النظافة شرط أساس من شروط الصحة، وفي زمن كورونا تمت إعادة اكتشاف النظافة من جديد، فكثر الحديث عنها وعن ضرورتها، ولا يستبعد أن يكون فيروس كورونا نفسه نتاجا من نتاجات التلوث الذي يعني بكل بساطة غياب النظافة. التلوث تعددت أسمائه ومسمياته: التلوث المائي/ الهوائي/ تلوث التربة/ التلوث الصناعي/...الخ.. إننا كلما أوغلنا في مسيرة التقدم التكنولوجي زاد ابتعادنا عن فعل النظافة وثقافتها. بالأمس كان كل الناس أحرص ما يكونون على تنظيف منازلهم وأحيائهم، أما اليوم فان غالبية الناس يتخلصون من قماماتهم ونفاياتهم بصورة غير لائقة ولا حضارية. وكثيرا ما تمر بمحاذاتك سيارة فارهة بسرعة جنونية، وفجأة يقدم راكبوها على إلقاء كارتون البيتزا، أو علب السجائر الفارغة أو ما شابه على قارعة الطريق دون أدنى إحساس بالمسؤولية. أما خلال أيام عيد الأضحى فتتحول أزقتنا وشوارعنا إلى مطارح كبيرة للأزبال وجلود الأضاحي وما يتصل بها من نفايات ، فلا ينقصنا والحالة هاته، سوى أن نحتفل سنويا بفشلنا في تدبير أمور نظافتنا ، ولننظم كل سنة مهرجانا نطلق عليه اسم: مهرجان القمامة. وبمقارنة بسيطة نلاحظ أن السياح يقبلون في القطارات والحافلات على مطالعة الكتب والمجلات ، وحينما يتناولون طعامهم يحرصون على ترك المكان نظيفا، أما نحن فكثيرا ما تزكم أنفك روائح البيض المسلوق أو الدجاج وتجد بقايا الطعام متناثرة هنا وهناك. المسألة إذن مسألة تربية ليس إلا ، تتعاضد فيها مؤسسات البيت والمدرسة والإعلام. لقد طالبت الكثير من الفعاليات الجمعوية التي تعنى بشؤون البيئة المجالس الجماعية في المدن خاصة، بإحداث مراحيض بالفضاءات العامة لكن لا حياة لمن تنادي، ولذلك لازلنا ونحن في الألفية الثالثة نتبول ونقضي حاجاتنا في الحدائق العمومية وتحت الأسوار التاريخية. هكذا نحتفي بذاكرتنا الثقافية، أسلافنا مرّوا من هنا شادوا حضارتهم وقالوا كلمتهم الشهيرة:
تلك آثارنا تدلّ علينا *-* فانظروا من بعدنا للآثار
أما نحن فلا نخجل من سلوكياتنا الرعناء وكأن لسان حالنا يقول: تلك بقايانا فاسشنشقوا...
انه مظهر من مظاهر هذه النزعة التدميرية للذات حيث انحلت قيمنا وتلبستنا التفاهة،والحال أن تاريخنا وثقافتنا بكل روافدهما طافحان بالنماذج والمثل والمسلكيات الراقية المتصلة بالنظافة والطهارة.
ما سبق يقودنا للحديث عن عمال النظافة ببلادنا، فهؤلاء الأبطال وضعناهم في أدنى مراتب السلم الاجتماعي ولم نهتم بهم يوما أو نراعي ظروفهم، بل إن الكثير من منعدمي الضمير ينظرون إليهم نظرة دونية، والحال أنهم مواطنون شرفاء يقومون بمهام نبيلة تضمن السلامة الصحية والبيئية وتقي الجميع من الأمراض والأوبئة. فليحاول كل منّا أن يتأمل في وضع هذه الشريحة الاجتماعية: ينهضون في ساعات مبكرة في الوقت الذي نغط فيه نحن في نومنا ونلتذ بأحلامنا، يتحدون البرد والحر، يجمعون النفايات قليلها وكثيرها، وفي أيام العيد لا يحصلون على إجازات كباقي
الناس، ففي الوقت الذي يتمتع فيه الجميع بفرحة العيد تتحول فرحتهم هم إلى نكد، إذ يقضون ساعات طويلة في جمع أكوام النفايات، يستنشقون الروائح الكريهة ويكونون معرضين لخطر الإصابة بالأمراض الخطيرة خاصة تلك المتعلقة بالجهاز التنفسي والأمراض الجلدية ، والمصيبة كل المصيبة أن بعض الشركات لا توفر لهم الملابس الواقية المناسبة. وفوق هذا وذاك فهم لا يحصلون على رواتب مهمة ، وأكثرهم لا تتجاوز رواتبهم الحدّ الأدنى للأجور، أما في البلدان الأوربية التي تقدر دورهم وتضحياتهم فهم يحصلون على أجور محترمة تضمن لهم العيش الكريم. ولا أحد ينكر الأدوار البطولية التي قاموا ويقومون بها في زمن كورونا، فهم في خط الصدّ الأول مثلهم مثل طلائع الجنود التي تتقدم الصفوف، وقد شكلوا الاستثناء بمعية رجال الصحة في حماية الصحة العمومية، فقاموا بحملات تطهير و تعقيم للهواء شملت كل الفضاءات والمرافق العمومية .
وإزاء هذه التضحيات لا نملك إلا أن نرفع القبعة لهؤلاء العمال الأبطال ، الذين لا زالت للأسف شركات التدبير المفوض تتغاضى عن مطالبهم الاجتماعية والتي تتلخص في الرفع من الأجور وإعادة النظر في عدد ساعات العمل وتحسين شروط الاشتغال من خلال توفير المستلزمات الصحية الوقائية.