يجدر التنويه، ابتداء، إلى أن هذا المقال تنتظمه المبادئُ الآتية؛ الحيادية في التعامل مع الأحزاب والمسؤولين، والموضوعية في قراءة المواقف والآراء بعيدا عن الذاتية والنزوعات الإيديولوجية؛ حتى نقيم الحجة على كاتب المقال والقارئ معا؛ لأن بعض المواقف الشاذة الواردة فيه لم نسمع بها من قبل إلا في عهد الحكومة الحالية بلون العدالة والتنمية. في سياق من التفاؤل، بفعل تصريحات عدد من وزراء الأغلبية الحكومية وبخاصة من حزب العدالة التنمية والتي تصب جميعُها في اتجاه تفعيل محضر 20 يوليوز القاضي بإدماج الأطر العليا المعطلة الحاصلة على الشهادات العليا سنة 2010 فما دونها إدماجا مباشرا في أسلاك الوظيفة العمومية، عقد السيد عبد الإله بنكيران رئيس الحكومة، بمعية وزير الدولة عبد الله باها ورئيس ديوانه السيد المعتصم وكذا السيد عبد الحق العربي عضو اللجنة المكلفة بمتابعة الملف، لقاءً حواريا رسميا بمقر رئاسة الحكومة مع ممثلي التنسيقيات الأربع المنتزعة للمحضر المنوه به أعلاه (الوطنية، والموحدة، والأولى والمرابطة) إضافة إلى ممثلَيْن عن التنسيقية المستقلة الموقعة في المحضر المذكور. وبعدما تقدمنا بعرض لمسار ملفنا المطلبي الذي تندغم فيه ثلاثة مسالك رئيسية؛ مسلك النضال الميداني (لأن الحقوق تُنتزع ولا تعطى) ومسلك الحوار مع المسؤولين، ومسلك الإعلام لتنوير الرأي العام، وبعدما أكدنا على أن أكثر من 4800 إطار ومعهم ذويهم ينتظرون "البشرى" من خلال هذا اللقاء، تقدمنا إلى السيد بنكيران بمطالبنا المتمثلة في المعاقد الخمسة الآتية: تحديد تاريخ الانتهاء من الأجرأة الإدارية (لأنه شُرِع فيها في غضون شهر نونبر المنصرم بحسب المنصوص عليه في المحضر) وتاريخ الشروع في الأجرأة المالية للمشمولين بالمحضر؛ بمعنى وضع جدولة زمنية للتدبير الإداري والمالي لملفنا. تحديد كيفية أجرأة مقتضيات المحضر، خصوصا وأن بعض المسؤولين من حزب العدالة والتنمية يتحدثون عن مقاربة جديدة لملف الأطر العليا المعطلة، لكن دون المسيس بمكتسبات المشمولين بالمحضر. تحديد عدد المناصب المخولة للمشمولين بالمحضر. تحديد الجهة الرسمية المعنية والمخول لها تدبير الملف ومتابعته (لأنه إلى يوم الناس هذا هناك لجنة برأسين تدبر هذا الملف). تحديد تاريخ إصدار التعيينات. بطبيعة الحال يُفهم من خلال المطالب المنصوص عليها أعلاه أن مسألة الالتزام بالمحضر الموقع عليه من طرف مؤسسات الدولة متجاوزة وليست محلا للنقاش، بيد أننا فوجئنا برئيس الحكومة ينسف التزام الحكومة السابقة نسفا، وهو الذي صرّح مرارا عبر وسائل الإعلام المقروءة منها والمسموعة والمرئية عن التزامه بما التزمت به الحكومة السابقة، بما في ذلك الالتزامات المتعلقة بالتشغيل وبخاصة التوظيف المباشر منه (خذ على سبيل المثال قوله: "حكومتنا ستكون وفية لكافة الالتزامات التي عقدتها دولتنا وهذا من وفائنا لمبادئنا وقيمنا.." تصريح رئيس الحكومة بعد تشكيلها رسميا في 3-1-2012. وقوله: "كانت هناك حالة من الاحتقان ومن التعامل السلبي مع ملف عطالة حاملي الشواهد، فتكدست ملفات كثيرة، وحكومتنا ملتزمة في إطار محضر 20 يوليوز الذي وقعته الحكومة السابقة، وما عدا ذلك سيتم في إطار الحوار.." في حوار أجرته جريدة المساء 07 فبراير 2012.).. وإذن فموقفه الجديد يُعدّ ضربا سافرا في مبدأ استمرارية مؤسسات الدولة والمرفق العمومي وفي واحد من أهم مبادئه الحزبية؛ إذ ليس يخفى على القارئ المتابع للمشهد السياسي المغربي أن حزب العدالة والتنمية كان ولا يزال يرفع، فضلا عن شعار "إسقاط الفساد"، شعارَ "تخليق الحياة العامة" الذي يدعو إلى تطبيع الممارسة السياسية بالطابع الأخلاقي، مما يقتضي بمفهوم المخالَفة أن الحكومات السابقة كانت عريّة عن هذا الطابع مفتقدةً إيّاه وأن حزب المصباح سيجعل من الحكومة التي يترأسها حكومة أخلاقية بامتياز، وهي دعوى عرية عن الدليل بحكم مخالفتها للواقع إلى حدود يوم الناس هذا؛ إذ لم يثبت في يوم من الأيام أن تنصّلت حكومة من الالتزام بما التزمت به حكومة سابقة لها، وذلك عُرْف حكومي يُبقي على هيبة الدولة ويكرّس مبدأ "دولة المؤسسات" ضمانا لاستمرارية المرفق العمومي، لكن يبدو من خلال موقف السيد رئيس الحكومة وباقي المسؤولين الحاضرين في هذا اللقاء أنه لا يعبأ بمثل هذه الأعراف والضوابط السياسية، وهو ما يمثل تناقضا صارخا لكون هذا الموقف يتناقض مع ما يصرح به عبر وسائل الإعلام، ويتناقض مع تصريحات بعض السادة الوزراء في مناسبات عديدة؛ منها: تصريحات وزير الشؤون العامة والحكامة السيد محمد نجيب بوليف: "... ما تعهدت به الحكومة السابقة نلتزم به، ونحن نتعهد، في تأكيد لذلك، بتوظيف أصحاب محضر 20 يوليوز ... وبالتالي فالسيد عبد الإله بنكيران ملتزم باتفاق المحضر، فالحكومة لن تتراجع عن عهودها كما يظن البعض !" برنامج " قضايا و آراء" بُث في شهر يناير الساعة التاسعة والربع مساء. تصريحات السيد مصطفى الخلفي وزير الاتصال والناطق الرسمي باسم الحكومة: "... بالنسبة لحاملي الشواهد العليا المعطلين، الحكومة السابقة قامت بمجهود في هذا المجال، ومُتممة "أي أصحاب محضر 20 يوليوز" سيُقضى برسم السنة المالية 2012، يقضي بإدماج حوالي 4000 إطار منضو تحت المجموعات الموقعة على المحضر، وهو التزام من الحكومة السابقة تعهدت الحكومة الجديدة بالالتزام، وحتى نصبح حكومة قادرة على اتخاذ قرارها بعد المصادقة على قانون المالية، سيتم تنزيل هذا الأمر..." برنامج ملف للنقاش. تصريحات السيد نزار بركة وزير الاقتصاد والمالية: "... ملف تشغيل حاملي الشواهد العليا سيدبر وفق مقاربة شفافة ونزيهة، وأعلن أن الحكومة ستلتزم بالتوظيف المباشر للأطر العليا، التي وقعت معها الحكومة السابقة محضر للتوظيف المباشر دون مباراة". في حوار مع جريدة "الصحراء المغربية" 16/03/2012. تصريحات السيد عبد الواحد سهيل وزير التشغيل والتكوين المهني: "القرار اتخذ، وهذه الحكومة التي ورثت قانون المالية المعد من قبل الحكومة السابقة والمكيف بسياستها، ستحترم الالتزامات، كل الالتزامات المتخذة من قبل الحكومة السابقة التي اتخذتها تلك الحكومة"، بل قالها صراحة: "إذا التزمت (الحكومة السابقة) بتشغيل، بصفة مباشرة، عددا من حاملي الشواهد المعطلين في إطار اتفاقي مع تمثيلياتها، إذن ستنفذ الحكومة الجديدة ذلك"، ف "نحن أمام منطق استمرارية التزامات الدولة". (في حوار مع صحفي الإذاعة الوطنية / القناة الثانية، في برنامج " Grande Angle " الجمعة 30 مارس 2012، 30:22). وإذا، كيف يَعِنُّ لرئيس الحكومة أن يتناقض مع نفسه، وينفي تصريحات وزرائه؛ أين هو الالتزام الأخلاقي الذي يُتغنى به في كل مناسبة وسانحة؟ وهل نحن أمام حكومة واحدة بمكونات أربعة أم أمام أكثر من حكومة؟ بل أين هو التناغم والانسجام بين وزراء الحكومة المنتسبين إلى العدالة والتنمية أنفسهم؟ ولا أعتقد أن موقف السيد بنكيران سيروق لباقي الشركاء (باقي أحزاب الأغلبية) التي يعبر الفاعلون فيها عن التزامهم بالمحضر؛ وكأن موقف الأحزاب الثلاثة الأخرى في كفة، وموقف حزب العدالة والتنمية، بل موقف السيد الأمين العام للحزب في كفة أخرى، مما يعني أن توترا سياسيا يلوح في الأفق بين مكونات الأغلبية الحكومية بل وداخل حزب المصباح نفسه بين مؤيد ومعارض. في السياق ذاته، فاجأنا السيد باها، بعدما جابهناه بأن المرسوم الوزاري الاستثنائي الذي وُقِّع على المحضر إبّان سريانه وداخل أجله واستنادا إليه، صُودق عليه من طرف المجلس الحكومي في عهد الحكومة السابقة بل ومن لدن المجلس الوزاري برئاسة جلالة الملك نصره الله وهو أعلى سلطة في البلاد، بإجابة تحمل أكثر من رسالة، حيث قال: "وإن يكن" ضاربًا عرض الحائط القرارات السيادية لهذين المجلسين، وهو ما لم يجرؤ على قوله أحد من الوزراء في إحدى الحكومات السابقة. و"الذريعة" الوحيدة التي يتذرع بها السيد باها والسيد بنكيران نفسه هي أن قانون الوظيفة العمومية الجديد لا يعترف بالتوظيف المباشر، وإن كنا قد لمسنا من خلال هذا اللقاء نقصا في الزاد القانوني للمسؤولين؛ إذ يجهلون أن هذا القانون لم يدخل حيز التنفيذ إلا في فاتح يناير 2012 والحال أن التوقيع على المحضر تم في 20 يوليوز 2011 إبان سريان مفعول المرسوم الوزاري الاستثنائي وهو يضمن حقوقا مكتسبة للموقعين عليه برضا الطرفين، وكل ما في الأمر أن هناك "أجلا واقفا" (بلغة القانون) يعتبر شرطا لتنفيذ مقتضيات المحضر، وهو المصادقة على مشروع قانون المالية، ولسنا نتحمل أي ذنب ومسؤولية في تأجيل المصادقة عليه، أضف إلى ذلك أنه "لا رجعية في القانون" وهي قاعدة عامة ومجردة يعرفها الجميع بلْهَ المتخصصون في القانون، وإن لم أكن منهم. من جهة أخرى، فجّر السيد باها، في مناسبة ثانية، مفاجأة لم تكن في الحسبان في معرض رده عن سؤال لم يجدوا له جوابا، ومنطوق هذا السؤال: أن هناك أزيد من 1473 إطارا تم التعاقد معهم في إطار الدفعة الأولى (التي تم فيها توظيف 4304 إطارا، والتي نحن دفعة ثانية تالية لها)، لكن لم يتم ترسيمهم بصفة نهائية، وإذا، بأي صيغة قانونية وبأي موجب قانوني سيتم إدماجهم وترسيمهم، في ظل سريان قانون الوظيفة العمومية الجديد؟ ! وبما أن هذا السؤال هو إشكال عويص أدخل المسؤولين في حيرة من أمرهم فوجدوا أنفسهم في مأزق قانوني، والحال أنهم يدعون التزامهم بالقانون، فكان أن رد السيد باها بكلام من المترقب في حال تحقق مدلوله أن يؤدي إلى أزمة اجتماعية حقيقية؛ حيث قال: "هؤلاء لا يُعتبرون موظفين بعد، ويمكن فك العقدة معهم" فهل يُعقل أن يتم تسريح 1473 إطارا موظفا بكل بساطة بعد أن تقاضوا رواتبهم المعادلة للسلم الترتيبي 11 مدة سنة كاملة ! إذا تحقق ذلك ستكون فضيحة سياسية ومعضلة اجتماعية لم يسبق إليها مثيل.. بمثل هذه العبارات اللامسؤولة، والتي تفتقد للجرأة السياسية بخلاف ما قد يتوهمه البعض، يتم التنصل من الالتزامات والمسؤوليات بدل الاحتكام إلى القرارات السيادية للدولة التي تضمن حقوق المواطنين، وبخاصة البسطاء منهم. يُذكر، في نهاية هذا المقال، أن السيد الموقر رئيس الحكومة يتحدث بطريقة تنم عن استهتار بمعاناتنا؛ فبعد أن ناضلنا منذ أكثر من سنة نضالا أفرغنا فيه بعضا من عمرنا على نفاسته ومالنا على قلته، وجَاهدنا فيه بصحتنا ودمائنا ودموعنا، يرد علينا السيد المحترم بقوله: "سيروا أوليداتي، توكلو على الله ودوزوا المباراه" بطريقة تهكمية فيها استصغار لنا وازدراء علينا، بل ويحسسنا وكأنه، إن التزم، سيقدم لنا "صدقة" من عنده. ولذلك أجددها باسم الأطر جميعا: نحن، معشر الأطر العليا المعطلة، ننتزع حقوقنا ولا نستجدي أحدا، وإذا لم يكن لنا سند قانوني يشهد لنا ويضمن حقوقنا لما اخترنا النضال مبدأ ومسلكا لنا، بل ولما جلسنا مع المسؤولين إلى طاولة الحوار أصلا. وعليه، نندد، باسم الأطر المشمولة بالمحضر المذكور، بموقف رئيس الحكومة السالف الذكر الذي يصادر على حقوقنا ومكتسباتنا المضمونة بقوة القانون وبمنطق الالتزام السياسي والأخلاقي، ويتناقض مع تصريحات له سابقة ويتعارض مع موقف باقي الوزراء والشركاء في الأغلبية الحكومية، كما نحمل الحكومة كامل المسؤولية عن الآثار الوخيمة التي يمكن أن يُسفر عنها التنصل من الالتزامات الحكومية وعدم تنفيذ مبادرة قامت بها الحكومة السابقة باسم جلالة الملك كما هو منصوص عليه في المحضر. ولسنا في حاجة إلى تأكيد عزمنا على مواصلة نضالنا السلمي لانتزاع حقوقنا العادلة والمشروعة.
[1] - المنسق العام للتنسيقية الوطنية للأطر العليا المعطلة