أثار توقيع وزير التربية الوطنية السيد رشيد بلمختار على قرار تعميم البكالوريا الدولية الفرنسية بثانويات المملكة جدلا واسعا بين أوساط المهتمين التربويين والسياسيين من أن يكون القرار مدخلا لفرض واقع تعليمي جديد على الأرض ممهدا للإصلاحات الكبرى التي يمكن أن يأتي بها المجلس الأعلى للتعليم في صيغته الجديدة . والحق أنه في وضع مرتبك كهذا الذي يعيشه واقعنا التعليمي لن تفلح بضع قرارات جريئة في إحداث الطفرة التي ينتظرها المجتمع كله لإصلاح حال نظامنا التعليمي .والحال أن الأمر يستوجب علاجا بالصدمة يبعث الروح من جديد في جميع مكونات الجسد التعليمي المتهالك .ولن تكون هذه الصدمة والتي تأخرت كثيرا إلا بإعادة تفكيك المبادئ الأربعة التي حكمت منظومتنا التعليمية منذ الاستقلال وخصوصا مبدأي التعريب والمجانية ، وأولى لبنات الاصلاح المرتقب الحسم في تغيير لغة تدريس الرياضيات والفيزياء والعلوم الطبيعية ابتداء من المستوى السادس للتعليم الابتدائي بما يتماشى مع روح العصر وما يفرضه من لحاق متسارع للتطورات العلمية السريعة والتي لا تترك فرصة للإختيار أو التردد . وهذا سيتيح لأبنائنا في الخمس سنوات الأولى من الابتدائي كسب كفايات علمية باللغة الأم عربية كانت او أمازيغية تسهل اندماجه مع محيطه الاجتماعي، لينتقل بعد ذلك إلى تعلم أوليات المفاهيم العلمية والرياضية بلغة مزدوجة يفرضها العصر وتطوراته بعيدا عن كل تأويل إيديولوجي أو سياساوي ضيق في السنة الاخيرة من التعليم الابتدائي ،ليكون الباب مفتوحا له لاستكمال تلقي تكوينه العلمي في التعليم الاعدادي والثانوي باللغة الفرنسية في أفق تعليم جامعي انجليزي. وعملية كهذه لن تكلف ميزانية الدولة درهما من قبيل إعادة التكوين أو غيره ، فأطرنا التعليمية كلها مؤهلة لمثل هذه النقلة الجذرية على اعتبار أن تكوينها العلمي الجامعي كان باللغة الثانية. نتذكر الآن أول خطاب للملك محمد السادس أمام البرلمان اكتوبر 1999 وفي غمرة إعداد الميثاق الوطني للتربية والتكوين أوصى جلالته الشباب المغربي بأن "لا يستشعر أي عقدة من نظامنا التعليمي الذي نتشرف بكوننا من خريجيه "وكانت إشارة ذكية من جلالته لم تحسن لجنة المرحوم مزيان بلفقيه التقاطها لإحداث نظام تعليمي مزدوج والتخلص من التعريب نهائيا ،ليخرج الميثاق مسالما باهتا لم ينجح في علاج مشاكل التعليم رغم تطعيمه ببرنامج استعجالي وميزانية ضخمة ضاعت في مشاريع متداخلة ومتشابكة ومحدودة المردودية الإستراتيجية ، وسيكون حوَلا سياسيا كبيرا إذا لم تسارع الجهات المختصة إلى اعداد الجيل القادم وفق رؤية بعدية لمغرب الخمسينية المقبلة. وأولى لبنات البناء تدريس العلوم بالفرنسية ، نعم اللغة الفرنسية اليوم لم تعد لغة العلوم ، والأوْلى التفكير في التدريس بالانجليزية كما هو حاصل في أغلب بلدان العالم من الهند شرقا حتى البرازيل غربا. لكن جرعة بهذا الحجم تحتاج لتدبير متوسط المدى وموارد بشرية كافية ومعادلات سياسية لم يحن وقتها بعد في ظل تحرك رمال الصحراء .ومالا يدرك كله لا يترك جله ،وأولى هذه التدابير البدء في تدريس الانجليزية مبكرا جدا ،والتفكير جديا في تعميم اعتماد الانجليزية في الشعب العلمية بالتعليم العالي تدريجيا . علما أن التعليم الخصوصي اكتسب مناعته وسمعته وسط الاباء من كل الطبقات الاجتماعية بسبب تركيزه على تعليم اللغتين الفرنسية والانجليزية وفق طرائق بيداغوجية منتجة ،متجاوزا على الأرض مناقرات السياسيين ومثقفي الهوية عربية كانت أو فرنكفونية أو أمازيغية. ورسول الاسلام كان ينظر بمنظار الحق حينما قال ص : أطلبوا العلم ولو في الصين متجاوزا لغة الفارسية واللاتينية في روما المجاورة . لقد رشحت اليوم من خلال مذكرات عدد كبير من السياسيين المغاربة بعيد الاستقلال أن الملك الراحل الحسن الثاني ومستشاره القوي أنذاك أحمد رضا اكديرة عارضا بشدة تعريب المناهج العلمية سنة 1962 رغم تقديم مشاريع كاملة من طرف وزراء استقلاليين انذاك تحملوا وزارة التربية الوطنية ، مجنبين المغرب ويلات الانصات للشرق المزعج وقومجته التي لم تجلب إلا الدمار والفرقة والاحتلال للعرب ،ومن يتأمل الواقع التعليمي العراقي أو السوري أو المصري أو الليبي اليوم يدرك ماذا جنت السكرة الاسبتدادية في تدجين الشعوب وتسقيف آمالها وأحلامها ، وحينما أقر الوزير عزالدين العراقي ومن معه قانون تعريب المواد العلمية بداية الثمانينات في خطوة أفرزتها طبيعة المرحلة السياسية وتجاذباتها عاش المغرب لحظة انتقال تعليمي مضطرب في المناهج والاعداد والتكوين وتأليف الكتب وسيرورة التعلمات وجودة المخرجات ،وتكرست قطيعة معرفية وثقافية بين التعليمين الثانوي والجامعي لا زالت مستمرة الى اليوم ،أدى ثمنها أجيال تعليمية عاشت انفصاما تكوينيا لم يكرس إلا هيمنة طبقات سياسية واقتصادية بعينها وتثبيت ايديولوجيتها يمينا ويسارا . ولا يمكن بأي حال من الأحوال الابقاء على هذا الوضع التعليمي العلمي الغير السوي والذي يكلف المغرب عقوله المستقبلية وسمعته بين الأمم .
ترى هل سيتمكن الوزير الجديد السيد رشيد بلمختار من اصلاح ما أفسده العراقي زمن الثمانينات ؟ ماذا سيكون رأي المجلس الأعلى للتعليم في هاته النقطة ؟ وهل سيتحلى بالجرأة الكافية لإخراج المنظومة التعليمية إلى آفاق عالمية رحبة في عالم تجاذبي شديد يجعل المغرب قادرا على المنافسة بعد خمسين سنة ، أم أنه سيبقى رهينة التوافقات السياسية والنقابية والشعبوية الضيقة وفلكلوريات الدارجة التي لن تجعلنا نبرح المربع الأول؟