كيف لي أن أجتاز مباراة جميع موادها باللغة الفرنسية، بينما تعلمتها أنا باللغة العربية، وبعض المصطلحات فقط هي التي تعرفت عليها بالفرنسية؟.. كيف لي أن أتابع التحصيل الدراسي لمواد وشعب لا تستعمل اللغة العربية التي تعلمت بها طيلة مساري الدراسي الابتدائي والثانوي الإعدادي والتأهيلي؟... لم يختبرني أحد في مجال تخصصي العلمي بقدر ما تم اختباري في مدى استيعابي وقدرتي على التواصل بلغات لم تكن من قبل أداة لتحصيلنا العلمي والثقافي... بحرقة ومرارة ألقى (سعيد)، طالب، بهذه التساؤلات التي ظلت طيلة العطلة الصيفية والموسم الدراسي الجاري حبيسة صدره المحتقن، تشتعل في دواخله كلما سئل عن مسار دراسته الجامعية ومدى تجاوبه مع برامجها التعليمية... لم يكن سعيد، الشاب القروي والطالب الذي حصل الموسم الدراسي الماضي على شهادة الباكلوريا بميزة حسن وعاش بالمناسبة أسبوعا من الاحتفالات وسط أقاربه وجيرانه بقريته الصغيرة، يدرك أنه بعد أسبوع الفرح ذاك سيكون عليه مواجهة إعصار المباريات والانتقاءات، بما لديه من خزان معرفي تنقصه أهم وأبرز أداة للتواصل وهي اللغات (الفرنسية، الإنجليزية،...)، وأن اللغة الأم التي مكنته من معارف علمية وثقافية أراد لها أصحابها أن تنتهي صلاحيتها بمجرد توصله ب«دبلوم الباكلوريا»، وأن عليه التسلح بلغاتِ تواصلٍ أخرى للتمكن من دخول المنافسة من أجل ولوج المعاهد والكليات وشغل مقعد داخل مدرجاتها بدون حرج أو نقص. ليس سعيد فقط من وقف عاجزا أمام علو جسر العبور بين التعليم المدرسي والجامعي، فالآلاف من الطلبة المغاربة أجبروا على التخلي عن مخططاتهم وبرامجهم التي أعدوا لها العدة العلمية والتقنية اللازمة، وخرجوا من المنافسة من أجل ولوج معاهد عاشوا يحلمون ويثابرون من أجل الالتحاق بها، بسبب ضعف تواصلهم وإلمامهم باللغة الفرنسية ونظيرتها الإنجليزية ولو بحد أدنى، في الوقت الذي تمكنت فيه فئات طلابية أخرى دون مستواهم العلمي من ولوج تلك المعاهد ومتابعة دراستها وتكوينها معتمدة على لغتي التواصل المطلوبتين. وانتقد عدد من آباء وأولياء أمور التلاميذ عملية التعريب (الناقصة) التي تمت، والتي زادت من معاناة أبنائهم وبناتهم وأحدثت ازدواجية في التعليم، مطالبين بتعريب التعليم الجامعي، أو العودة إلى تدريس المواد العلمية والتقنية داخل الإعداديات والثانويات باللغة الفرنسية. وذكر بعضهم ممن يعاني الفقر والعوز أن بعض المعاهد الكبرى وكليات الطب والبيطرة التي كان يلجها أبناء وبنات الفقراء إلى جانب باقي شرائح المجتمع، أصبح دخولها مطمحا بعيد المنال، بسبب عدم إلمام أبنائهم وبناتهم باللغة الفرنسية، وعدم قدرتهم على صرف مبالغ مالية في الدروس الخصوصية لتعليمهم. طموحات تنكسر داخل الجامعة أصبح عدم إتقان اللغة الفرنسية بالأساس إحدى أبرز العقبات التي تحول دون نجاح أو انتقاء مجموعة من الطلبة الحاصلين على شهادة الباكلوريا في الامتحانات الكتابية أو الشفهية التي يتقدمون لاجتيازها من أجل الحصول على مقاعد داخل كليات ومعاهد المملكة التي يقر دستورها بأن اللغة العربية هي اللغة الرسمية للبلاد، كما تسبب عدم الإلمام بقواعدها ومفرداتها الأساسية في توقف مشوار دراسة البعض الآخر ممن ولوجوا تلك المعاهد والكليات، وأدى إلى ارتفاع نسبة الهدر المدرسي. تعددت الأسباب التي أدت إلى تدني مستوى المتابعين لدراستهم بالتعليم الثانوي التأهيلي في مواد اللغات الحية (العربية، الفرنسية، الإنجليزية، الإسبانية،...)، واختلفت باختلاف الباحثين والمعنيين والمتتبعين لوضع التعليم ببلادنا. فبينما تشير بعض الأصابع إلى أن التدني يرجع إلى طرق تدريسها أو عدد حصصها الدراسية أو نوعية برامجها، ترى جهات أخرى أن السبب يعود بالأساس إلى غياب التحفيز والاستقطاب الفعلي للتلاميذ والتلميذات من أجل دراسة اللغات الحية، التي تحتاج إلى جهود فردية وجماعية تساهم في ترسيخها في أذهان وعقول المتلقنين. إشكالية الترجمة وغياب المدرسين انتبهت الوزارة الوصية إلى العقبة التي أحدثتها إشكالية التعريب في التعليم المدرسي واستمرار التعليم الجامعي باللغة الفرنسية، وبعد أن عجز مسؤولوها -طيلة عقود مضت- عن تعريب المواد العلمية والتقنية داخل الجامعات والمعاهد، ولو أنها لم تقم بأية إحصائيات أو استطلاعات للرأي لتعطي إحصائيات دقيقة أو تقريبية لعدد ضحايا مشروع التعريب. فعمدت إلى تكوين مدرسين لمادة الترجمة، مهمتهم تلقين التلاميذ بالثانوي التأهيلي المصطلحات والمواضيع العلمية والتقنية باللغة الفرنسية، وخصصت ساعتين أسبوعيا لكل مستوى دراسي علمي. لكن العملية لم تكن ذات نتيجة فعالة، بسبب عشوائية برامجها وتهميشها من طرف التلاميذ وبسبب قلة المدرسين لمادة الترجمة، مما جعل الوزارة تكلف مدرسي المواد العلمية بإضافة ساعة أسبوعيا خاصة بالترجمة، إضافة إلى ضعف الترجمة العلمية. اللغات عقدة التلاميذ والآباء كثيرا ما طرح آباء وأولياء أمور التلاميذ استفسارات عديدة حول سبب عدم تمكن أبنائهم وبناتهم من استيعاب مواد اللغات الفرنسية والإنجليزية والإسبانية، وكيف أنهم يقضون سنوات طوالا يدرسون تلك المواد دون أن يستطيعوا نطق ولو جملة صحيحة بها، فاللغة الفرنسية تدرس كمادة انطلاقا من الفصل الثالث ابتدائي، بينما تدرس اللغة الإنجليزية أو اللغة الإسبانية ابتداء من مرحلة الإعدادي، مما يجعل الحاصل على شهادة الباكلوريا يكون قد استفاد من دراسة الفرنسية لمدة عشرة مواسم دراسية، والإنجليزية أو الإسبانية لمدة تفوق الأربع سنوات. هذا عن التعليم العمومي، أما التعليم الخصوصي فإن تلاميذه يدرسون اللغات حتى قبل دخول مستوى الأول ابتدائي. سنوات عديدة يقضيها التلاميذ في دراسة اللغات بالمؤسسات الابتدائية والثانوية، والنتيجة أننا نحصل على حاملين لشهادة الباكلوريا، بمختلف شعبها، لا يفقهون شيئا في تلك اللغات التي يجدونها المسلك الوحيد لإتمام دراستهم الجامعية. وأمام هذه النتائج، ارتفعت بعض الأصوات مجددا بالمطالبة بإلغاء التعريب بصفة نهائية وإعادة التعليم، في مراحله المختلفة، باللغة الأجنبية كما كان عليه الحال في عهد الاستعمار وبعده بسنوات خلت. فقد فرضت الحماية الفرنسية اللغة الفرنسية داخل المؤسسات التعليمية والإدارات العمومية والخاصة بالمغرب، وأقرتها بعد الاستقلال، ومنحتها الشرعية وإمكانية الاستمرار في ميدان التعليم والتربية وتكوين الأطر. واستطاعت فرنسا، بفضل تلاميذها الذين كونتهم وعملائها الذين احتضنتهم، من اختراق نظم التربية والتعليم، وانتهاج سياسة تعليمية هدفها محو اللغة العربية وكل ما تجره وراءها من عقيدة إسلامية وتراث وتقاليد مغربية أصيلة. ولم تتمكن كل الحكومات التي تعاقبت على تسيير البلاد المستقلة من إحداث تعليم وطني إسلامي مستقل، رغم ما سبق أن أعلن عنه من المبادئ الأربعة خلال أول لقاء عقدته اللجنة الملكية لإصلاح التعليم بتاريخ 28/9/1997م، وهي (التعريب، التعميم، التوحيد، المغْرَبة). ليظل العقل الفرنسي راسخا في أذهان المغاربة يسيطر على أدمغتهم التي تعتبره القائد والقدوة في كل مجالات الحداثة. إقامات لشيوخ وأميين أسئلة كثيرة طرحت دون أن تجد من يبحث في عمقها ويجد لها أجوبة لتمكين الأجيال المتعاقبة من أدوات التواصل (اللغات)... أسئلة من قبيل: هل تلك اللغات معقدة إلى درجة أن أبناءنا وبناتنا لا يستطيعون استيعابها رغم سنوات طوال من التعلم، أم إن السبب يعود إلى أمور أخرى... هل يجب إعادة النظر في البرامج التعليمية التي تعددت واختلفت دون نتيجة، أم في طريقة التدريس... أم إن المغاربة الجدد لم تعد لهم القدرة على تعلم اللغات؟... أسئلة كثيرة حيرت الآباء الذين يرون كيف أن مطرودين من الدراسة ومعهم شيوخ وأميون حظوا بإقامات مؤقتة ببلدان أوربية وأمريكية عادوا وألسنتهم توظف الكلمات وتصوغ الجمل بلغات تلك البلدان، بينما أبناؤنا وبناتنا بالمغرب عجزوا عن تعلم تلك اللغات رغم أنهم درسوها لعدة سنوات. واعتبر هؤلاء الآباء، في تصريحات متفرقة ل«المساء»، أن المشكلة في عمقها هي نتاج لعشوائية تدريس تلك اللغات، وأن البرامج التدريسية لا تهتم بالتركيز على تلقين التلاميذ المبادئ الأولية لكل لغة والتأكد من أنهم قد استوعبوها كاملة، وجعلهم يوظفونها بحيث يجرون بها حوارات ومحادثات داخل الفصل، قبل الدخول في عمق البرامج الأخرى. ولعل المطلع على البرامج المعتمدة في تدريس اللغات، حسب بعض المختصين، يلاحظ أن عملية الانتقال إلى عمق تلك اللغات تتم بسرعة، مما يجعل التلاميذ غير قادرين على مسايرة المقررات، وبالتالي قطع التيار التعليمي بينهم وبين المدرس المرغم على احترام البرامج المقررة. كما اعتبروا أن عملية تعريب المواد المدرّسة في سلكي التعليم الابتدائي والثانوي (الطبيعيات، الرياضيات، الفيزياء والكيمياء،...) زادت من تهميش اللغة الفرنسية، فالتلاميذ كانوا يدعمون مكتسباتهم في اللغة الفرنسية ويصقلونها عند حضورهم الحصص الدراسية للمواد الأخرى التي كانت (مفرنسة)، وكانوا يجدونها مجالات خصبة للتعود على الحديث باللغة الفرنسية، كما أنهم كانوا مضطرين إلى المطالعة أكثر من أجل استيعاب شروحات مدرسي المواد (المفرنسة). كما اعتبروا أن عدم تمكن التلاميذ من اللغات يكون كذلك بسبب العبث وعدم الاهتمام الذي أصبح سلوكا درج عليه معظم التلاميذ، وهذا الوضع يرخي ظلاله على كل المواد المدرسة، فنادرا ما تجد تلميذا مواظبا ونجيبا يتابع باهتمام شروحات المدرسين ويحرر ملخصات الدروس والتمارين في الدفاتر المخصصة لها، ليراجعها بمنزله. إضافة إلى أن معظم التلاميذ يرمون بما تلقوه من دروس في قعر النسيان السحيق بمجرد إجراء الاختبار فيها، ولا يكلفون أنفسهم عناء تخزين المعلومات للاستعانة بها مستقبلا في استيعاب دروس أخرى.