اللغة هي ترميز لمعانٍ ومسميات من أشياء وأحداث، وفق شفرة محددة يضعها أحدهم، ويتلقاها الآخرون معاصرة، أو تواترا إذا حظيت(الشفرة) بتوثيق شفهي أو كتابي.. وفي هذه الحالة تكون الدلالة على سبيل اليقين(بحكم التوثيق القائم). وإلا فقد تُفك رموزها انطلاقا من استقراء الموروث، بالنسبة ل"اللقية" الموتورة، كما هو شأن الرموز التي تركتها الأمم الغابرة في بعض الكهوف. وهنا لا تتعدى دلالة تلك الشفرة مستوى الظن والترجيح(لا يمكن الجزم بمعنى رمز معين وجد منقوشا في كهف معين، ما لم يكن جزء من شفرة "معتمدة"..).. وإذا كان "سر" اللغة هو الترميز، فإن دعامتها هو الاصطلاح والتواضع و"التعاقد" بين مستعملي نفس الشفرة.. وقد يكون هذا التواضع عاما ومفتوحا لكل من يتحدث نفس اللسان، كما قد يكون ابتكارا خاصا ومغلقا بين فئة معينة منقطعة عن شفرة اللسان الأصلي(الاستخبارات مثلا).. كما أن دلالة ذلك التواضع يمكن أن تكون معكوسة بين الألسن(نفس التركيبة الصوتية يراد بها شيء في لغة، ويراد بها ضده في لغة أخرى).. واللغة، عند تفكيكها أو "تجذيرها" أو اختزالها إلى نهايتها، تستحيل أصواتا فردية قاعدية، تسمى حروفا، ذلك أن عمود اللغة، بل معظمها، هو أصوات "أولية" أساسية، يمكن تقدير طقمها بحوالي 300 صوت "ابتدائي"، ربما هي غاية ما يمكن أن ينتج عن كل تراكيب الجهاز الصوتي البشري(عدد حروف اللغة العربية(والتي تعتبر من أفصح اللغات وأكثرها دقة في النطق) هو 28 حرفا و7 حركات(بما فيها المدود). فإذا أضفنا هامشا لتغطية بعض الأحرف والحركات غير الموجودة بها(كما هو الحال بالنسبة للأحرف P وV وG، والحركات E وU، مثلا، والتي توجد في اللاتينية والجرمانية، ولا توجد في العربية)، فيكون أقل حاصل هو 31 حرفا مضروب في 9 حركات، أي 279 صوتا(أما بالنسبة لما يردَّد عن وجود "الآلاف" من الحروف الصينية، فهي في الحقيقة مقاطع مركبة من الحروف الأولية)). ولهذا الترميز الصوتي نظير خطي توافق الناس من خلاله على رسم كل صوت بشكل معين.. أي تشكيله بنية بصرية أولية، وإعطائه صورة "انفوغرافية" تعتبر هي لبنة الكتابة.. غير أنه هناك بعض الأصوات التي لا يمكن ترجمتها رسما(على الأقل بشكل رسمي أو أكاديمي أو موحد)، كالصفير أو أصوات الطبيعة(الرياح، الرعد، خرير المياه...)، أو أصوات الحيوانات، أو هدير المحركات، أو وقع الصدامات بين الأجسام... في المقابل هناك اختزال للإنتاج الصوتي في المرسوم، كما هو الشأن بالنسبة للمقاطع الجاهزة المعتمدة في بعض اللغات، وعلامات التشوير والسير على الطرق، ولوحات المنع والإباحة التي تعتمدها بعض المؤسسات العامة أو الخاصة، والرسوم، والصور، والحركات(فيديوهات...)، ولغة الإشارة(الصم البكم، البورصة...)... حيث تختزل "البنية" الواحدة منها كلمات، وربما جملا.. من جهة أخرى، يمكن اعتبار بعض هذه "الاختزالات/التركيبات" المذكورة هنا "ثورةً" في اللغة بمفهومها التقليدي، بحيث نقلتها من "خطوة الحرف"، إلى "خطوة "الميجا"".. فهي تعتبر من الأشكال والأدوات والتمظهرات المبتكرة في عالم اللغة.. أصل اللغة إذن الشفه، وأساسها الأصوات، ولبناتها في الرسم هي الحروف والحركات، وقد أضيفت إليها بعض الأشكال(التي تم ذكر بعضها أعلاه)، والعلامات كعلامات الترقيم، والأرقام التي تختزل مجموعة أصوات وتدل على كمّ معين.. غير أن تلك الأحرف والحركات صاغت كلمات، فصاغت الكلمات جملا، فألفت الجمل فقرات ونصوصا وكمّا مهولا من الكلام البشري، الموثق منه والعابر. وما هذه الأعداد الفلكية من الكلمات التي تُنسج كل يوم إلا من تلك الأصوات المحدودة العدد.. يتبع..