حين يعبر المارة من أمام محلات بيع التوابل المنتشرة على طول الرصيف المؤدي للمسجد الأعظم وسط المدينة العتيقة بالرباط، يشمون روائحها التي تعطر أجواء السوق القديم، حيث وضعت بعناية في أكياس توابل وبهارات من شتى الأصناف والأنواع التي عادة ما يقبل عليها المغاربة في شهر رمضان، ويقولون إنها السر وراء النكهة الخاصة لبعض مأكولاتهم التقليدية، والطعم المتميز للمطبخ المغربي الذي اكتسب شهرة عالمية. يقول حفيظ (54 سنة) بائع توابل في أحد المحلات بالسوق القديم بالعاصمة الرباط "هناك بعض التوابل التي نستورد أعشابها من مدن المغرب ك"التحميرة" (الفلفل الأحمر)، أو الكمون، فيما نستورد البعض الآخر من بعض بلدان الشرق ك"السكنجبير" (الزنجبيل) و"الإبزار" التي أحصل عليها من بلاد الشام". ويضيف أن تجارته تنتعش بشكل كبير خلال شهر رمضان وفي الأعياد والمناسبات الدينية كعيد الأضحى. وأمام هذا الإقبال المتزايد، يقول حفيظ إنه يتم استيراد كمية كبيرة من هذه التوابل من الخارج من أجل تلبية الطلب الداخلي. ويستعرض بائع التوابل بزهو مخزون محله من التوابل، التي يؤكد أنه يحرص على جودتها، ويدعو كل زبون للتأكد من نوعها الأصيل عبر "رائحتها العطرة"، ف"القرفة " الجيدة مثلاً، وفق حفيظ، يفوح عطرها ليصل إلى أزقة الحي المجاور. أما "الزعفران" الأصيل المطحون، فصفرته القاتمة تتراءى لعابر الزقاق من مسافة بعيدة ويشتد لمعانه كلما انعكست أشعة الشمس عليه، فيما يقول إن هناك خلطة خاصة من التوابل تعد صناعة مغربية محضة وتدعى "رأس الحانوت" وهي اسم على مسمى، فهي تحوي كل البهارات والتوابل المميزة وتُخلط وفق مقادير تعارف عليها العطارون وأهل الخبرة في الميدان. أما محلات بيع التوابل والبهارات التي يطلق عليها المغاربة بلغتهم الدارجة (العامية) ال"عطارة" فتضفي على السوق القديم الذي تتوزع فيه محلات بيع الملابس التقليدية وأخرى لبيع أواني الفخار والخزف، جمالية خاصة بفضل الأكياس مختلفة الألوان التي تضم أصناف التوابل المختلفة، والتي يضعها الباعة أمام دكاكينهم في شكل هرمي، شُكلت قمته الحادة بعناية فائقة، تثير إعجاب السياح فيبادرون إلى التقاط صور أمامها، وشراء بعض من غرامات التوابل وأخذها تذكارًا، لتعيد إليهم ذكرى أول طبق مغربي استمتعوا بأكله في مطاعم المدينة العتيقة. تقول إحدى النسوة اللائي قصدن محلاً للتوابل بالسوق القديم في الرباط لشراء بعض حاجيات مطبخهن "هذه التوابل لا يقتصر استعمالها على تحضير الأطباق المغربية التقليدية، بل نستخدمها في إعداد الخلطات الشعبية الطبية لعلاج بعض الأمراض، فالكثير من الناس مازالوا يثقون في العطار أكثر من الصيدلاني في علاج أسقام أجسادهم". وكلما حل شهر رمضان، زاد الإقبال على استهلاك هذه التوابل والبهارات، فرمضان يعد بالنسبة للمغاربة بالإضافة إلى طابعه الروحي، فرصة لاستحضار عاداتهم وتقاليدهم، فمع كل إفطار تتحلق العائلة حول مائدة، وقد عمرت بمأكولات وأطباق تفوح منها روائح التوابل الزكية. ويعد المغرب أحد أكثر الدول استعمالاً للتوابل والبهارات، وتتحدث التقارير الرسمية عن أن المغرب يضطر لأن يستورد نصف حاجياته من هذه المواد من الخارج، فكل فرد مغربي يستهلك خلال السنة ما يقدر بأكثر من 800 غرام من التوابل، فيما تسجل أعلى معدلات الاستهلاك في الفترة الممتدة ما بين شهر شعبان (قبل رمضان) حيث يجتهد المغاربة في التحضير لحلول شهر الصيام والاحتفاء خلاله ببعض العادات، وشهر ذي الحجة والذي يتزامن مع حلول عيد الأضحى. وتتصاعد شكاوى بعض باعة التوابل كما الزبائن من ضعف جودتها بسبب ممارسات بعض المضاربين الذين يستفيدون من الرواج الذي يضمنه هذا القطاع في السوق المغربي، ويقولون - خلال حديثهم للأناضول - إن غش بعض الباعة وإدخالهم لمواد مصنعة خلال طحن الأعشاب، أو القيام باستعمال آلات تستخدم لطحن الأعلاف خلال تحضير هذه التوابل، تؤثر على مردودهم، كما تنعكس بشكل سلبي على صحة المواطن مما يتسبب له في الكثير من الأمراض. وخلال شهر رمضان تقوم مصالح بمراقبة الأسعار وأخرى بمراقبة الغش بدوريات شبه يومية في الأسواق المغربية المختلفة من أجل مراقبة مدى احترام الباعة للشروط والمعايير التي تضعها السلطات، وخاصة أن بعض الزبائن يشتكون من ارتفاع في أسعار هذه المواد مع حلول كل شهر رمضان. أما بلاد المغرب فلها علاقة تاريخية قديمة بتجارة التوابل واستعمالها في المطبخ الشعبي، حيث اشتهر المغرب بهذه التجارة منذ قرون، مستفيدًا من القوافل التي كانت تعبر بعض مدنه قادمة من بلاد السودان وأخرى راحلة صوب بلدان الشرق، كما أنه يعد موطنًا لعدد من الأعشاب التي استخدمها المغاربة في الطبخ والتداوي، بفضل مناخه المتوسطي المعتدل في بعض المناطق، والحار في مناطق أخرى. ونظرًا للطابع الخاص الذي يميز بلدان المغرب العربي في العادات والتقاليد الغذائية عن نظيراتها في الشرق العربي، فإن استخدام هذه التوابل وطرق مزجها كان ذا خصوصية جعلت من بعض أطباق المغرب العربي الشهيرة ك"الكُسْكُسْ" و"الطاجين"، و"الرَفيسة" لا يستقيم تحضيرها دون استدعاء خلطات خاصة من التوابل تمزج بمقدار وتضفى على الطبق نكهة خاصة، وهو ما حرص المغاربة على الحفاظ عليه منذ قرون، بل ويعدونه مكونًا تراثيًا يعبر عن جزء من هوية بلاد المغرب وتاريخه.