القنيطرة... اختتام دوري أكاديميات كرة القدم    القيمة السوقية للدوري السعودي تتجاوز عتبة المليار يورو    باب برد: تفكيك عصابة إجرامية متورطة في سرقة وكالة لتحويل الأموال    الإرث الفكري ل"فرانتز فانون" حاضر في مهرجان الكتاب الإفريقي بمراكش    تطوان تحتفي بالقيم والإبداع في الدورة 6 لملتقى الأجيال للكبسولة التوعوية    نادٍ نرويجي يتبرع بعائدات مباراته ضد فريق إسرائيلي لدعم غزة    التوقيع على مذكرة تفاهم لتعزيز التعاون والشراكة بين مدينة طنجة ومدينة القدس الشريف    CDT تقر إضرابا وطنيا عاما احتجاجا على قانون الإضراب    حكومة أخنوش تتعهد بضمان وفرة المواد الاستهلاكية خلال رمضان ومحاربة المضاربات    هذه توقعات أحوال الطقس اليوم الأحد    ابتداء من غد الاثنين.. ارتفاع جديد في أسعار المحروقات بالمغرب    هكذا يخطط المغرب لتعزيز أمن منطقة الساحل والصحراء    تحويلات المغاربة المقيمين بالخارج شهدت ارتفاعا بنسبة 2.1 في المائة    الرجاء البيضاوي يتجه إلى إلغاء الجمع العام مع إناطة مهمة الرئاسة إلى بيرواين حتى نهاية الموسم    "هِمَمْ" ترفض التضييق والتشهير بمديرة جريدة "الحياة اليومية"    نزار بركة يترأس الدورة العادية الموسعة للمجلس الإقليمي لحزب الاستقلال في العيون    مقتل مغربي بطلقات نارية في إيطاليا    الإعلام في خدمة الأجندات السياسية والعسكرية    كريستينا.. إسبانية سافرت للمغرب لاستعادة هاتفها المسروق بمدريد والشرطة المغربية أعادته إليها في أقل من ساعة    تجميد المساعدات الأميركية يهدد بتبعات خطيرة على الدول الفقيرة    الرئاسة السورية: الشرع يزور السعودية    تحذير من تساقطات ثلجية وأمطار قوية ورعدية مرتقبة اليوم الأحد وغدا الاثنين    تفكيك شبكة صينية لقرصنة المكالمات الهاتفية بطنجة    روبرتاج بالصور.. جبل الشويحات بإقليم شفشاون وجهة سياحة غنية بالمؤهلات تنتظر عطف مسؤولين للتأهيل    السلطات الأسترالية تعلن وفاة شخص وتدعو الآلاف لإخلاء منازلهم بسبب الفيضانات    حريق مُهول يأتي على ورش للنجارة بمراكش    المغرب يعزز موقعه الأممي بانتخاب هلال نائبا لرئيس لجنة تعزيز السلام    "رسوم ترامب" الجمركية تشعل حربًا تجارية .. الصين وكندا والمكسيك ترد بقوة    دراسة: هكذا تحمي نفسك من الخَرَفْ!    استئناف المفاوضات بين حماس وإسرائيل الاثنين بعد رابع عملية تبادل للرهائن والمسجونين    ائتلاف حقوقي: تجميد "ترانسبارانسي" عضويتها من هيئة الرشوة إعلان مدوي عن انعدام الإرادة السياسية في مواجهة الفساد    الصين: شنغهاي تستقبل أكثر من 9 ملايين زائر في الأيام الأربعة الأولى من عطلة عيد الربيع    الجمعية المغربية لدعم إعمار فلسطين تجهز مستشفى الرنتيسي ومستشفى العيون باسطوانات الأكسجين    المنتخب الوطني لأقل من 14 سنة يجري تجمعا إعداديا بسلا    طنجة تتأهب لأمطار رعدية غزيرة ضمن نشرة إنذارية برتقالية    ريدوان يخرج عن صمته بخصوص أغنية "مغربي مغربي" ويكشف عن مشروع جديد للمنتخب    ريال مدريد يتعثر أمام إسبانيول ويخسر صدارة الدوري الإسباني مؤقتًا    أولياء التلاميذ يؤكدون دعمهم للصرامة في محاربة ظاهرة 'بوحمرون' بالمدارس    حجز أزيد من 700 كيلوغرام من اللحوم الفاسدة بطنجة    تحويلات المغاربة المقيمين بالخارج فاقت 117 مليار درهم خلال 2024    مؤسسة طنجة الكبرى تحتفي بالكاتب عبد السلام الفتوح وإصداره الجديد    هذا هو برنامج دور المجموعات لكأس إفريقيا 2025 بالمغرب    مقترح قانون يفرض منع استيراد الطماطم المغربية بفرنسا    تفشي "بوحمرون" في المغرب.. أرقام صادمة وهذه هي المناطق الأكثر تضرراً    المجلس العلمي المحلي للجديدة ينظم حفل تكريم لرئيسه السابق العلامة عبدالله شاكر    ثمن المحروقات في محطات الوقود بالحسيمة بعد زيادة جديد في الاسعار    الانتقال إلى دوري قطر يفرح زياش    مسلم يصدر جديده الفني "براني"    لمن تعود مسؤولية تفشي بوحمرون!    لقجع: منذ لحظة إجراء القرعة بدأنا بالفعل في خوض غمار "الكان" ولدينا فرصة لتقييم جاهزيتنا التنظيمية    القاطي يعيد إحياء تاريخ الأندلس والمقاومة الريفية في عملين سينمائيين    الإعلان عن تقدم هام في التقنيات العلاجية لسرطانات البروستات والمثانة والكلي    محاضرة بأكاديمية المملكة تُبعد نقص الذكاء عن "أطفال صعوبات التعلم"    أي دين يختار الذكاء الاصطناعي؟    الفنانة دنيا بطمة تغادر السجن    أربعاء أيت أحمد : جمعية بناء ورعاية مسجد "أسدرم " تدعو إلى المساهمة في إعادة بناء مسجد دوار أسدرم    غياب لقاح المينانجيت في الصيدليات يعرقل سفرالمغاربة لأداء العمرة    أرسلان: الاتفاقيات الدولية في مجال الأسرة مقبولة ما لم تخالف أصول الإسلام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ماهية اللغة وبعض محدداتها في علم اللغة النصي من خلال الفصل الأول من كتاب أساسيات علم لغة النص(1)


من محددات اللغة من منظور علم اللغة:
حاول الباحث في هذا الشق من الفصل الأول رصد أهم المحددات التي تحدد ماهية اللغة وتضبط حدها بوصفها موضوع التفكير والمعرفة اللغويين حين يمارس التفكير، ومن أهم هذه المحددات التي اعتمدها الباحث: العلامة اللغوية والقوة العقلية والتواصل اللغوي، على نحو ما سنرى في الفقرات اللاحقة.
1-العلامة وماهية اللغة:
لقد اعتمد كلماير في تحديد مفهوم اللغة في علاقتها بالعلامة على التحديد الذي نحته فرديناند دي سوسير، حين نص على أن اللغة نظام من العلامات الدالة تعبر به كل جماعة لغوية عن أغراضها، وهو نظام مجسَد تجسيدا فيزيقيا قابلا للملاحظة والتجربة والوصف العلمي، شأنها في ذلك شأن باقي الظواهر الحسية الأخرى ، الأمر الذي يعني أن سوسير قد تأثر في هذا التحديد- وإن لم يشر كلماير إلى ذلك- بعالم الاجتماع الشهير إميل دوركهايم الذي كان يشتغل ب" منهج وصفي لتحديد الوقائع الاجتماعية على اعتبار أنها أشياء أو تشبه الأشياء التي تدرس في العلوم الطبيعية"(2)، لينتهي على إثر هذا التأثر وعلى إثر المقارنة بين الظواهر الاجتماعية والظواهر اللغوية إلى نتيجة مفادها أن الظواهر اللغوية تشبه إلى حد كبير الظواهر الاجتماعية في عمومها وفي بعدها الفيزيقي القابل للملاحظة والتجربة والوصف، ومن ثم يمكن تطبيق" قواعد هذا المنهج ( المنهج الوصفي الذي كان يشتغل به دوركهايم) على دراسة الظواهر الاجتماعية واللغوية على السواء"(3).
إن هذا اعتبار اللغة نظام من العلامات الدالة، والمجسَدة تجسيدا ماديا قابلا للملاحظة والعزل و الوصف العلمي، يجعلها خاضعة لنفس القوانين العلمية الصارمة والوضعية التي تخضع لها باقي الظواهر الحسية الأخرى، يقول كلماير بهذا الصدد: " ولا يفرق ذلك اللغة عن أنظمة أخرى، أي أنه ليس من الممكن دائما صياغةَ القوانين التي تعد أساس الظواهر إلا وفق ملاحظة منظمة لها، بل إن سمة التفريق الجوهرية هي أن اللغة نظام من العلامات. وتوصف أنظمة العلامات بأنه حُدد فيها أن لها «دلالة»، مثل ظواهر حسية معينة"(4). ومن هذا المنطلق سيعتبر سوسير أن موضوعات المعرفة – واللغة واحدة منها- " لا يمكن إدراكها بالنشاط العقلي الداخلي وحده، بل لابد من الخبرة والملاحظة والتجربة"(5)، وهذا ما يضطلع به علم العلامات العام La sémiologie، الذي يدرس حياة العلامة داخل الحياة الاجتماعية، يقول سوسير في ذلك: " يمكننا أن تصور علما يدرس حياة العلامات داخل الحياة الاجتماعية، سوف يكون جانبا من السيكولوجية الاجتماعية، وبالتالي سيكون جانبا من السيكولوجية العامة، سوف نعرفه ب Sémiologie، من الكلمة اليونانية Séméïon ، بمعنى علامة"(6).
بعد تحديد كلماير لماهية اللغة في علاقتها بالعلامة، ولعلم العلامات الذي يدرس العلامة اللغوية في رحابتها الاجتماعية انطلق بعدئذ إلى تحديد مفهوم العلامة نفسها، وتحديد طبيعتها وأبعادها بوصفها دليل هذا العلم الجديد وموضوعه، معتمدا في ذلك على أيضا على تحديد فرديناند دي سوسير، الذي ذهب في ذلك إلى أن العلامة اللغوية هي ربط تصور بصورة صوتية، حيث يلحق فيها الدال بوصفه مادة العلامة بالمدلول باعتباره مضمون العلامة، يقول كلماير في ذلك: " في رأي سوسير العلامة اللغوية ليست بطاقة تلتصق على شيء ما إنها ليست بساطة اسما لشيء. فإن دي سوسير يفهم تحت العلامة اللغوية ربط(ترابط) تصور بصورة صوتية. يُربط بمنطوق (صوتي) معين تصور على نحو لا ينفصم أبدا. ويستتبع كل منهما الآخر مثل وجهي عملة: وفي العلامة يلحق الدال(Signifiant) والمدلول(Signifie) كل منهما بالآخر"(7)، ويمكن توضيح هذا الربط والترابط من خلال الشكل التالي:

إضافة إلى مفهوم اللغة في علاقتها بالعلامة اللغوية وإلى تحديد العلم الذي يدرس العلامة وإلى مفهوم العلامة وطبيعتها ومكوناتها، حاول الباحث التطرق بعدها إلى طبيعة العلاقة التي تجمع بين هذه المكونات (الدال والمدلول أو الصورة الصوتية والتصور) المشكلة للعلامة اللغوية، مقتفيا في ذلك أثر سوسير الذي توصل إلى أن العلاقة بين الدال والمدلول هي علاقة اعتباطية غير شفافة، نظرا لعدم وجود أي شيء في الدال يمكن استنباطه بصورة سببية وطبيعية وشفافة من المدلول، وذلك عكس ما يوجد في اللغة العادية التي لا يتم فيها البتة الحديث عن العلامة إلا حين عدم وجود علاقة عشوائية بين الدال والمدلول، كقولنا مثلا إن الحمرة علامة الخجل، أو رحيل الطائر المهاجر علامة على بداية فصل الشتاء، أو الدخان علامة على وجود النار، حيث يتضح أن العلاقة بين الحمرة والخجل، وبين رحيل الطائر المهاجر وفصل الشتاء، وبين الدخان والنار، هي علاقة طبيعية ثابتة لا تتغير البتة، وذلك عكس العلاقة الاعتباطية بين الدال والمدلول في العلامة اللغوية التي يمكن أن يطالها التغيير مع مرور الوقت، وقد ضرب الباحث لهذا التغيير الذي يطال إلحاق دال بمدلول داخل العلامة اللغوية مثلا بكلمتي Weib، التي تعني في الألمانية الفصحى الحديثة امرأة، بعدما كانت تعني في الجرمانية(Wiba) الحجاب والنقاب وعروس مستترة كما يوضح ذلك المترجم في هامش ص 31. ثم Wagen التي تعني سيارة ومركبة، وتتطابق مع فعل Wagen الذي يعني أقدم على، غامر ب، أو خاطر ب. يقول فرديناند دي سوسير في سياق العلاقة الاعتباطية بين الدال والمدلول، وفيما يلحق ذلك من تغيير خاصة بين اللغات المختلفة: " إن العلاقة التي تربط بين الدال والمدلول، هي علاقة اعتباطية، وزيادة على ذلك بما أننا نقصد بالعلامة Le signe ذلك الحاصل الذي ينتج عن إجماع دال بمدلول يمكننا القول ببساطة إن العلامة اللغوية اعتباطية. وهكذا فإن فكرة " أخت" لا تمت بأية صلة داخلية لهذه المنظومة من الأصوات التي نستعملها دلاليا؛ إذ بالإمكان أن يمثل لها بأية منظومة أخرى، والدليل على ذلك، هو التباين الحاصل بين اللغات، ووجود اللغات المختلفة نفسها؛ فمدلول " الثور" يتوفر على الدال Bœuf على جهة من الحدود، و Oxعلى جهة أخرى"(8).
إن عملية إلحاق الدال بالمدلول داخل العلامة اللغوية بناء على العلاقة الاعتباطية التي تجمعهما – كما يرى كلماير- هي عملية مؤسساتية، تتقاعد وتتواضع عليها المؤسسة الاجتماعية المتمثلة في مستخدمي العلامة اللغوية، ومن ثم فإن تغييرها يتم داخل هذه المؤسسة اللغوية التي تحميها، ولا يمكن أن يتم بشكل فردي أو إيديولوجي إلا بصعوبة بالغة، ويوضح الباحث هذه الصعوبة بحكاية لبيتر بيشسِلPeter Bichsel، أسماها "المائدة مائدة" التي حاول من خلالها أن يضع لنفسه لغة جديدة خاصة به يغير بها المعجم، ومن ثم سمى - مثلا- السرير صورة والمائدة سجادة والكرسي منبها...وهكذا، فكان كل ذلك ممتعا بالنسبة إليه، بيد أنه سرعان ما سيكتشف في النهاية أنه يعيش حياة الوحدة والعزلة والاغتراب، لأنه في تغييره الاعتباطي ذي الطابع الفردي للتصورات الملحقة بالصور الصوتية السابقة والجديدة كان قد أقصى نفسه، أو بالأحرى تنازل عن إمكانية التواصل لغويا مع جماعته اللغوية.
بعد حديثه عن طبيعة العلاقة بين الدال والمدلول داخل العلامة اللغوية، تطرق كلماير إلى الحديث عن العلاقة التي تجمع بين علامة لغوية وأخرى داخل نظام العلامات، متبنيا في ذلك أيضا تصور فرديناند دي سوسير، الذي أكد فيه أن نظام العلامات يقوم على نوعين من العلاقة، هما:
- العلاقة الأفقية التركيبية: وهو مستوى يتكون من جملة من العلامات المجاورة بعضها بعضا، والمختلفة والمتباينة في حدها، التي تستمد خصوصيتها وقيمتها من هذا الاختلاف والتجاور القائمين بينها، فعلامة "لطيف" مثلا لا تتحقق قيمتها في ذاتها، بل من خلال تجاورها وتعارضها مع العلامات الأخرى المختلفة من قبيل "الطقس" ، في المستوى الأفقي التركيبي التالي: " الطقس لطيف".
- العلاقة الرأسية الجدولية/ الصرفية: وهو مستوى تقع فيه العلامات داخل كم من العناصر أو الوحدات المعجمية، التي يمكن أن يحل فيها عنصر محل آخر مقابل له، ومن هذا المنطلق يمكن أن يقع مكان العلامة " لطيف" في المثال السالف علامات أخرى مجاورة ومتباينة، من قبيل: رائع وعظيم وجميل وسيء وفظيع...وغيرها من العلامات الأخرى، التي تشكل في تجاورها جدولا تصريفيا/ نظاما صرفيا. ويندرج هذان الضربان من العلاقة التي تربط العلامات اللغوية بعضها ببعض داخل نظام العلامات ضمن ما يسمى ب" علم اللغة النظامي".
إن النظر إلى اللغة بوصفها نظاما بنيويا من العلامات الدالة والقائمة على مبدإ المحايثة والانغلاق على نحو ما حدده سوسير يكاد يلغي الاهتمام ببعض المحددات أو بالأحرى الوظائف الأخرى المحددة لماهية اللغة، من قبيل الوظيفة التواصلية التي اعتبرها سوسير ثانوية في اللغة، لأنها تقع في مجال الكلام ذي الطابع الفردي الإنجازي غير المطرد، والوظيفة العقلية التي تمكن مستعمل اللغة من النفاذ إلى الواقع وإدراك العالم والوجود على نحو ما سنرى في الفقرات اللاحقة.
2-اللغة قوة عقلية أساسية للإنسان:
لقد انطلق الباحث في هذا المحدد الثاني من محددات ماهية اللغة مما انطلق منه ليو ڤايسجربر في النظر إلى اللغة باعتبارها قوة عقلية أساسية للإنسان تمكنه – من خلال ما تملكه من طاقات ووظائف عديدة ومتباينة؛ تواصلية ووجودية وميتافيزيقية... وغيرها- من النفاذ إلى جوهر الواقع والعالم وإدراك أبعاده واستيعاب ماهيته، بل وإعادة تشكيله وصياغته وفق طرائق مخصوصة تمد من خلالها الجماعة اللغوية بآليات جديدة لفهم العالم الخارجي من خلال العالم الداخلي العقلي، ولتشكيل رؤيا إلى العالم خاصة بهذه الجماعة اللغوية وتنظم الأشياء في العالم الخارجي داخل عالم عقلي، الأمر الذي يجعل من اللغة حاملا يحمل العالم والوجود، وما يشكله من محمولات، بعد أن تبنيها وتنظمها. إن النظر إلى اللغة من هذا المنطلق هو أقرب إلى ما ذهب بعض الفلاسفة والمفكرين الألمان أمثال "مارتن هيدجر" الذي أكد أن عملية فهم الوجود وإدراك حقيقته لا تتأسس على الوعي الذاتي لهذا الوجود، وإنما تتم من خلال ما يفصح عنه هذا الوجود من التعارضات والتناقضات والأبعاد التي تشكله، والتي يمد بها وعينا وإدراكنا،ويغير بها طريقة فهمنا، من قبيل التعارض الحاصل بين الثبات والتغير، والوجود والعدم، وذلك عن طريق وسيط أنطولوجي رئيس هو اللغة، بوصفها مسكن الوجود(9)، يفصح من خلالها هذا الوجود عن نفسه.
إن النظر إلى اللغة بوصفها قوة عقلية أساسية للإنسان تمكن الجماعة اللغوية من فهم العالم وتشكيل رؤياها إليه تجعلها –كما يرى تشومسكي- متساوية مع العقل " وليست عنصرا في (خدمته)، بل هي والعقل متساويان، ولا يختلفان وظيفيا، رغم اختلافهما ماهويا"(10)،الأمر الذي يعني أن اللغة بهذا المعنى- كما يرى كلماير- تقع في صميم نظرية المعرفة، وتمثل بذلك قيدا معرفيا. يقول كلماير بهذا الصدد: "ينطلق ليو ڤايسجربر في نظريته للغة بوصفها قوة عقلية أساسية للإنسان من فرضية أن اللغة تمكن الإنسان من النفاذ إلى الواقع. وبذلك ينتظم وصف اللغة وإيضاحها في إطار عام يتعلق بنظرية المعرفة، وتعد اللغة فيه قيدا معرفيا. وتمكن اللغة بوصفها قوة عقلية أساسية للإنسان في رأي ڤايسجربر من أن يستوعب الواقع"(11)،بيد أن عملية استيعاب وإدراك الواقع كما يقول كلماير لا تتحقق" بصورة فردية في كل حال، بل في الجماعة الاجتماعية"(12)، الأمر الذي يجعل من اللغة- كما يرى ليو ڤايسجربر- «صيغة اجتماعية للمعرفة»، تشكل كل جماعة لغوية - من خلالها- نظرتها إلى الواقع،" من خلال«صورة العالم ».وتصوغ صورة العالم كل معرفة (تالية) للكائن، تتم بوصفها «مفردات العالم»"(13).
إن معالجة اللغة للواقع معالجة عقلية- كما يؤكد كلماير- تتم في مجالات مختلفة، من قبيل مجالات تشكل الكلمات، ووصف طرق بناء المفردات، والبحث في أنماط بناء الجملة، الأمر الذي يجعل منها علما يرتبط أساسا بالمضمون، أي تعد «نحوا مضمونيا ». بيد ن ما تجدر الإشارة إليه في هذا المقام هو كون ليو ڤايسجربر قد ركز على الوظيفة العقلية والمعرفية للغة في قدرتها التفسيرية للواقع، دون أن يهتم بوظيفتها الأخرى الملازمة لهذه الوظيفة العقلية، وهي الوظيفة التواصلية، على نحو ما سيتضح من الفقرات اللاحقة.
3-اللغة وسيلة اتصال:
بعد حديث كلماير عن المحدد اللساني (العلامة اللغوية) والمحدد المعرفي لماهية اللغة، تطرق بعدئذ إلى الحديث عن محدد آخر لا يقل أهمية عن المحددين السالفين، هو المحدد التواصلي، الذي اعتبر من خلاله أن اللغة وسيلة مهمة من بين مجموع وسائل الاتصال الأخرى التي تقوم على تقنية الإخبار والنظرية المعلوماتية. ويعرَّف الاتصال عادة – كما يرى كلماير- بأنه عبارة عن تبادل للمعلومة بين قطبين اثنين، يرسل القطب الأول المعلومة التي تسمى في عرف فعل الاتصال خبرا، ويستقبلها القطب الآخر. وذلك عن طريق رابط أساس يربط القطبين السالفين بالمعلومة المتداولة بينهما، بل ويعد شرطا رئيسا من شروط نقل أية معلومة، يسمى هذا الرابط ب" القناة". وتتكون المعلومة/ الخبر المتداولة بين قطبي التواصل – على حد تعبير كلماير- من جملة من الأجزاء المادية المشكلة للعلامات تسمى ب" الإشارات (Les signales)، التي تحمل مضمون العلامات أثناء عملية التواصل. ويشترط في ضمان نجاح عملية التواصل- كما يؤكد ذلك الباحث- تمكن قطبي التواصل من نظام العلامات الذي يطلق عليه في علم الاتصال " الشفرة أو السنن"، حيث يختار المرسل إشارة أو متوالية من الإشارات المحددة مضمونا محددا، وذلك بقدر الشفرة، وبعيدا عن الطابع الجزافي/ الاعتباطي السوسيري؛ أي أن المرسل ينتج قصدا تواصليا مشفرا، ثم يحاول المستقبل بعدها بما يمتلكه من معلومات معارف موسوعية، الطويلة الأمد والقصيرة الأمد، أن يلحق بهذه الإشارات التواصلية مضمونا معينا ومنسجما مع سياق التواصل؛ أي يفك الشفرة، ويمكن توضيح ذلك من خلال الشكل التالي:
ويتم تشفير القصد/ الخبر بطرق عديدة، كالكتابة والنطق والحركة الإيماءات والملامح...وغيرها من الأنساق السيميائية الفوق-لغوية الأخرى، فعبارة " صباح الخير" مثلا يمكن التعبير عنها إما ب:
-الحركة: كرفع القبعة.
- الكتابة: وذلك إما بالحروف، وإما بالخطوط والنقاط الممثلة للحروف، كما هو الشأن مثلا بالنسبة إلى شفرة صموئيل موريس الشهيرة المتعلقة بإرسال المعلومات التلغرافية.
- النطق: وفيه تختلف المنطوقات/ الصور النطقية حول تصور واحد من لغة إلى أخرى: صباح الخير/نهارك سعيد/كيف حالك- ... Buenos dïas-How do You do -Bon jour - Guten Tagوغيرها من المنطوقات الأخرى.
إن عملية نقل أو تداول المعلومة / الخبر/ القصد المشفرة بين قطبي التواصل- كما يرى كلماير- قد تعتريها أثناء نقلها أو بالأحرى نقل الإشارات المشفرة عبر القناة جملة من التشويشات، التي من شأنها أن تؤثر سلبا على عملية التواصل ، يقول الباحث بهذا الصدد: " وثمة مشكلة أخرى تطرح على فن الخبر خاصة، المعني بنقل مؤكد للخبر، وهي أن القناة، التي تُنقل من خلالها الإشارات، يمكن أن تشوش إلى حد أن الإشارات تشوَّه أو لا تُنقَل على الإطلاق. وتضر التشويشات (noise) القناة بالاتصال"(14)ولعل بعضا من هذه التشويشات يأتي أساسا من غياب التقابل بين العلامات اللغوية المجاورة بعضها بعضا، إذ كلما تقلص حجم هذا التقابل والتباين والتعارض إلا وزاد حجم التشويش على قناة التواصل اتساعا، وليس أدل على ذلك مما يسمى في علم اللغة ب "المشترك اللفظي"، سواء تعلق الأمر فيه بالاشتراك الهومونيمي، الذي تدل فيه علامات متشابهة في اللفظ ومختلفة في الأصل على معان مختلفة، أو بالاشتراك البوليسمي، الذي تدل فيه كلمة واحدة على معان مختلفة ؛ وذلك من قبيل لفظة " عين" في العربية ، التي تدل على معاني كثيرة، منها: النقد من الدرهم ومخرج ماء البئر والجاسوس وعضو البصر والسيد والذهب وقرص الشمس...وغيرها من المعاني الأخرى، ولفظة " غرب" التي تعني الجهة كما تعني أيضا الدلو، ولفظة " جد" التي تعني أبا الأب و الحظ والشاطئ... وقس على ذلك من الألفاظ الأخرى.
ويقترح المتخصصون في فن الأخبار لتجاوز هذا التشويش المحتمل – كما ذهب إلى ذلك الباحث- اعتماد مبدئي التقابل والإطناب؛ فمن حيث مبدإ التقابل فقد سبقت الإشارة إلى أنه كلما قوي التقابل بين العلامات داخل النظام، إلا وتقلص احتمال حدوث التشويش على القناة، ومن ثم على عملية الاتصال ككل. ومن حيث الإطناب، فهو كما يعرفه كلماير هو" التأشير المتعدد لمضمون(جزئي)"(15)، كأن يجمع المرسل أثناء تواصله مع المستقبل للمعلومة المشفرة- مثلا- بين قوله " صباح الخير" ورفع القبعة.
إن النظر إلى اللغة بوصفها وسيلة من وسائل الاتصال يعني من بين ما يعنيه، أن لسانيات اللغة على نحو ما صاغه فرديناند دي سوسير، قد فقدت هيمنتها لفائدة لسانيات الكلام أو التواصل(16)، التي ظلت ردحا من الزمن على هامش علم اللغة، بيد أن هذا الاهتمام في بدايته- كما يرى عبد السلام عشير- لم يتجاوز نموذج الاتصال الآلي، الذي قام على نظرية الإعلام استجابة لمتطلبات الصناعات الجديدة بأوروبا المتمثلة في الهاتف والتلغراف، واستجابة لكيفية تحسين نقل المعلومة(17). ولم يعرف هذا النموذج تطورا ملحوظا إلا مع رومان جاكبسون، الذي ذهب إلى أن النموذج الآلي للاتصال يجهل كليا" أن الاتصال وقع من أشخاص أو جماعات، أي من فاعلين تؤطرهم بواعثُ سيكولوجية، وقيود اجتماعية، ونظم وأنساق ثقافية وأخلاقية "(18). حيث سيميز بعدها بين مصطلح النقل، المرتبط بنقل المادة أو الطاقة، ومصطلح" الاتصال" الذي يعني نقل كمية من المعلومات، ومصطلح" التواصل" المتعلق بنقل المعلومات والمشاعر والأفكار"(19).
لقد حققت نظرية التواصل بعد جاكبسون تطورا كبيرا، حيث سينصب الاهتمام فيها أكثر بالآثار التي يحدثها التواصل اللغوي، الأمر الذي سيجعل نظرية التواصل هاته – في اهتمامها بالآثار التواصلية- تتقاطع مع اهتمامات التداوليات التي وضعت ثلة من القواعد والمعايير لفهم القول، وذلك بتأسيس مفاهيم جديدة، من قبيل مفهوم السياق، وقواعد الحوار وأفعال الكلام...وغيرها من المفاهيم الأخرى التي ساهمت مساهمة كبيرة في الانتقال من لسانية الجملة إلى لسانيات النص.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.