إن الغوص في تفاصيل الحياة الفكرية والثقافية لمجتمعنا يشعرنا أحيانا بأننا أمام مجتمعين مختلفين، مجتمعان بالرغم من أنهما يبدوان وكأنهما وجهان لعملة واحدة إلا أن حدودا مرسومة بينهما وبدقة، تترك في أذهاننا انطباعا بأن بين هذا وذاك برزخا لا يبغيان. فلكلا المجتمعين ثقافته وفكره، ولكليهما مثله الأعلى وقدوته. فهل هما مجتمعان فعلا أم مجتمع واحد؟ ألا ينبغي التساؤل عن ماهية كل مجتمع إن سلمنا بأنهما مجتمعان؟ ماذا عن فكر وثقافة كل منهما؟ ماذا عن الحدود المرسومة بينهما؟... لابد من التأكيد منذ البداية على أن أنماط التفكير السائدة داخل مجتمعنا والنماذج الثقافية الرائجة فيه -كما هي متجلية في تركيبة العناصر التي تشكله- هي التي جعلتنا نصدر حكما على أن المجتمع الذي نعيش بداخله مجتمعان. الأول يجسد -في ثقافته- ثقافة أصلية أصيلة، مرصعة بعادات وتقاليد، تجعلك تشعر بالبساطة في أسلوب الحياة كما هي متجلية في نمط عيشه في لباسه، ومأكله ومشربه...في كل شيء.
هذا المجتمع لفكره عينان؛ عين علوية مفتوحة على الحاضر لكنها مشدودة – بإحكام- بواسطة حبال ممدودة (التراث والتاريخ) إلى عين سفلية مغروزة في الماضي. فالعين الظاهرية(العلوية) تبصر جيدا (الحاضر)الذي تعيشه، ترى وقائعه، لكنها لا تملك الجرأة الكافية لكي تتخذ قرارات فورية بشأنها، وكخطوة أولية تصور تلك الوقائع وترسلها -عبر تلك الحبال- إلى العين الباطنية(السفلية) باعتبارها المختبر وباعتبارها المؤهلة- دون غيرها- لمدها بالوصفة المناسبة للتعامل مع تلك الوقائع، من منطلق أنها العين الخبيرة الأزلية المطلعة على سائر التجارب وبمنطق أن اللاحق مهما بلغ من العلم ومهما راكم من الكفاءة والتجربة، يستحيل أن يكون أفضل من السابق. وعليه، يحق لنا -والحالة هذه-أن نتأمل هذا السؤال: إلى أي حد تلك العين الباطنية الماضوية ستكون صائبة في قراراتها تجاه وقائع من الحاضر لم ترها؟.
في مراحل تاريخية، تحرشت القوة الأوربية ببلادنا فكان هذا المجتمع في طليعة المتوجسين المحذرين. وفي نظرنا لا غرابة أن تولد من رحمه دعوة صريحة إلى مقاومة ومحاربة تلك القوة الدخيلة، ليس لأنها رمز للهيمنة والامبريالية فقط، وإنما لأنها أيضا تحمل فكرا مخالفا وثقافة مغايرة فيهما تهديد مباشر لفكره ولثقافته. هذا الوعي شكل محركا لعرقلة تقدم تلك القوة أملا في إفشال استراتيجياتها وإرباك خططها ورزنامتها. وحتى عندما رحلت تلك القوة بعد فصول من المواجهة (وهذا فيه كلام)، تناسلت فئة احتفظت بالنظرة ذاتها تجاه أوربا. هذا التناسل أنيط بمؤسسات عريقة كالجامعات العتيقة والكتاتيب القرآنية والمساجد والزوايا...، وللعلم، المهمة بالنسبة لها لم تكن باليسيرة - بحكم تضييق الخناق عليها- ومع ذلك نجحت عن طريق كوادرها في أن تجعل فكرها صامدا، و ثقافتها سارية واستطاعت ضخهما وسط بؤر عريضة من الطلبة والفلاحين، والبسطاء والمعدمين...،
وإذا كان المجتمع الأول -كما أسلفنا- يجسد ثقافة أصيلة بسيطة، فالمجتمع الثاني الذي سأتحدث عنه، يجسد ثقافة متغربة، كانت أول الأمر مقتصرة على النخبة من أبناء البعثات الطلابية التي أرسلت عبر دفعات إلى الديار الأوربية قصد مراكمة الخبرة والعودة بها إلى الوطن للاستفادة منها. هذه النخبة توسعت هالتها لاحقا لاسيما مع موجة الاحتكاك بالقوة الاستعمارية التي فتحت أعين فئة عريضة من ذوي الثقافة المحافظة على الثقافة الأوربية.
إن هذا المجتمع الذي تأثر تأثرا عجيبا بالثقافة الأوربية وبالفكر الأوربي. لا شك أنه لامس فيهما تجليات الحداثة والتقدم والديمقراطية. لذلك، لا غرو أن تنشأ في وطننا إبان الفترة الكولونيالية فئة منبهرة بالغرب تتشبه به وتتخذه مثلها الأعلى في التفكير وفي الثقافة، وهذا له تمظهراته في نمط العيش واللباس والسكن... واللغة. لكن، هل هذا يعني أن هذا المجتمع تقرب من الاستعمار وحاباه؟ أعتقد
أن فئة قليلة منه فعلت ذلك -بقصد او بغيره- فيما الغالبية قاومت تواجده دون أن تقاوم فكره وثقافته. باختصار عندما رحل، ظلت وفية لفكره ولثقافته وأرادت لها ولأبنائها وللمجتمع ككل أن يعيش كما يعيش الغرب ويفكر كما يفكر. ولعل هذا المبتغى أوكل إلى الجامعات الحديثة، والمدارس الخاصة والمعاهد الأوربية باعتبارها آليات وقنوات ومنابر لتفريخ هذا النمط من الثقافة والفكر.
ألا يصح والحالة هذه القول أن هذا المجتمع هو أيضا على المستوى الفكري ينظر بعينين على غرار المجتمع الأول؟ العين الأولى عينه هو، وهي أصلية لديه، شبيهة بالعين العلوية الظاهرة للمجتمع الأول إن لم نقل هي نفسها. تبصر (الحاضر) ترى وقائعه لكن هي الأخرى قاصرة عن إيجاد حلول لها، لذلك تسارع إلى ربط الاتصال بالعين الثانية المتغربة المستعارة والتي في نظرها، تملك عصا موسى، العصا السحرية القادرة على فك طلاسم الحياة بكل تعقيداتها وترميزاتها. والسؤال الذي يستدعى للتأمل هنا أيضا هو: إلى أي حد ستفلح تلك العين الخارجية المتغربة والمستعارة في أن تصدر أحكاما صادقة حول واقع لم تره؟.
لتقريب الصورة عن المجتمعين لا أجد مثالا أصلح وأكثر دلالة ووضوحا من المرأة؛ فالمرأة في المجتمع الأول محافظة مظهرا وسلوكا، متقيدة بالأصالة وبالنظرة العامة التي تحددها معايير المجتمع. بينما المرأة في المجتمع الثاني امرأة متمردة ثائرة عن قواعد المجتمع الأول، إنها امرأة حداثية في تفكيرها في لباسها وسلوكها، امرأة مسايرة للموضة (أزياء، سيارة، طريقة الكلام...)امرأة عنيدة متحررة من قيود المجتمع وسلطته. واذا أردت مثالا ثانيا، يكفي أن تنظر إلى الفكر السائد حول الجائحة التي نعيشها(كورونا)، لتتأكد أن وجهات النظر بخصوصها تعكس في مجملها أفكار هذا المجتمع أو ذاك.
ارتباطا بما سلف، هل مازال لديك شك في أننا إزاء مجتمعين؟
إننا بإثارتنا لهذا الموضوع، لا نبغي إثارة الفرقة بقدر ما نهدف إلى تعميق الوعي حول الثقافة والفكر السائدين في مجتمعنا أو بالأحرى في مجتمعينا. فأي من المجتمعين قدوتك؟
بالنسبة إلي لا هذا ولا ذاك؛ ولأدافع عن وجهة نظري سأعود قليلا إلى الوراء، إلى سؤالين طرحتهما آنفا للتأمل وهما: إلى أي حد العين الباطنية الماضوية ستكون صائبة في قراراتها تجاه وقائع من الحاضر لم ترها؟ وإلى أي حد ستفلح العين الخارجية المتغربة والمستعارة في أن تصدر أحكاما صادقة حول واقع لم تره؟
في اعتقادي الراسخ، النظر بعين الماضي إلى الحاضر يجعل الحلول المقدمة مشوهة بل متجاوزة لا توافق دائما الواقع الذي نعيشه. فالعودة في كل مرة إلى الماضي للنبش فيه عن وصفات نتعامل بواسطتها مع الحياة يظهر الحياة منتهية. ونظرة كهذه تنفي صفة التطور عن الزمن؛ فهل مسلسل الحياة انتهى؟بمعنى هل ما نراه الآن لا يعدو أن يكون لقطات من ذلك المسلسل تتضمن ألغازا فكت منذ زمن؟ لو كان الأمر كذلك ما كنا لنرى كل هذه النعم من حولنا ولبقيت أجسادنا نصف عارية ولبقيت حياتنا بدائية.
في اعتقادي كذلك أن النظر إلى واقعنا بالعين المتغربة المستعارة- أي بعين الآخر- أمر مناف للصواب. فأحيانا يشعر المرء برغبة شديدة في حك أعلى ظهره، وبدلا من أن يقوم بذلك نراه يسند المهمة لمن حوله ويكتفي هو بتوجيهه إلى المكان المضبوط. كلنا نفعل هذا لكن، هل نقتنع بأدائه بعد انتهائه؟ هل نقلع عن الحك بمجرد انصرافه؟ إننا غالبا– و في النهاية - نقوم بذلك بأنفسنا، لكن متى؟ طبعا بعد أن نكون قد أهدرنا ما يكفي من الوقت، ففي تلك اللحظة بالذات نعي جيدا المثل القائل"ما حك جلدك مثل ظفرك". أليس هذا هو حال ذوي العين المتغربة؟ ألا يستعينون بالغرب وبأفكار الغرب لحل مشاكلنا؟ ألا يدركون في الأخير- وأحيانا بعد فوات الأوان- أن ما قدمه ذلك الغرب لا يتوافق دائما مع واقعا؟ ألا يؤمنون في دواخلهم بأن ما قدمه لهم بإمكانهم أن يقدموه لأنفسهم وزيادة؟. فإلى متى سيتخلص هؤلاء من عقدة الغرب؟
إن العلاقة بين المجتمعين معقدة. فرغم التعايش السلمي السائد بينهما ظاهريا_في أغلب الحالات_ إلا أنه توجد في الحقيقية حرب باردة مستعرة باطنيا حول أي من الفكرين أو من الثقافتين أهل لأن يقود المرحلة، إنها حرب ظاهرة تارة ومستترة أخرى، أحيانا تظهر بالتراشق بالكلام وتبادل الاتهامات وأحيانا أخرى تتدفق على شكل مواجهات عنيفة عواقبها غير مضمونة، فالظاهر شيء والباطن شيء آخر وكأن الوضع أشبه ببحر سطحه هادئ لكن في أعماقه تيارات عنيفة تتدافع.
نافلة القول، إن الحدود المرسومة بين المجتمعين يجب أن تذوب. لقد بلغنا مرحلة تاريخية حاسمة، نحتاج فيها إلى معالجة مشاكلنا بالعين التي نراها بها لا بعين الماضي، نحتاج إلى حلول نابعة من تربتنا تراعي امكاناتنا، لا إلى وصفات من غيرنا ومن تربة غير تربتنا.
ان هذه المطالب طبعا لن تتحقق ما لم يحد المجتمع الأول من سطوة عينه الباطنية الماضوية والمجتمع الثاني من سلطة عينه المتغربة المستعارة، ذلك لأن القيام بهذه الخطوة سيجعل كلا المجتمعين يحتفظ بعين حقيقية هي تلك العين التي يرى بها الواقع،وإن دمج العينين في وجه واحد_أقصد في وجه المجتمع المغربي_ لمن شأنه أن يعيد له بصره الذي لطالما افتقده وبعودة البصر ستتمتن الوحدة وستتقوى رؤيته للمستقبل .