سمِعنا كثيراً في الفترة الأخيرة عن جائحة إصابة البشر بفيروس كورونا الجديد (سارس كوف-2 أو SARS CoV-2) الذي يسبب مرض كوفيد 19 الذي انتَشَر في كافة أرجاء العالَم، وأصاب أكثر من سبعة ملايين إنسان، وقضَى حتى الآن على أكثر من نصف مليون إنسان، وسمِعنا أنه ربما انتَقَل إلى البشر من الخفافيش. وسمِعنا قَبل سنوات عن إنفلونزا الخنازير وإنفلونزا الطيور ومَرض ميرس MERS الذي انتَقَل إلينا من الجِمال، وقَبلَه مَرض سارس SARS الذي انتقَل إلينا أيضاً من الخفافيش. وعَرِفنا على مَرِّ التاريخ بوجود أوبئة كثيرة مثل الطاعون الذي انتقَل إلينا من الجرذان.. فما هي حكاية كل هذه الأمراض التي تقفز إلينا من الحيوانات؟
في الحقيقة إن أكثر من 70% من الأوبئة والجراثيم والفيروسات والأمراض المُعدِية المختلفة تَنتَقِلُ إلى الإنسان من الحيوانات، ونَشَرَ عالِم الأحياء ديفيد كوامن David Quammen كتاباً مهماً في سنة 2013 عن انتشار الأمراض من الحيوانات إلى البشر عنوانه "الانتشار Spillover" وصَفَ فيه تاريخ انتشار الأمراض المُعدِية من الحيوانات إلى البشر، ورَكَّزِ على انتقال الفيروسات من الحيوانات، وتَنَبأ بتكرار حدوث ذلك وانتشار أوبئة فيروسية مَحَلية وجائحات عالمية في المستقبل القريب. * ما هي الفيروسات؟ الفيروسات كائنات بسيطة جداً في تكوينها، وليس فيها من صفات الحياة سوى قدرتها على التكاثر، وحتى في ذلك لا يمكنها التكاثر بنفسها، بل تحتاج إلى التَّطَفل على خليّة حيّة لكي تُوظِّفَ نشاطَها الحيوي لصالح تكاثر الفيروس وذلك بتَسخير النظام الوراثي للخليّة الحيّة لصالح الفيروس المتَطَفِّل عليها، أي أن الفيروسات طفيليات مُجبَرَة، لا تستطيع الاستمرار في الوجود إلا بالتطَفُّل على كائنات حيّة غيرها. ما هو تركيب الفيروسات؟ يتألف الفيروس من شريط بسيط من الأحماض النووية الوراثية الذي قد يكون من نوع RNA أو DNA، ويُحيط بهذا الشريط المُلتَف على نفسه غلافٌ بسيط من مواد بروتينية ودهنية. ولا تحتوي في داخلِها على أية مواد أخرى إذ أنها لا تقوم بأي نشاط حيوي، فهي لا تأكل ولا تشرب ولا تتحرك ولا تفكر ولا تتذكر.
هناك بلايين من الفيروسات، وهي تتطَفَّل على كافة أنواع الكائنات الحية تقريباً.. على البكتيريا والنباتات والحيوانات، وليس من مصلحة أي نوع من الفيروسات أن تقضي على الكائنات الحيّة التي تعيش فيها وتَعتَمد عليها إجبارياً للاستمرار في الوجود والتكاثر.
كل نوع من الفيروسات يتناسَب مع نوع معيَّن من الكائنات الحيّة التي يستطيع التكاثر فيها دون أن يُسبِّبَ لها الضرر، فهي تُشَكِّلُ بالنسبة للفيروس نوعاً من الحاضِنة "الطبيعية"، ولكن الإمراضية قد تَحدث عندما ينتقل نوعٌ من الفيروسات من حاضِنةٍ طبيعية إلى كائن حيّ آخر غيرها، إذ تتغير الصفات الوراثية للفيروسات باستمرار وبشكل كبير وسريع، خاصة في الفيروسات التي تتألف مادّتها الوراثية من الحمض النووي RNA.
وعندما تتغير المادة الوراثية لفيروس ما فإنه في الغالبية العظمى من الحالات يَخسَر حاضِنته الطبيعية ولا يستطيع الاستمرار في الوجود والتكاثر ويضطر للوصول إلى حاضِنة حيّة غيرها، أي يُضطَر للانتقال إلى خلايا حيّة جديدة تُناسِب التغير الجديد في تركيبه الوراثي، وتفشل هذه العملية وتتلاشى الفيروسات الجديدة ربما بلايين المرات قبل أن يصادف فيروسٌ جديد خليّةً حيّة جديدة تُناسِبه ويستطيع أن يَدخل إليها ويتكاثر فيها ويستمر في الوجود في حاضِنته الجديدة، وهو لا يفعل ذلك بتفكير وتخطيط بالطبع، بل يَحدُثُ ذلك بصُدفَةِ الالتقاء المَحضَة لأنه كما ذَكَرنا سابقاً: الفيروساتُ لا تفكر ولا تخطط ولا تتحرك بذاتها، وكلما كانت صفاتُ خلايا الكائن الحيّ (الحاضِنة الجديدة) أقرَبَ إلى صفات خلايا الحاضِنة السابقة، كانت فرصة نجاح الفيروس الجديد في الانتقال إليها أكبَر. ولذا يجب ألا نَستَغرب كَثرَة انتقال الفيروسات من الثدييات (الخفافيش والخنازير والقرود) إلى البشر، وتزداد فرصةُ الفيروس الجديد في التكاثر إذا نجح في تحقيق الانتقال ليس إلى فردٍ واحدٍ فقط من الحاضِنة الجديدة (من الخفاش إلى الإنسان فقط)، بل إذا نجح في الانتقال بين أفراد الحاضِنة الجديدة، أي من إنسان إلى إنسان آخر، حَدَثَت الحالة الأولى مثلاً في وباء إيبولا ووباء السارس SARS، ونَرى الحالة الثانية تَحدثُ الآن في جائحة كورونا الجديد. * حضارة التواصل الاجتماعي وتسارع المواصلات التَقَى الإنسان مع النباتات والحيوانات خلال تاريخ حياته على مَرِّ مئات آلاف السنين، ولا شك في أن الفيروسات قد انتقلَتْ من الحيوانات إلى الإنسان بالتواصل والتقارب خلال عملية الصيد أو تأهيل الحيوانات وتربيتها أو أكل الحيوانات البرية.. وسبَّبَ ذلك التواصل حدوث بعض الأمراض والأوبئة الكثيرة المعروفة عند الإنسان، منها ما هو قديم مثل الملاريا والطاعون والسل والجدري والحمى المالطية.. ومنها ما هو جديد مثل الإيدز من القرود والإيبولا من الخفافيش وغيرها.
لعل تَقدُّمنا وتَسارع وسائل مواصلاتنا وانتشارنا في كافة أرجاء العالَم، وتَزايد أعدادِنا كلها من عوامل الحضارة والتَّقدّم، ولكنها في الوقت نفسها أدّت إلى زيادة تَعاملنا مع أنواع جديدة من الحيوانات، وبالتالي ارتَفعتْ فرصةُ الفيروسات الجديدة في الانتقال من حيوانات برّية متنوعة إلى البشر، مثلما حَدَثَ عندما انتقل فيروس كورونا الجديد من الخفافيش إلى البشر في سوق الحيوانات البرية في مدينة ووهان الصينية، ثم انتقل بين البشر في وباء مَحَلي في منطقة شرق آسيا، ومن ثم انتشر الوباء في جائحة عالمية بفضل تطور وسائل المواصلات السريعة وزيادة مناسبات وضخامة التواصل الاجتماعي. * هل يمكن أن تتكرر الجائحات؟ بالنظر إلى تطور المجتمعات الإنسانية الحاليّ فإن السؤال الحقيقي ليس فيما إذا كان من الممكن أن تتكرر الجائحات، بل متى سيَحدُثُ ذلك؟ وهل ستكون الجائحاتُ الجديدة أكثر خطورة؟ أم أننا سنكون أكثر استعداداً؟