لم يبقى أحد في هذا الوطن الحبيب.. -خصوصا المتتبعون للشأن العام-، إلا وقد سمع بمعطلي محضر 20 يوليوز... هذه الفئة التي أريد لها أن تعيش قسرا مآسي حقيقية.. ذنبهم فيها أنهم سهروا الليالي لينالوا بعد ذلك أعلا الشهادات في مختلف التخصصات، ذنبهم، أنهم لبوا نداء الدولة في القنوات الرسمية، – بعد ما أغلقت باب المباريات- أن باب التوظيف المباشر مفتوح بشكل استثنائي في وجه حاملي الماستر والدكتوراه... ذنبهم ثقتهم العمياء في مؤسسات الدولة التي وقعت معهم محضر 20 يوليوز والذي يقضي بإدماجهم كدفعة ثانية على غرار إخوانهم في الدفعة الأولى، وذلك تنفيدا للمرسوم الوزاري 2.11.100... ذنبهم، ثقتهم في المجلس الوطني لحقوق الإنسان الذي كان شاهدا على التوقيع وضامنا لتنفيد هذا الالتزام . انتظروا صعود هذه الحكومة وكلهم آمال أن تجد قضيتهم طريقها نحو الحل على يدها، خصوصا وأن برنامج الحزب المتزعم لها مليء بالمؤشرات الإيجابية لجميع الفئات، انتظروها بكل اهتمام، متتبعين بدقة عالية جميع المراحل التي مرت منها دقيقة بدقيقة وثانية بثانية.. وكلما انتهت مرحلة بسلام، تنفس أهل المحضر الصعداء ليزداد تفاؤلهم باقتراب بزوغ فجر الشغل والكرامة ونهاية ظلمات العطالة... أول لقاء لهذه الفئة مع مدير ديوان السيد بنكيران، كان مليئا بالتفاؤلات والوعود بحل ملفهم، حيث اعترف لهم السيد المعتصم بحقهم في الشغل وفق المحضر الموقع، ووعدهم بجلسات حوارية مستمرة إلى حين التحاقهم بعملهم...مطمئنا إياهم بعبارة لطالما رددها السيد بنكيران، "كونو هانيين...لي عندو شي حق غايخدو". تلتها بعد ذلك زخم هائل من التصريحات المطمئنة بالالتزام، كان أولها تصريح السيد رئيس الحكومة بعيد تنصيبه بأن حكومته ستتلتزم بجميع ما التزمت به الحكومة السابقة مضيفا أن هذا "يأتي من باب الوفاء لمابدئنا وأخلاقنا.."، لتتبعه جملة من التصريحات لباقي الوزراء، وذلك في الصحافة المكتوبة والمسموعة وكذا المرئية: · تصريح السيد محمد نجيب بوليف وزير الشؤون العامة والحكامة في برنامج ملف نقاش على قناة Midi 1 tv يوم الأحد 15 يناير 2012 على الساعة 19:10: "...سنحترم كل مالتزمت به الحكومة السابقة...حيث هناك 3000 منصب خاصة بالتنسيقيات المتبقية من 4300 بالإضافة إلى أكثر من 25.000 منصب شغل.. وبه سنغطي جزء كبير من الخصاص الموجود في صفوف المعطلين" . · السيد مصطفى الخلفي في برنامج ملف نقاش على قناة Midi 1 tv يوم الأحد 22 يناير 2012 على الساعة 19:10: ".. بالنسبة لحاملي الشهادات المعطلين.. فالحكومة السابقة قد بذلت مجهودا.. والذي جزء من تنفيذه يوجد ضمن القانون المالي لسنة 2012، والذي يضم تشغيل حوالي 4000 إطار موقعة على محضر.. ونحن ملتتزمون بما التزمت به الحكومة السابقة... ونحن حتى نصبح حكومة يمكن لنا تنزيل هذا الأمر ننتظر المصادقة على القانون المالي لسنة 2012." · السيد نزار البركة، وزير الاقتصاد والمالية، في تصريح ل جريدة المغربية عدد 16/03/2012 " إن ملف تشغيل حاملي الشهادات العليا سيدبر وفق مقاربة شفافة ونزيهة، وأعلن أن الحكومة ستلتزم بالتوظيف المباشر للأطر العليا، التي وقعت معها الحكومة السابقة محضرا للتوظيف المباشر دون مباراة.." · السيد بنكيران لجريدة المساء عدد 1695 - 06/03/2012 - الصفحة 6، في جواب له عن سؤال.. " ولكن ما مصير من وقعوا محاضر مع الحكومة السابقة من أجل التوظيف؟... جواب السيد رئيس الحكومة: "إن كل الملفات ستتم دراستها لحلها، ومبدئيا فالذين وقعوا مع الحكومة السابقة أي اتفاق سيتم الوفاء والالتزام به، فهذا ليس مشكلا.." وما هذه التصريحات إلا غيض من فيض، إذ كان آخرها تصريح السيد نجيب بوليف يوم 07 أبريل 2012 في لقاء تواصلي مع ساكنة طنجة، بأن الحكومة منكبة في إعداد اللوائح وتنقيحها استمرارا لعملية الأجرأة المنصوص عليها في المحضر. بفعل هذه التصريحات وغيرها، وفي جو يسوده الكثير من التفاؤل، دخلت الأطر المحضرية في التزامات اجتماعية.. فمنهم من تزوج ومنهم من اقترض.. ما دام أن مسألة الالتزام بالمحضر أصبحت متجاوزة ولم تعد محلا للنقاش، وأن التحاق هذه الأطر بمقر عملها لا يعدو أن يكون مسألة وقت.. والحقيقة أنه ليس لهذه التصريحات كثير من الأهمية، لأن الحكومة مرغمة قانونا وشرعا وأخلاقا بتنفيذ التزامات الحكومة السابقة، سواء صرح وزراءها بذلك أم لم يصرحوا، لذا فإن هذه التصريحات لا تعدو أن تكون من باب التأكيد أومن باب تحصيل حاصل، خصوصا وأننا أمام حكومة ذات توجه إسلامي حسب مرجعيات خطاب أصحابها. والتوجه الإسلامي يقتضي بالطبع الإهتداء بالقيم الإسلامية الفاضلة كالصدق في القول والعمل والوفاء بالعهد وحفظ الأمانة في تدبير الشأن العام، وهو ما يلزم السياسي المسؤول النأي بنفسه عن السقوط في مستنقع الذين إذا تحدثوا كذبوا وإذا وعدوا أخلفوا وإذا اؤتمنوا خانوا. الصاعقة التي أتت على أحلام المحضريين، لتذر كل شيء كالرميم، ولتجعله كعصف مأكول، تصريح رئيس الحكومة داخل قبة البرلمان في أول جلسة مساءلة له أمام نواب الأمة. كانت هذه الجلسة فرصة السيد بنكيران الأولى ليستعرض عضلاته وليستأسد أمام الشعب المغربي وأمام نواب الأمة، -ولو على حساب أضعف فئة في هذا الوطن، ألا وهي فئة المعطلين-، وذلك بحجتين اثنتين، وهما مع الأسف حق أريد به باطل، أولهما أنه لا يمكن للسيد بنكيران ان يشغل كل من أتى للاحتجاج في الشارع، تحت ذريعة مبدأ المساواة بين جميع المواطنين المنصوص عليها في الدستور الجديد... الثانية، أن الحكومة التي تركت له المحضر، تركت معه قانون الوظيفة العمومية المعدل والذي ينص على مبدأ المباراة، ثم تبعها قولا، " أن الحكومة السابقة هي التي أخرت قانون المالية عن موعده..." حيث لم يكلف نفسه أن يتساءل " ما ذنب هذه الأطر في كل ما عرفه المغرب آنذاك من تأجيل لقانون المالية، أو انتخابات مبكرة..؟؟" لم يكتفي السيد بنكيران بهذا، بل تحدى نواب الأمة والمغاربة أجمعين أنه لن يتراجع عن قراره الرافض للالتزام بالمحضر.. مضيفا بطريقته التهكمية، والتي تحمل استصغارا لعقول الأطر وتحقيرا لكفاءتهم.. سيروا أوليداتي، توكلو على الله ودوزوا المباراة".. بمثل هذه العبارات، والتي تفتقد لقليل من الجرأة السياسية يتم التنصل من الالتزامات والمسؤوليات التي تضمن حقوق المواطنين، خاصة الضعفاء منهم...مصرحا بذلك، ضاربا عرض الحائط جميع التصريحات السابقة بضرورة الاتزام، مسفها تصريحات وزرائه وكأنها لم تكن شيئا، ضاربا عرض الحائط مبدأ التشاركية في اتخاذ القرار والتي لطالما نادى بها... معوضا إياها بالمبدأ الفرعوني "لاأريكم إلا ما أرى أنا والسيد بها..." المتأمل في تعامل حكومة بنكيران مع ملف المحضريين، يجد نفسه أمام ظاهرة خطيرة، والتي تتمثل في ازدواجية الخطاب والجمع بين المتناقضات وكذا منطق اللامنطق، وهذا يظهر جليا، في إخلال رئيس الحكومة بالالتزام الذي قطعه على نفسه هو وزمرة من وزرائه كما سبق الذكر.. في ضرب سافر لمبدأ "استمرارية مؤسسات الدولة والمرفق العمومي" الذي يعد من أهم المبادئ التي تبقي على هيبة الدولة وتكرس دولة المؤسسات. وهنا يحق للمرء أن يتساءل مستغربا، وهو يستحضر كل هذا، هل يعقل لأناس لطالما تغنوا بشعار "تخليق الحياة العامة" أن يخلعوا جبة قيمهم ليرتدوا عباءة اللعبة السياسية، فيدخلوا إلى الحلبة وقد تحللوا من مبادئهم وأخلاقهم ليشرعنوا لأنفسهم اعتماد كل الوسائل المتاحة في تدبير شؤون البلاد والعباد سواء كانت مشروعة أو غير مشروعة، مهتدين في ذلك بالسلوك الميكيافيلي الذي يتنكر لجميع القيم والمثل حين السعي لتحقيق أهداف ولو على حساب الدوس على كرامة العباد، والإجهاز على حقهم الشرعي الذي اعترفوا هم به قبل غيرهم؟. إن الدستور الجديد جاء فعلا ليقطع مع مرحلة سابقة وخصوصا مع بعض الآليات التي لم تعد تناسب هذا الزمان، لكن في نفس الوقت لا يمكن تطبيق هذه الأمور إلا من تاريخ صدور الدستور في الجريدة الرسمية، لأن ليس له أثر رجعي. وهذا ما انتبه له السيد بنكيران عندما اعتمد مبدأ "عفا الله عما سلف" في ربط المسؤولية بالمحاسبة. فتطبيقه هذا المبدأ جنبه فعلا زوبعة كانت ستأتي على الأخضر واليابس، حيث كانت ستجر أناسا وازنين وأصحاب رؤوس أموال مهمين إلى المحاكم والسجون، ولا أحد يستطيع بعد ذلك أن يتكهن إلى ما كانت ستؤول إليه الأوضاع... فحري بالسيد رئيس الحكومة أن يطبق نفس المبدأ "عفا الله عما سلف" بالنسبة لمعطلي محضر 20 يوليوز... خصوصا أن هؤلاء المعطلين –على الأقل- لم يسرقوا درها أو دينارا، ولم يعيثوا في الأرض فسادا. أما مسألة تكافؤ الفرص، فهي حق أريد به باطل...فكان بالسيد رئيس الحكومة أن يطبق هذا المبدأ فعلا.. وأن يعدل بين هذه الأطر وأطر الدفعة الأولى التي تم إدماجها بتاريخ 01 مارس 2011، مادامت تخضع لنفس القانون وأنها أتت في نفس الظرفية.. وإلا وجب أن يُطرد كل من أدمجتهم الحكومات السابقة في أسلاك الوظيفة العمومية بطريقة مباشرة، وهذا ما لا يصح فعلا. من الغريب أن تجد السيد بنكيران يتلو قوله تعالى "أفو بالعقود" وهو يتحدث عن العقد المبرم مع الناخب الوطني السابق "إريك جيريس"، مبررا ذلك أن أخلاقه لا تسمح له بالتنكر للعقود المُبرمة، ثم تجده بعد ذلك يتنكر لعقد محضر 20 يوليوز، ويصرح بأن الرزق بيد الله وليس بيد الحكومة، ثم يدعو الله للمعطلين من مُوَقعي المحضر بأن يوفقهم لكي ينالوا الوظائف.. وكأن الأخلاق غير الأخلاق، والقيم غير القيم، والآية القرآنية معكوسة.. أو أن "غريتس" مواطن من الدرجة الأولى والمعطلون كائنات غريبة أتت من كوكب آخر.. أقول للسيد بنكيران إن الرزق بيد الله تعالى منذ أن خلق الله السموات والأرض، ولكن، انتبه إلى مصداقيتك التي قد اهتزت أركانها عند الشباب المغربي، خصوصا بعد الإجهاز على حق معلوم لحاملي الشواهد العليا...أما دعواتك للمعطلين بالتوفيق..فهم غير محتاجين لها -إلى حد الساعة- فلهم آباء وأمهات يدعون لهم بالليل والنهار بالتوفيق والنجاح.. وأن ينصرهم على من عاداهم... وفي نفس الوقت يدعون عليك من جراء ما حل بأبنائهم وفلذات أكبادهم من ظلم وجور... وأخيرا أقول للسيد بنكيران: حكمت.. فظلمت...فعجبا لك كيف تنام..!!؟؟ ثم إنك مادمت تنظر إلى هذه الفئة بعين السخرية والاستهزاء وأنها مشكل عالق أمامك في تسيير الشأن العام، وتكف عن محاربتهم بالليل والنهار عبر وسائل الإعلام وكذا بالتدخل الأمني العنيف وتكسير الجماجم... فإنك لن تستطيع فعل شيئ، ولكن عندما تنظر إليها أنها نخبة هذا البلد وأدمغته وطاقاته.. فإنك ستبادر إلى استثمارها قبل غيرك.. وذك في سبيل تحقيق برنامجك الطموح أولا، ثم للمضي قدما بهذا الوطن الحبيب.