يذهب تقريرٌ رئيسيٌ جديدٌ من تقارير الأممالمتحدة إلى أن النظام المالي في معظم البلدان المتقدمة والنامية لا يوجه الائتمانات توجيهاً كافياً نحو الاستثمار الإنتاجي في القطاع الحقيقي. ويقول التقرير إن من الضروري إجراء إصلاحات على المستويين الوطني والعالمي لا من أجل تعزيز الاستقرار المالي والاقتصادي فحسب، بل أيضاً لضمان توجيه ما يكفي من تمويل الاستثمار نحو الأنشطة الإنتاجية ومساعدة البلدان النامية على مواجهة التحديات الإنمائية الجديدة التي نشأت في بيئة ما بعد الأزمة. وتلاحظ الدراسة أن دعم الاستثمار الإنتاجي يتطلب توجيه قدر أكبر من التمويل الطويل الأجل نحو الصناعة والزراعة والخدمات والبنية التحتية. وتقول الدراسة إن الائتمانات - سواء حالياً أو خلال السنوات التي أفضت إلى اندلاع الأزمة المالية في عام 2008 - ظلت في معظم الأحيان توجّه نحو الاستهلاك وليس الاستثمار، ونحو "فقاعات" الأصول في قطاعات مثل قطاع العقارات وليس نحو الابتكار والإنتاج. ويذهب التقرير إلى أن إعادة صياغة استراتيجيات التنمية ليست مسألة تتعلق بمجرد إعادة تخصيص الموارد المتوفرة، بل إنها تتطلب أيضاً، في معظم الاقتصادات النامية والانتقالية، التعجيل بوتيرة مراكمة رأس المال. ومن ثمّ فستعين على هذه البلدان أن تنظم وتدير نظمها المالية بحيث تتمكّن من توفير قدر كافٍ من التمويل المستقر الطويل الأجل لأغراض توسيع القدرات الإنتاجية وتكييف الإنتاج مع أنماط الطلب الجديدة. وينبغي أن تأخذ هذه التحولات في الاعتبار إعطاء دور أكبر للأسواق المحلية والإقليمية. ويوصي التقرير الاقتصادات النامية والانتقالية، في سعيها لحفز الاستثمار الإنتاجي، بأن تعتمد نهجاً حذراً وانتقائياً إزاء التدفقات الرأسمالية الأجنبية. فهذه التدفقات قد تكون ضروريةً لتمويل الواردات من المدخلات الإنتاجية والسلع الرأسمالية، ولكنها كثيراً ما أفضت إلى عدم استقرار اقتصادي كلي، وارتفاع في قيمة العملات، وتكرر حدوث حالات الانتعاش الذي يعقبه كساد في القطاع المالي. وينصح تقرير التجارة والتنمية لعام 2013 هذه البلدان بأن تعتمد اعتماداً متزايداً على مصادر التمويل المحلية، وأهمها الأرباح غير الموزعة والائتمانات المصرفية. ولذلك فإن السياسات الاقتصادية ينبغي أن تهدف إلى تشجيع الاستثمار المحلي للأرباح وإلى التأثير في سلوك النظام المصرفي بحيث يخصص الائتمانات على نحو أكثر اتساقاً لصالح الأنشطة الاقتصادية الإنتاجية التي تفضي إلى خلق فرص العمل وتحقيق نمو اقتصادي مستدام وتحد من القابلية للتأثر بالتحولات الاقتصادية العالمية. ويقول التقرير إنه على مدى سنوات عديدة، كانت التدفقات الرأسمالية الأجنبية، بكل أنواعها تقريباً، إلى البلدان النامية تُعتَبر مفيدة، إذ كان يُفتَرض أنها تفضي تلقائياً إلى زيادة معدّلات الاستثمار. وفي بعض الحالات، استُخدمت التدفقات الرأسمالية الواردة لتمويل الاستثمار بمعدلات أعلى إما بصورة مباشرة، كما في حالة الاستثمارات التأسيسية، أو بصورة غير مباشرة عن طريق تقديم القروض التي تُستَخدم فعلياً لتمويل الواردات من السلع الرأسمالية. إلا أنه خلال العقود الثلاثة الأخيرة، أخذ الاعتماد المفرط على التدفقات الرأسمالية الخاصة الواردة يفضي إلى زيادة حدة عدم الاستقرار المالي والاقتصادي الكلي وإلى إعاقة، بدلاً من دعم، النمو الطويل الأجل. والواقع أن نسبةً كبيرةً من التدفقات الرأسمالية الأجنبية الواردة قد استُخدِمت لتمويل الاستهلاك أو الاستثمارات المالية التي تتسم بطابع المضاربة والتي أحدثت "فقاعات" في أسعار الأصول وأدت إلى ارتفاع في قيمة العملات وزادت من هشاشة النظم المالية المحلية. ويقول التقرير إن ما أعقب ذلك من نضوب للتدفقات الرأسمالية الواردة أو انقلاب في اتجاه تدفقها يمارس ضغطاً على موازيين مدفوعات البلدان وعلى تمويل القطاعين العام والخاص. ويذهب تقرير التجارة والتنمية لعام 2013 إلى أن ما هو مهم بالنسبة للبلدان النامية ليس مجرد الحصول على التمويل الخارجي، بل التمتع بدرجة أكبر من التحكم بطريقة استخدام هذا التمويل. وقد يتعيّن على هذه البلدان أن تطبّق تدابير تحوط علي المستوي الكلي مثل انتهاج سياسات عملية على صعيد أسعار الصرف وإدارة حساب رأس المال من أجل الحد من إمكانية التعرض للصدمات المالية الخارجية والمساعدة في منع حدوث حالات انتعاش يعقبه كساد في مجال الإقراض. وبالإضافة إلى ذلك، يقول التقرير إنه يلزم إحداث تغيير أشمل في عمل النظام المالي من أجل ضمان تخصيص التمويل، المحلي والخارجي، للمؤسسات والمستثمرين الذين يستخدمون هذا التمويل استخداماً منتجاً. ويرى تقرير التجارة والتنمية لعام 2013 أن من الضروري تحسين تنظيم عمل النظام المالي بهدف تعزيز الاستقرار النقدي والمالي على السواء وتوجيه القطاع المالي نحو خدمة الاقتصاد الحقيقي. وهذا يتطلب عملية إعادة هيكلة للنظام المالي، وبخاصة القطاع المصرفي. ويمكن لعملية إعادة الهيكلة هذه أن تشمل إعطاء دور أكبر وأكثر فعالية للمصارف المركزية والمصارف الإنمائية والمؤسسات الائتمانية المتخصصة. ويقول التقرير إن السياسة النقدية وحدها لا تكفي لحفز الاستثمار، وهو ما تجلّى في عمليات خلق النقود على نطاق واسع في البلدان المتقدمة دون حدوث زيادات ذات شأن في التمويل للأغراض الإنتاجية. ويشير التقرير إلى أن هناك عدة بلدان أخذت تستحدث آليات ائتمانية لمعالجة مشكلة ما يُتصور أنه آلية نقدية متعطلة ؛ غير أن هذه الآليات كثيراً ما تُستَحدث كتدابير استثنائية للتعامل مع الظروف الحالية الاستثنائية. ويرى التقرير أن ثمة حججاً قويةً تدعم التدخل الحكومي من أجل التأثير الإيجابي في تخصيص الائتمانات في الأوقات العادية، خصوصاً في البلدان النامية. وبصفة خاصة، ينبغي للمصارف المركزية أن توسع نطاق ولايتها وأن تؤدي، من خلال انتهاج سياسة ائتمانية، دوراً أنشط بكثير في حفز الاستثمار. كما ينبغي للمصارف المركزية أن تدعم عملية تحويل آجال الاستحقاق في النظام المصرفي وأن تشجع، أو تُجبر، المصارف على تقديم المزيد من القروض لتمويل الاستثمار الإنتاجي. ويلاحظ التقرير أن هذه ليست فكرةً جديدةً كلياً: فهناك الكثير من الأمثلة المستقاة من التاريخ ومن تجارب البلدان المتقدمة والنامية فيما يتعلق بتدخل المصارف المركزية في توجيه الائتمانات، بما في ذلك التمويل المباشر للشركات غير المالية، وإعادة التمويل الانتقائية للقروض التجارية بأسعار تفضيلية، وإعفاء أنواع معينة من الإقراض المصرفي من الحدود الكمية القصوى للائتمانات. ويقول التقرير إن السياسة الائتمانية يمكن أن تُنفذ جزئياً أيضاً من قبل المؤسسات العامة وشبه العامة والتعاونيات المتخصصة في تمويل الاستثمار الإنتاجي - في قطاع الزراعة مثلاً، أو لصالح المؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحجم - بأسعار تفضيلية. وينبغي أيضاً لمصارف التنمية الوطنية أن تقدم القروض والخدمات المالية التي لا تستطيع المؤسسات المالية الخاصة أن تقدمها أو التي تُعرِضُ هذه المؤسسات عن تقديمها. وهذه القروض والخدمات قد تشمل القروض المقدمة إلى المقترضين الذين يُتصور أن إقراضهم محفوفٌ بمخاطر شديدة، مثل المؤسسات الناشئة ومشاريع الأعمال الصغيرة والشركات الابتكارية، أو إلى المشاريع التي يستغرق إنجازها وقتاً ط ويلاً في مجالات البحث والبنية التحتية. وتؤدي هذه المصارف دوراً هاماً ليس فقط في توفير مصدر بديل لخلق الائتمانات المضادة للتقلبات الدورية كما لوحظ خلال الأزمة الحالية)، بل أيضاً بالنظر إلى إسهامها في ضمان تنوع مصادر التمويل. ويقول التقرير إن شبكةً من المؤسسات المتخصصة المتنوعة يُرجح أن تكون أكثر كفاءةً، في توجيه الائتمانات نحو الاستخدامات الإنتاجية، من نظام يمن عليه المصارف العالمية الكبرى التي يُعتَبر أنها "أكبر من أن يُسمَح بانهيارها " ولكنها أيضاً "من الضخامة بحيث تصعب إدارتها" و"إخضاعها لضوابط التنظيم".