خير ما يجسد الحضارة العتيقة المعمار التاريخي، الذي بقي شاهدا على حقب من الحياة البشرية في شكل : مدن تأسست من وضع تاريخي داخل الاسوار، وقصبات ترتبط داخل المدار الحضري بالخدمات العمومية الى جانب القصور، وقلاع من الثغور البحرية والحصون الدفاعية عبر البلد، وأيضا مجمعات سكنية تحمل اسم قصور آهلة من مزارعي الواحات، وكذا مداشير من السفوح الجبلية، ودواوير جماعية من البراري الموسمية، كل ذلك المعمار المطبوع بالمحلية دليل على الاستقرار السكاني الذي حل محل حياة الترحال من نظام اجتماعي اتخذ المدينة مركزا لحاضرة البلد وحياة الساكنة الاجتماعية . المدينة :
وسط حضري من المعمار المتمدن من وقته، والعتيق من معمار جديد أحاط به، من تقدم العصر وتطور آليات وأدوات العمل، مما ولاه الى الارضية التي ينسب منها الى تربة البلد، والتي أقيمت بها الاسوار التي تعلوها أبراج الحراسة التي تتواصل منها خارج المجال بالحمام الزاجل، ومن الوسط بالحرس على مرأى النظر من مداخل الأبواب، يسهر على المدينة عمدة يتولى تدبير الشأن العام من مفاتيح ابواب المدينة وأسواقها، الى جانب حرس مدني، وأعوان مراقبين مرشدين ومرافقين من الخاصة بالأسواق الحرفية والتجارية، والمكلفين بالوفادة الجماعية، أو الأجنبية لدى الجهات العليا بالبلد .
النظام المائي :
يكتسي النظام المائي للحواضر العتيقة أشكالا داخلية خاصة بالبيت، وأخريات عمومية بالوسط الحضري، ومنظومة مائية خاصة بالري الزراعي من وسط المدينة ومجالها الخارجي .
وهكذا تتشكل المنظومة المائية للمدينة من مياه للشرب، ومياه للأغراض الحضرية، ومياه لحاجيات الري بالوسط الطبيعي من داخل المدينة .
مياه الشرب والاستعمالات العمومية :
وهي من صنفين خاص وعام :
الآبار المنزلية : خاصة بالبيت من وجهة التزود بالمياه الجوفية المحسوبة عن طريق التجهيز الأساسي للبقعة من عهد تخصيصها للسكن الحضري. سقاية عمومية : تحسب على الحي السكني من مكان خاص على الطريق، مغطاة البنيان المقام على حوض تجمع مائي منفتح الفوهة المائية على الطريق المرورية، لحاجة العموم من الساكنة والمارة، فضلا عن صهاريج جانبية تخص حاجيات الحرفيين بالأسواق، ومشارب الابقار الحلوب بالمدينة، والتعويم الخاص بخيول الفروسية وبأحصنة العربات السياحية . وتأتي مياه السواقي من عيون جارية عبر سلسلة بؤر مدفونة المجاري من مياه الجبل نحو سافلة السهل عبر قنوات جوفية من آبار الخطارة التي تنقل الوصولات المائية بطريقة الجر من بئر نحو آخر بطرق متزنة الملإ والدفع بين نقطة المنبع ونقطة المصب المنساب على السطح في شكل موجات مائية متدافعة من أعالي الجبل نحو سافلة السهل تفيض على بعضها وتدفع بالتقريب من عمق أدنى نحو أفق يجري على السطح .
وحين يصاب صبيب الخطارة بالتراجع والنضوب من تراكم الأوحال والأتربة، يجري تنظيف مجاريها من أماكن التوحل، وإعادة الصبيب الى مجراه، بطرق هندسية محكمة .
التركيبة العمرانية :
تتركب المدن العتيقة من مجموعة أحياء سكانية، متفرقة بين جهات أبواب المدينة، تحتوي مرافق قرب من مساجد للعبادة، وتعليم الأطفال القراءة، ومقامات دينية خاصة بالذكر والاعتكاف على القراءة والعبادة، الى جانب فرن للخبازة خاص بالحي السكني، وحمام جماعي، ومصبنة عمومية خاصة بالملابس والأفرشة الصوفية .
وسويقة حضرية ظليلة السقف على مجموعة دكاكين مهنية ومتاجر خاصة بالتموين الغذائي للإنسان والعلف النباتي والزراعي للحيوان، فضلا عن سوق عمل للمياومين والحرفيين، وكذا رحاب من الاسواق منتشرة عبر ارجاء المدينة، تتعامل بالبيوع المجمل مع باعة الأحياء من مواد : الخضر، والتمور، والزيوت، والحبوب، والجزارة : تجزرين .
الى جانب مجموعة فنادق كبرى متفرقة بين أحياء المدينة، تشكل محطات إيواء ونزول رجال القوافل التجارية، والوفود الأجنبية القادمة على المدينة .
كما تحتوي المدينة على ساحات عمومية لترويض الخيول مع بعضها على السباق من عروض الفروسية، الى جانب استعمال الفضاءات لإقامة الأفراح من حلول العام الهجري، ومن إحياء المواسم السنوية عند جمع المحاصيل الزراعية، كما تتخذ من أطرافها مصليات حضرية للأعياد الدينية، وفناء لتجمعات الاهالي بعد الانتهاء من الأشغال اليومية، حول حلقات الإرشاد الديني ومتابعة السيرة النبوية، والروايات التاريخية، إضافة الى احتواء المدينة على منتزهات وبساتين وحدائق عمومية .
التصاميم الحضرية العتيقة :
كان التأسيس للمدن العتيقة يتم المراعاة فيه، استحضار عدة اعتبارات اجتماعية واقتصادية، تقوم على توفر المياه الاحتياطية من جوفية، وأودية جارية أو موسمية، ثم الاختيار والتوافق على صلاحية التربة للبناء من مكان العمران، وأجواؤها من الملائمة الصحية والاستقرار، من وجهة التربة والماء والهواء، فضلا عن تجنب البناء من أرضية مجاري الانهار الموسمية، تجنبا للكوارث الموسمية وتوفر موقع المدينة على مصدر عيش لحياة الساكنة، وتحكمها من طرق المواصلات مع أطراف البلد .
وقبل بداية العمران يخطط لمساحة الموقع، وقدرته الاستيعابية من مستويات مدينة أو قصبة أو قلعة أو حصن، حيث يتم إعداد الاطار الخارجي في شكل سور وأبواب، قبل أن يتم تحديد المساحة الخاصة بالسكن والمرافق الادارية التي تحتاجها المنشأة المدنية لعيش الساكنة .
الأحياء الحضرية :
تحمل الاحياء العتيقة من المدن اسم حماة نسبة الى الفئات الاجتماعية التي تتولى حماية المدينة والسهر على أنشطتها الدينية والتجارية والمهنية والزراعية، وكل الخدمات الادارية التي تجري من وسطها ومن علاقتها من المحيط الاجتماعي.
وتوجد بالأحياء الحضرية أبواب رئيسية تحمل اسم باب الفحل، ويسهر عليه شيخ حضري يتولى الشأن العام للساكنة من حياتهم اليومية، كما يحرس ليلا على سكينتهم الجماعية .
ويغلب على هندسة الفحل كونه يحكم الطريق العام الذي تنفتح عليه أبواب الدروب، كما يشكل الفحل البوابة الرئيسية والمدخل العام نحو مجموعة الدروب، حيث يحتوي على مدخل عمومي، ومخرج يربطه مع الاحياء المجاورة .
ويتبع الفحل مجموعة دروب تولي وجهتها نحوه، والتي تعمرها ساكنة المدينة من دور عائلية لأسرة المجتمع، كما يوجد بين الدروب دريب صغير في شكل مجمع سكن عائلي، ينسب الى فلان أو فلانة .
كما وجدت بالدروب في العهود المتأخرة، دويرية معزولة من السكن خاصة بالاستئجار، عهد إقامة الاجانب من الوسط السكاني، قبل ظهور المباني الحديثة خارج الأسوار .
هندسة السكن العتيق :
يتجلى المعمار الحضري العتيق من أشكال دور عادية تعود الى سكن المجتمع الزراعي، ودور كبيرة فسيحة المساحة تسمى سكن الرياض وهو سكن خاص بالوجهاء من ذوي المكانة الاجتماعية بالمدينة، وتكون بالسكن مستنبتات وأغراس وأحواض مائية للزينة، وأرضية مرصفة من ملاط – جير ورمل مرصص الارضية– أو أجور يكسو فناء السكن، أو- زليج اسمنت -، فضلا عن محلات خاصة بالضيافة في مستوى رفيع من التهيئة النموذجية الخاصة بزخارف الأبنية التي تزين المكان وتؤثث البنيان بالصنائع الحرفية والخدمات اليدوية، كما يحتوي الرياض على أماكن خاصة بالحياة اليومية للأهالي وبالأشغال العامة من السكن .
و مما تحويه الدروب من مباني نوعية على الدور وأشكال هندسية فوق العادة محسوبة من محل خاص على عمران الفضاء العام :
والمتمثلة في هندسة بناء الصواب وهو بناء مرفوع ومطل على زقاق المرور بين الدور، يجري بنيانه من فوق الطريق العام بالدرب، ينسب من البنيان التوافقي الى صواب الرأي من استرسال مصلحة الحق الخاص من البناء على الطريق العام من العقار .
وهذا النوع من البنيان ساد بالحواضر المغربية العتيقة، وهو يوفر الدفيء شتاء من المناطق الباردة، والتهوية المنعشة صيفا من المناطق الحارة، فضلا عن إقامة أماكن الانارة الليلية بها من زوايا حائطية، محمية من وقت الامطار، ووقت الرياح .
وفي الفترة الليلية من عهود ما قبل الانارة الكهربائية، كانت تتضمن تلك الأبنية من الصواب شكليات مجوفة من الحائط توضع بها مواقد قناديل ضوئية تنير الطريق بالزيوت المنزلية تدرك صلاحية العمل من أوقات الشتاء الموسمية، لتنجلي للعابر الرؤية من الاضاءة للمستيقظ باكرا لأجل السوق المبكر أو أداء الصلاة من المسجد، أو لأخذ الطريق من السفر .
وهذا يعني أن الحواضر العتيقة من معمارها المتميز بالخصائص الهندسية القائمة البنيان على الصواب من رأي صائب وذي توجه توافقي بين الحق العام والخاص، وحقوق الانارة الحضرية بالدروب الأولية .
مستقبل المدن العتيقة :
عهد اكتساح العمران الحديث المجال الخارجي للمدن العتيقة، والذي يقوم على تصاميم معمارية، ومواد الحديد والاسمنت، وشبكة للتطهير السائل والانارة العمومية، والشوارع اللائقة بحركة السير الآلي من سيارات ودراجات عادية ونارية .
تعرضت المدن العتيقة للإهمال، حيث طمست آبارها العتيقة، وحرمت من تصاميم معمارية لائقة بتاريخها، وأصبح الاهمال ينخر أبنيتها المهددة بالانهيار على رؤوس ساكنتها، إذ تفتقر المدينة الى تصاميم لإعادة البناء ولو في شكلها التاريخي الموروث لحماية التراث من محله قبل أ ن تستوي الارض عليه .
ويبقى حال المدن العتيقة أنها مرت من فترة حماية، تساكنت جانبا بالجديد المنفصل مع عمرانها، وتعيش بعد ذلك من حقبة سيادة اجتماعية عسى أن تعيد لها مجدها من التاريخ وتجدد لها العمران ، وتحيي فيها الانعتاق مما هو أحسن في صورة مضيئة للتاريخ .
وقد كان ذلك هو السبيل الذي اعطى جلالة الملك محمد السادس انطلاقته، لإحياء التراث المادي واللامادي وإنقاذ مباني الحواضر العتيقة المهددة بالانهيار، في إطار برامج حضرية مستدامة خاصة بالمدن العتيقة، والتي أصبحت تصنف من طرف منظمة اليونسكو للتربية والعلوم والثقافة، ضمن التراث العالمي للإنسانية الذي يستوجب المحافظة عليه من الاندثار .