دراسة جديدة تناقش آلية ارتباط الفيروس مع مستقبلات معينة على خلايا جسم الإنسان، وتبحث في كيفية انتقاله للبشر. مع تجاوز أعداد المصابين بفيروس كورونا المستجد المليون ونصف مليون إصابة مؤكدة، تتجه أعين العالم إلى العلماء والباحثين، ينتظر الجميع -بفارغ الصبر- نتائج الأبحاث التي تجرى على قدم وساق من أجل التوصل إلى علاج فعال للفيروس. ولكي يتمكن الباحثون والعلماء من مواجهة تلك الجائحة التى انتشرت فى العالم كالنار فى الهشيم، لا بد أن يتسلحوا بالفهم الدقيق والمعرفة الواضحة عن ذلك الفيروس. إن أحد مفاتيح معالجة هذا الوباء هو فهم آلية التعرف على مستقبِلات الفيروس التي تنظم قدرته على العدوى وإحداث المرض. لهذا يشتغل قطاع واسع من الباحثين بدراسة المادة الوراثية للفيروس فى محاولة للتوصل إلى العلاقة التطورية بينه وبين فيروسات أخرى، ما يسهم فى فهمه ومعرفة الآلية التى يعمل بها داخل الجسم. في هذا الإطار، نشرت دورية نيتشر دراسة جديدة أجراها فريق من الباحثين فى جامعة مِنيسوتا الأمريكية، يمكنها أن تزيل قدرًا كبيرًا من الغموض الذي يحيط بالفيروس. عقدت الدراسة مقارنةً بين فيروس كورونا المستجد وأقرب أقربائه من عائلة الفيروسات التاجية، فيروس “سارس” SARS، الذي سبَّب فاشية عام 2002- 2003 وأدت إلى وفاة أكثر من 700 شخص. أظهرت نتائج الدراسة أن الطفرات التي طرأت على فيروس كورونا المستجد جعلته أكثر شراسةً وخطورة، وبرغم أن كلا الفيروسين يرتبط بالمُستقبِل نفسه على خلايا الإنسان -مُستقبل الإنزيم المحول للأنجيوتنسين-2 (hACE2)- ولكن فيروس كورونا المستجد ذو قدرة على الارتابط به بشكل أكثر إحكامًا، بفضل الطفرات التي حدثت للمادة الوراثية ونتج عنها تغيرات في بنية الفيروس نتيجة تغيُّر بعض الأحماض الأمينية فى “نطاق ارتباط المستقبل”، وهو الجزء الذي يرتبط بمستقبِلات (hACE2)، ويُعرف اختصارًا بRBD، مما أدى إلى زيادة انجذابه وملاءمته لتلك المستقبلات. نظرة عن قرب يتكون التركيب البنيوي لفيروس كورونا من غشاء بروتيني يبلغ قُطره 50 -200 نانومتر، ويغلف بداخله الحمض النووي الخاص بالفيروس RNA، وكباقي الفيروسات التاجية يتكون الفيروس من أربعة أنواع من البروتينات البنيوية تُسهم في تكوين هيكل جسم الفيروس، منها البروتين (S) الذي يُعرف ب(بروتين الحَسَكَة)، الذي يشكل النتوءات الشوكية الموجودة على سطح الفيروس وتمنحه الشكل التاجي المميز. يقول “فانغ لي”، أستاذ مساعد في قسم العلوم البيطرية والعلوم الطبية الحيوية، بجامعة مينيسوتا الأمريكية، والذي قاد الفريق البحثي للدراسة، فى تصريحاته ل”للعلم”: “لِكَي يصيب الفيروس إحدى الخلايا بالعدوى، يستخدم البروتين (S)، الذي يرتبط بالمستقبِلات الموجودة على غشاء الخلية المضيفة -خلايا الرئة- مثل ارتباط المفتاح بالقفل، ويُمكِّن ذلك الارتباط الفيروس من دخول الخلية، لذا فإنه يُعَد خطوة مهمة فى حدوث العدوى. كما تحدد آلية ذلك الارتباط نوع العائل الذي يمكن أن يصيبه الفيروس”. ووفقًا لما جاء فى البيان الصحفي الذي أصدرته جامعة مِنيسوتا الأمريكية، فإن تلك الدراسة تُعَد الأولى من نوعها التي تستخدم الأشعة السينية لتحديد التركيب البلوري ثلاثي الأبعاد للمركب الناتج عن ارتباط الفيروس مع مُستقبل (hACE2) من أجل التوصل إلى الطفرات التي طرأت على هيكله، والتي تميز فيروس كورونا المستجد وتجعله أكثر قدرةً على إحداث العدوى، مقارنةً بفيروسات تاجية أخرى مثل “سارس” وفيروس RaTG13، وهو فيروس تاجي آخر يصيب الخفافيش ويرتبط بالمُستقبِل نفسه (hACE2). من أين جاء الفيروس؟ تعزِّز الدراسة نظرية تطور الفيروس من فيروسات تاجية أخرى، ما أسهم في انتقاله من عائل إلى آخر، إذ وجدت أن الفيروس الخفاشي RaTG13 يحتوي على تسلسل أحماض أمينية فى موضع ارتباط الفيروس RBD مشابهة لتلك الموجودة في الموضع نفسه من فيروس كورونا المستجد، مما يرجح أن فيروس كورونا المستجد قد يكون ناتجًا عن تطور الفيروس RaTG13. وتُشير الدراسة إلى أن الطفرات التي حدثت فى موضع ارتباط الفيروس ربما ساعدت على تطوره بشكل يسمح له بالانتقال من الخفافيش إلى البشر. ولكن لا يزال هناك اختلافات بين الفيروسين، منها ما يتعلق بهيكله البنائي، والتآلف الكيميائي بين الفيروس والمُستقبل (hACE2). بينما يعتقد بعض العلماء أنه على الرغم من أن فيروس RaTG13 هو الأقرب من الناحية الوراثية إلى فيروس كورونا المستجد، إلا أنه لا يزال بعيدًا عنه من الناحية التطورية، إذ أشارت دراسة أخرى أجراها علماء صينيون، ونُشرت في “دورية نيتشر” إلى أن الفيروسين يتشابهان في المادة الوراثية بنسبة 96.2%. فى هذا الصدد، تقول رضوى شرف، باحثة في شركة “فونديشن مديسين” للتكنولوجيا الحيوية، فى حديثها مع “للعلم”: “بالنظر إلى الحجم الكبير للجينوم الخاص بكلٍّ من الفيروسين، فإنه يوجد اختلاف في 1130 نيوكليوتيدة -وحدة بناء الحمض النووي”، مضيفةً أنه “من غير المحتمل أن يكون فيروس RaTG13 قد مر بعدد كبير من الطفرات ليستطيع الانتقال من الخفافيش إلى البشر مباشرةً ، وعلى الأرجح يوجد أكثر من عائل حيواني انتقل الفيروس فيما بينها واكتسب عددًا كافيًا من الطفرات تمكِّنه من إصابة البشر”. تقترح الدراسة التي أجراها “فانج لي” وفريقه أنه من المحتمل وجود عائل وسيط وهو حيوان البانجولين -آكل النمل الحرشفي- إذ جرى عزل نوعين من الفيروسات التي تصيب هذا الحيوان، ووُجد أن أحدهما يمكنه التعرف على مُستقبل (hACE2) والارتباط به. ولكن لا يزال هناك الكثير من العوامل التي قد تتحكم في انتقال الفيروس بين مضيف حيواني وآخر بشري. توضح “شرف”: أن “المعلومات التي لدينا لا تزال محدودة، وما نراه ليس سوى قمة الجبل الجليدي”. فهم أفضل، علاج أقرب تتجلى أهمية الدراسة في المساعدة على فهم أعمق للفيروس، يقول “لي”: “مع وجود الهيكل ثلاثي الأبعاد في متناول اليد، حددت الدراسة مواقع الارتباط المهمة على الفيروس، مما يوفر مخططًا لتطوير أدوية جديدة للأجسام المضادة تستهدف تلك المواقع تحديدًا”. ومن المتوقع أن تُستخدم نتائج هذه الدراسة فى تطوير لقاحات للوقاية من مرض (كوفيد-19)، فكما أفاد “لي” يمكن استخدام مواضع ارتباط المستقبلات بالفيروس -التي تشكل أجزاءً من البروتين ((S- في تصنيع اللقاحات لكي تحفز إنتاج الأجسام المضادة في جسم الإنسان، التي يمكن أن تمنع العدوى الفيروسية في المستقبل. من جانبه، أشاد محمد بهي الدين -الأستاذ المساعد في قسم الأحياء الدقيقة والمناعة، كلية الصيدلة، جامعة الإسكندرية- بأهمية نتائج الدراسة، وقال فى تصريحاته ل”للعلم”: “كشفت الدراسة عن نقاط تفاعل مهمة يمكن استهدافها بواسطة الأجسام المضادة أحادية النسيلة (تستطيع التعرُّف على بروتينات الفيروس) للعلاج، وتُعد هذه المُخرَجات ذات قيمة بالنسبة للعلماء الذين يعملون في تصميم الأدوية واللقاحات”. وبالفعل فقد أوضح “لي” أن الخطوة التالية في خطة فريقه البحثي هي استخدام النتائج التي توصلوا إليها لتطوير أدوية ولقاحات تعمل على إعاقة ارتباط الفيروس بخلايا العائل، مشيرًا إلى أنه يمكن تبسيط فكرة عمل هذا النوع من التدخلات العلاجية كأنه يقوم بتشويش الرادار الخاص بالفيروس فلا يستطيع إيجاد المدخل المناسب للخلايا. من ناحية أخرى، يعتقد فريق من العلماء أن التعرف على مواضع ارتباط الفيروس بالخلايا قد لا يشكل أهمية كبيرة فى تطوير اللقاحات، الأمر الذي أكده إيان جونز، أستاذ علم الفيروسات، جامعة ريدينج البريطانية، في حديثه ل”للعلم”، قائلًا: إن هناك العديد من اللقاحات التي جرى تطويرها في الماضي لفيروسات أخرى دون الحاجة إلى هذا الكم من التفاصيل، ولكن قد تفيد تلك النتائج في مجال آخر مثل العلاج عن طريق أجسام مضادة سلبية passive antibody therapy. يُذكر أن العلاج عن طريق الأجسام المضادة السلبية يتم عن طريق استخلاص أجسام مضادة من الأشخاص الذين تعافوا من المرض واستخدامها في علاج المصابين، وكان باحثون من “مدرسة جونز هوبكنز للصحة العامة” قد نشروا دراسة في “ذا جورنال أوف كلينيكال إنفيستجشين”The Journal of Clinical ” Investigation تشير إلى إمكانية إستخدام هذا النهج في علاج مرض “كوفيد – 19” الذي يسببه فيروس كورونا المستجد.