بقدر ما استطاع فيروس كورونا المستجد أو "كوفيد -19" هذا الكائن الصغير الحجم المتعدد الأضرار والذي لا يرى بالعين المجردة، أن يزلزل الأرض من تحت أقدام الكبار والصغار، يثير الهلع والرعب ويحصد آلاف الأرواح من مختلف الأعمار في جميع بقاع الأرض، وأن يوحد العالم ويشحذ همم وعزائم الأطباء والعلماء الذين مازالوا يواصلون البحث عن سبل التصدي له وتدميره، باعتباره خطرا داهما وعدوا مشتركا للإنسانية جمعاء. بقدر ما ساهم في إحياء ثقافة التكافل والتضامن التي تستمد قيمها النبيلة من تعاليم ديننا وتقاليد وأعراف مجتمعنا، وجعل الشعب المغربي الأبي يهب بكل ما أوتي من قوة ورباطة جأش، لمواجهته والدفاع عن صحة وسلامة أبنائه... وإذا كانت جهود السلطات المغربية المتمثلة في القيام بمجموعة من التدابير الاستباقية والوقائية، وما رافقها من مبادرة ملكية سامية في التعجيل بإحداث صندوق خاص بتدبير ومواجهة الجائحة، قد لقيت استحسانا وتثمينا كبيرين من قبل المواطنين المغاربة والأجانب والعالم أجمع. وأن الأطقم الطبية من أطباء وممرضين وتقنيين، وأجهزة الأمن وأعوان السلطة، والأطر التعليمية من أساتذة وإداريين، نالوا بدورهم حظهم الوافر من العرفان المعنوي في منصات التواصل الاجتماعي وداخل البيوت بين الأسر والعائلات، لما يكرسونه من أعمال جليلة لخدمة الصالح العام كل في دائرته ومن موقعه. فإن هناك فئات مجتمعية أخرى لم تسلط عليها الأضواء بالشكل الكافي، علما أن دورها في هذه المعركة الحاسمة لا يقل أهمية عن باقي "الجنود" الآخرين، ويأتي في طليعتهم عمال النظافة في القطاعين العام والخاص من الجنسين، شبابا وكهولا. وهؤلاء العمال ليسوا سوى فئة من أبناء هذا الوطن، الذين عاكستهم ظروف الحياة لأسباب مختلفة وضاقت بهم السبل، فوجدوا أنفسهم مضطرين إلى الانخراط في هذا العمل الشريف، بحثا لأنفسهم وأبنائهم وعائلاتهم عن لقمة عيش نظيفة من بين القاذورات والنفايات، غير مبالين بنظرات الازدراء والاحتقار التي تطوقهم في مناطق عملهم بالمؤسسات العامة والخاصة وبالشوارع والأزقة، سواء من قبل المسؤولين أو بعض المواطنين. هم "جنود" غير مسموح لهم بترك مواقعهم عدا بعد نهاية أوقات مداومتهم، وإلا لعرفت احتلالا كاسحا من الأكياس البلاستيكية المحملة بالأزبال والقاذورات، وانتشارا قويا للحشرات والروائح الكريهة، التي من شأنها تحويل حياة السكان إلى جحيم لا يطاق، فضلا عما قد يتهدد صحتهم وسلامتهم من مخاطر متعددة ومتنوعة. هم فئة من المواطنين آمنوا بربهم وقدرهم، يعملون بخشوع وبلا ضجيج، تتصبب جباههم عرقا صيفا وشتاء، لا يستسلمون لتقلبات الطقس عند ارتفاع درجات الحرارة أو أثناء انخفاضها، كما لا يولون كبير اهتمام لما يلاقونه من جحود وغبن ونظرة دونية. وعلى الرغم من أنهم يقعون في أدنى السلم الاجتماعي، حيث أن رواتبهم لا تتعدى الحد الأدنى للأجور، فإنهم يواجهون واقعهم البئيس بثبات، آملين أن يأتي يوم تصان فيه كرامتهم وتتحقق العدالة الاجتماعية. فهم آخر من يهتم الناس والدولة بشؤونهم، أمام ما يقدمونه من خدمات كبيرة في تنظيف المدن ودروبها وشوارعها ومؤسساتها العامة والخاصة. فكيف ل"2000" درهم شهريا أن تكفيهم في تغطية واجبات الإيجار وفواتير الماء والكهرباء ومصاريف النقل والتغذية والتطبيب... لاسيما أنهم كثيرا ما يصابون بأمراض جلدية وغيرها، بسبب العمل بين تأثير الروائح القذرة ولسعات البعوض والحشرات؟ ومما زاد من معاناة هؤلاء "الشغالين" في هذه الظروف الصعبة التي تستلزم المزيد من اليقظة والتعبئة والحفاظ على نظافة الإنسان والبيئة، أنهم في الوقت الذي يعيش فيه بقية المواطنين حالة من القلق والتوجس خوفا من الإصابة بلعنة "كوفيد -19" اللئيم، منكمشين في بيوتهم التزاما بقواعد النظافة والسلامة الصحية، فرض عليهم البقاء في الواجهة ومواصلة أشغالهم. إذ يغادرون بيوتهم مع خيوط الفجر الأولى باتجاه مواقعهم، لا سلاح لهم يقيهم شر الوباء عدا ملابسهم المعتادة، أضيف إليها كمامات وقفازات يجهلون مدى قدرتها على حمايتهم من لدغات الفيروس القاتلة. منهم من يجر عربته المحملة بأدواته التقليدية البسيطة نحو المواقع المحددة له سلفا لتنظيفها، ومنهم من يعمل في شاحنات كبيرة بعضها مهترئة وتبعث على التقزز والغثيان، مخصصة لجمع النفايات من أمام المنازل وإفراغ الحاويات المليئة بالقاذورات، والسهر على تنظيفها ومحيطها من مخلفات النفايات التي يقذف بها المواطنون كيفما اتفق، دون أدنى مراعاة لما يمكن أن يترتب عن ذلك من مخاطر على هؤلاء المستضعفين في نقل عدوى الوباء إلى بيوتهم. إننا إذ نرفع القبعة احتراما وتقديرا لهذه الفئة من العمال المهضومة حقوقهم، على ما يقدمونه من تضحيات جسام في سبيل تطهير أزقتنا وأحيائنا وشوارعنا وتنظيف مؤسساتنا ومدننا والحفاظ على بيئتنا، خاصة في هذه الفترة الحرجة التي يطاردنا فيها فيروس كورونا، فمن غير المنصف التمادي في غض الطرف عن أحوالهم المتردية، التي لن يجدي الكشف عنها نفعا ما لم يكن مقرونا بالانكباب على تسوية أوضاعهم فور الانتصار على الجائحة، إذ لا يعقل أن يظلوا عرضة للمزيد من التهميش والتجاهل. فالآلاف من حملة المكانس يعملون دون حماية قانونية ولا إدراية ولا تغطية صحية، مقصيين من الترسيم في القطاع الخاص أو الإدماج في الوظيفة العمومية، ولا يتمتعون برواتب محترمة ولا بشروط عمل مناسبة من حيث الملابس اللائقة والوقاية من الأخطار والأمراض المعدية، على غرار نظرائهم في سائر الدول الغربية...