتبط بالإيمان، وهو ضد الهوى ومنها الأنانية وتأليه العقل وتضخيم الأنا وجنون العظمة و"الشوفينية المفردة".. الدين هو الناظم عندما تعجز المادة، لأن العقلانية تأبى الأخلاق المجانية التي هي منافية للعقل المتسم بالبراكماتية.. إن ماهية عدم وجود خالق عند أصحابنا ما هي في الحقيقة إلا جهل، لأن المعرفة وجود والجهل عدم، ذلك أن الجهل بالشيء هو تمثل عدم وجوده بالفعل، وهذا لا يعني أبدا عدم وجوده بالقوة، وعندما تتحقق المعرفة فإنها لا تفعل غير تحقيق وجود بالفعل بعدما كان موجودا بالقوة.. الغريب أنهم لم يأخذوا من عقلانية الآخر غير عقلانية "اللادينية" والحرية الجنسية.. لا علم لا تقانة لا آداب لا تربية.. فأصبحت المعادلة عندهم بسيطة مختزلة: العقلانية=الإلحاد و الإلحاد فقط!! كل ملحد فهو عقلاني، وكل عقلاني يجب أن يكون ملحدا، وكل متدين فهو خرافي.. عقلانيتهم لها بعد واحد عام شامل مجرد شمولي، يعم جميع حقول المعرفة، وكل مكونات الشخصية، ومطلق حاجات وتطلعات النفس البشرية.. مشكلة أصدقائنا أنه لو قيل لهم أن حقن فأر سيبيري بزئبق أحمر يحيله ديناصورا، لصدقوه دون تردد بحجة أنه العلم!! مع أن كثيرا من هذه البحوث المزعومة لم تخرجنا حتى من الجدلية الأزلية المتعلقة بنفع وضرر البن والشاي!! مصيبة أصحابنا أنهم يتهمون غيرهم بما هو متمكن منهم.. فهم من عطلوا قدراتهم وعقولهم وسردوا ببغائية أقوال غيرهم، ولم يكلفوا أنفسهم الخاملة عناء ذرة تأمل فيما يجترون، ولا قطمير تأليف من نسجهم!! حقيقة إنها موضة التخبط.. إنه اجترار قيء متغير في بعدي الوجود: الزمان والمكان.. تقليد لما كتبه العاطلون المفرَغون وانبهار بما قال عنه [فرانسيس بيكون] أن {القليل من الفلسفة يورث الإلحاد}.. نفث سم زعاف وخبث مؤامرات.. باختصار: القيام بالدور المنوط بجنود إبليس.. عدا عن خزعبلات العاطلين السفسطائية، تعتبر العلوم المادية الحقة الدقيقة مجالا لبروز نوع معتبر من التفكير العلمي، وفي هذا الإطار، ما يكون موقع فطاحلة تلك العلوم سواء من المسلمين أو من الذين أسلموا، أو بالنسبة لغيرهم من أصحاب الديانات الأخرى ما دمنا نتحدث عن مبدأ الدين؟؟ ما موقعهم في سلم ترتيب العقلانية عند أصحابنا؟؟ فقط للاستئناس، على المستوى الكمي، وحدهم عشرات آلاف الملاحدة الموجودين فوق الكوكب اليوم هم العقلانيون العاقلون المتعقلون الموضوعيون المتجردون الواعون المدركون الكنه والجوهر والماهية والمظهر بالمعنى المطلق!! المقاربة هنا تلامس إنكار هؤلاء لمطلق الدين دون ميز ولا صرف ولا عدل، مقابل تدين "كل" سكان الكوكب، مع اختلاف الأديان.. أما مسألة تعدد الأديان وتعارضها فهو لا ينسفها من الأصل، تماما كما لا ينسف اختلاف الروايات حول ظروف وحيثيات ومعطيات غالبية الأحداث التاريخية وقوعَها على أرض الواقع.. يتبع.. دائما بالنسبة للفئة الناكرة للدين لأنه خرافة\لا عقلاني، سبق وأن قلت -في مقال: "إيمان أم اقتناع"- أنه لم يقل "عاقل" من المتدينين أن الدين عقلاني بالمفهوم الجاف العام المجرد المطلق الشامل للعقلانية الذي يستلزم التبرير المادي والغاية القصدية المدرَكة، وذكرت أن الأمر إنما هو إيمان وتصديق لغاية الابتلاء والامتحان، ذلك أنه لا اختبار إرادي في البرهنة العقلية المنطقية المتعلق الإشباع فيها بالقدرة.. ولكن -كما سبقت الإشارة- فمعايير العقلانية بهذا التحديد ليست تنتفي في الدين وحده، وإنما هي غائبة في جوانب عدة من حياة المجموعة البشرية، مع أن الناس يقبلونها، بل ويلتزمون ويلزمون بعضهم بها بواسطة قوانين مسطّرة كقاعدة، أو على الأقل -استثناء- أعراف متواترة تحت مسميات متعددة يحتوي معظمها مبحث الأخلاق الذي هو نفسه -بذات مفهوم العقلانية- غير عقلاني..(الأمثلة التي تم سوقها في الجزء الأول، والتي يلزم القانون -بالنسبة لغالبيتها- احترام وتطبيق والانصياع للأوامر الصادرة بشأنها منعا أو إجبارا، مع أنها "غير عقلانية"!!).. فالعقلانية لها مجموعة تعريف تتحدد ضمنه، بحيث أن إوالياتها تختلف حسب هذه المجموعة.. فآلية إعمالها في مجال العلوم الدقيقة تختلف عنها في مجال الأخلاق مثلا.. أما مجالها في الدين فإن دورها يأتي -بعد مرحلة التصديق- كدراسة من الداخل، من جهة تمحيصا للمتون من حيث تناسقها وانسجام مقتضياتها، ومن جهة أخرى، تحققا من الأسانيد والتواتر.. إن العقلانية بمفهومها المترتب على استدلال العقل انطلاقا مما توصل إليه بصورة تركيبية تراكمية، أساسها مدخلات عبر الحواس، تبقى نسبية في الزمان والمكان: لم تكن رواية أحدهم لقصة طيران إنسان أو زرع قلب غير "خرافة" في عصور مضت.. كما أن تحقيق معادلة إنشتاين يصيّر رحلة "الذي عنده علم من الكتاب" من فلسطين إلى اليمن ذهابا وإيابا "قبل ارتداد الطرف" عقلانية بامتياز عبر تحويل كتلة صغيرة من المادة إلى طاقة.. في كل الأحوال ليس كل غير مدرَك غير موجود.. أما بالنسبة للفئات التي ترفض الدين فقط لكون الإسلام داعي تخلف مقابل ازدهار الغرب، فهذه مغالطة لا تليق بأناس يقدمون أنفسهم قمة في "العقلانية" والتجرد والموضوعية والانسجام في الطرح... ذلك أن هذا الغرب لم يعلن يوما إلحاده أو تبرؤه أو انسلاخه عن دينه، سواء على المستوى القاعدي الشعبي أو الرسمي الممؤسس.. بالنسبة للمازوشيين من هؤلاء، العيب كل العيب هو في الذات، في هذا العنصر العربي المسلم عبر تاريخه الذي لا يذكرون له ومضة، رغم اعتراف مقتصدي الأغيار بدوره كحلقة في مسلسل تراكم الحضارة البشرية كحد أدنى، وصدح أخيار نفس الأغيار بريادة تاريخ هذه الأمة وعلو كعبها في تحقيق العدل والعدالة الداخليين، والإنصاف والاستقرار الخارجيين، ناهيك عن رفع شأن العلوم وتطويرها، وارتفاع مستوى المعيشة وتحضرها، وتجويد العمران، وسمو الأخلاق، ورفعة النفس.. على هؤلاء"العنصريين"الناقمين والحاقدين على الحضارة الإسلامية إجراء مقارنة تاريخية بسيطة في الزمان والمكان والشساعة وطول مدة الحكم... بين هذه الحضارات من حيث الإنجاز الحضاري، ومعامِلات الاستقرار العالمي، وعدد الحروب، وكمّ القتلى، وتحقيق العدالة الاجتماعية والحقوق الفردية والجماعية وحقوق الأقليات، وطفرة التغيير والتقدم المدني والعمراني والعلمي والتقني، والانفتاح الثقافي... ثم القيام بمقارنة أخرى بين شعبنا آنذاك وشعب حضارة الحظيرة الحاضرة.. بل وحتى شعبنا اليوم وهذا الشعب منتَج هذه الحضارة المسخالتي تحمل مقومات اندثارها بين جنبيها، مقارنةٌمن حيث جرائم القتل(هذه المرة داخل نفس المجتمع)، والانتحار، والمافيات والعصابات، والتشريد -بما فيه الوالدين-، والزنا والاغتصاب... ، مع استحضار فارق التعلم والغنى والحقوق في المجتمعيْن الراجح لصالح الآخر بما لا يقارَن، في مقابل العكس في الاتجاهين(الجرائم والامتيازات!!) بالنسبة للشعوب الإسلامية.. ثم النظر إلىتطور وتيرة انتشار الأمراض والمجاعة والفقر... في العالم أيام ريادتهم وسيادتهم وسيطرتهم على العالم.. للمنبهرين بالتقنية والانضباط وثمرات التربية، نقول أن المسألةهنا بالضبط ليست مسألة دينأو حتى شعب، بل هو تدخل هؤلاء "المتحضرين" "المتحررين" وتحكمهم من وراء ستار في كراكيز وطغم فاسدة مستبدة متشبثة بالكراسي، تحكُم بالحديد والنار.. إنه ثمرة تحالف جبهة التحكم والاستكبار والامبريالية الخارجية، مع قوى التسلط والفساد والاستبداد الداخلية.. أما التفوق الظاهر فأمره يتعلق بكدٍ وجِد وفهم وتطبيق لكليات سنن الله في الكون، في إطار عمل مؤسساتي متبنى من طرف نظم سياسية مسؤولة ومساءلة أمام شعوبهامن خلال تعاقد قوامه حاكمية الشعب ومراقبته لحكامه، تم اعتماده(التعاقد)بعد نضال وتضحية آتت أكلها تقدما مدنيا وحقوقيا(وتربويا بالتبعية)، تأتى(التقدم) بعد نضالات سُفكت فيها دماء لونت مياه أنهار أوربا وأصبحت الجثث جسورا،، غير أنهم استحكموا بالأمر -قصد التفرد- وعقدوا شراكات مع الأزلام تمنعنا من التنعم بالحرية واستقلال القرار، فتكفلوا –من أجل ذلك- بحماية أصنامهم.. إن أثر الدين -على الأقل كمكون في مبحث الأخلاق- أول وأكثر ما يظهر في السلوكات الفردية غير المضبوطة أوغير المراقبة، وفي هذا المجال لا تخفى آثار الخواء المتمثلة في الجرائم المشار إليها سابقا، والتي لا تبرر في ظل تنعّم الأفراد وتمتعهم بكافة حقوقهم المدنية الممأسسة.. أقول إذن أن سبب الانحطاط ليس دينا، فبالنسبة للإسلام، على سبيل الذكر، من الشعوب مسلم ومتقدم -على قلتهم-، ومنها غير مسلم ومتخلف -وما أكثرهم-، ثم أن الأمر يزداد جلاء عند ملاحظة تغير سلوك نفس الفرد الحامل لنفس المعتقدات حسب نظام البلد الذي يتواجد فيه!!فالمهاجر المغربي لا يتصرف بنفس الكيفية بين دولة المهجر الديمقراطية التي يقيم فيها، ودولة الفوضى والفساد والاستبداد التي ينتمي إليها، كما أن السائح الألماني لا يتصرف بنفس الانضباط والتحضر اللذين يمارسهما في بلاده أو بلد مشابه وفي الجزائر أو رومانيا.. أفراد الشعب يتبعون القوانين التنظيمية المفعلة دستوريا، ويخضعون لما ينفذ واقعيا.. من جانب آخر، فإن تنزيل النقاش على أرض الواقع، وخاصة السياسي منه، يكون أفيد، وتمحيصه يكون أسهل، وقراءته تكون أوضح، لأنه في الأخير ليس يهم من كثير تنظير غير حياة،،، وعليه فما دام القوم "خرافيون"، اتركوهم وشأنهم.. ستلفظهم الجغرافيا ولن يذكرهم تاريخ.. لماذا التحامل والتآمر والتكالب والعمالة.. إنه {ما تجبُّر القوم علينا إلا خوفا منا} كما قال تميم البرغوثي، سعيا ألا ننهض، لأنهم وأنتم تعرفون أنه لو غفلتم طرفة عين قام المارد، ولو انسل من قمقمه ما لجمه بشر.. إنه قانون مصارعة الشارع: لا تترك خصمك يستعد للنهوض.. قدوة أصحابنا في الصلاح والنزاهة، المتنورون المؤهلون لقيادة العالم، شرفاء الكوكب وملائكة الكون وعلية المجتمع الدولي،، هؤلاء همنفسهم "مؤطرو" مافيات الشعوب في إفريقيا وآسيا واللاتين: اغتناء وتقتيل.. همالوجه الآخر البشع للحضارة في جميع الميادين، مع الانتفاء النظري لأسبابه(البشاعة) المادية باعتبار المستوى التعليمي والثقافي-كما سبق-، ومستوى الدخل الفردي، ومستوى توفر الخدمات الاجتماعية والضمانات القانونية، ومستوى التمتع بالحقوق المدنية والاجتماعية والدستورية!!.. فتمثيل الدولة للشعب تمثيلا حقيقيا وتماهي توجهيْ المجتمع والدولة لدى الغرب يدين حضارتهم حين أول انتكاسة، عكس الدول غير الديمقراطية حيث لا يتحمل الشعب جريرة قيادته التي لم ينتخبها، وكذا لا يمتلك هذا الشعب القدرة ولا الصلاحية للقيام بما يعبر عن هويته أو توجهه الحقيقي.. سقطات "النموذج"لا تخطئها العين، وهي مرسّمة وليست عرضية: من يقوم بالمؤامرات العالمية والنفاق الغوثي والمدني والاجتماعي والسياسي والعسكري... غيره؟ وهل نملك نحن أصلا القدرة على فعل شيء؟؟ وجه آخر: ماذا عن العلماء المغتربين الهاربين أو المتهربين أو المهربين؟ أليست العملية انتقاء ونخبوية وتدليسا واستغلالا ونهبا وسرقة عقول من جهة،، ومن جهة ثانية أليست تقريرا لعنصرية مقيتة متعلقة بعنصر معين(العربي)، وأن الأمر لا يتعدى بروباغندا خارجية(تسرق العقول وتسِم الغير بالغباء) وحجر وتعطيل داخليين(للطاقات والقدرات والكفاءات) في تكاتف ساقط وتعاضدخبيث بين "الداخل" و"الخارج"؟! الأمر لا يعدو إذن أن يستقر حكم وتحكم وقانون القوي!! منظومة قيمية قيادية عالمية أبدعت فتوجت عدلها وحكامتها بإنشاء مؤسسات ل"التحكيم" تتضمن "دولا دائمة العضوية" و"حق الفيتو"!! أغلب احتلالهم وتدخلهم ومؤامراتهم وسفالتهم وخداعهم وألاعيبهم واختلاساتهم وسمومهم نفثوها في إفريقيا وآسيا وأمريكا الوسطى والجنوبية،، لكن لن تفلت دولة "اخرج فيها البلان" ولو كانت أوكرانيا!! أبوهم الروحي وأمهم الحنون وأخوهم الأكبر ومعلمهم الأول: أمريكا، كمثال للدراسة والإسقاط والسحب،،ما هو تاريخها؟ {- لكي تُنشأ أمريكا تمت إبادة أكثر من 27 مليون شخص من الهنود الحمر واحتلت بلادهم؛ - ولكي تُبنى أمريكا تم جلب أكثر من 14 مليون إفريقي واستعبدوا، ومات منهم أكثر من 2 مليون في عرض البحر بسبب الطريقة المهينة في نقلهم؛ - ولكي تَتوسع أمريكا قُتل أكثر من مليون ونصف مكسيكي واستعمرت أرضهم؛ - ولكي تحمي أمريكا نفسها قتل أكثر من 6 مليون إنسان في الحرب العالمية الثانية، بينهم 300 ألف في هيروشيما وناكازاكي اليابانيتين؛ - ولكي تُثبت أمريكا الهيمنة على جيرانها، قتل أكثر من 200 ألف في ترينيداد ونيكاراغوا وكوبا؛ - ولكي تُثبت أمريكا الهيمنة على العالم، قتل أكثر من 2 مليون فيتنامي؛ - ولكي تُؤمن أمريكا مصادرها من الطاقة، قامت أمريكا بقتل أكثر من 2 مليون عراقي؛ .. ومازالت أمريكا تثبت للجميع ديمقراطيتها ومراعاة حقوق الإنسان حول العالم!!..}. [الدكتور فيصل القاسم]. إن مناضلي الفراغ هؤلاء ليسوا سوى مستحثات متحجرة ببغوائية تصر على القيام بدور الشاهد على انقراض ديناصورات العصر الجوراسي، وتقاوم التناسي.. بمنتهى الجبن، تخلوا عن مهمة النخبة الفكرية في قيادة المجتمع للخروج من بوتقة الظلم والاستبداد والفساد المورِّث للفقر والجهل والتخلف، ولم يجدوا بدا من القفز على الحائط القصير المتمثل في النيل من عقائد شعوبهم، لسبب بسيط هو عدم وجود حرس للعقيدة على الأرض، في مقابل وجود حرس السياسة!! هل همّ الأمة الآن وما يؤرق الناس هو وجود الله أو عدمه، أم ما يحقق رفاهيتها والعدل بين أبنائها؟؟!!! مناضلو "البلاستيك"، لا يصدَعون بالحق ولا يصدحون بالصواب، ولا يرفعون الظلم، ولا يتبنون آلام شعوبهم ولا آمال بلدهم ولا تطلعات إخوانهم... مناضلو الفتن والترهات، وتبديد الطاقات و"تهراس الكواري".. مناضلون يزدرون "الكبت" و"الطابو" ويستهزؤون بهما ويستنكرونهما،، غير أنهم لا يكلفون أنفسهم التأمل في شمول المدلول لعموم القوم أم لفئة بعينها، والأهم: ما هو المطلوب وما هي الحكمة؟ أي كيف السبيل لاجتنابهما؟ هل بأن يلبي الشخص نزواته ورغباته، ويفعل كل ما سولت له نفسه، متى شاء، وكيف شاء، وأين شاء، ومع من شاء... دون قيد أو شرط كي لا يكون مكبوتا ولا يمثل تصرفه "طابوها"؟ أم هي ضوابط المجتمع وتواضعاته وتعاقداته الأخلاقية، بل والقانونية؟.. حقيقة، هم لا يستحقون أدنى التفاتة، لانحسار عددهم وتفاهة رؤيتهم.. همهم الشهوات وتأليه التمثل العقلاني، غرضهم خالِف تعرف والسباحة ضد التيار لتحقيق وهْم تميز، مغرضون ليس إلا.. بمقابل أو بدونه، قصدا أو عرضا بتنسيق أو عفويا... عملاء متآمرون هؤلاء على هويتهم وعقيدة شعبهم، مستلبين مغررين منبهرين بكل ما هو آت من الغرب، مازوشيون جالدون ذواتهم، متنكرون كارهون لأصولهم..
خلاصة القول أن الحليم لا يجد ما يقوله لهم إلا: ما أبشع وقاحتكم وتجرؤكم على الله تعالى وأنتم الفقراء إليه العاجزين بين يديه، وما أعظم حلمه عليكم وهو الغني عنكم القادر عليكم!!