لا أحسب أن الله عز وجل أرادنا أن نفهم من قوله تعالى" ونزلنا عليك الكتاب تبيان لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين"( النحل، 89 )، أن نستغني عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه مادام كل شيء مبين في الكتاب، فلا حاجة لنا بالسنة!، لأنه من بيانات وإرشادات الله عز وجل لنا في القرآن أن أحالنا إلى رسوله الكريم في حالة عدم وجود حكم صريح من القرآن في مسألة ما، وذلك من خلال قوله تعالى" يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا"( النساء، 59)، وكذلك في قوله عز وجل" وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم فانتهوا والتقوا الله، إن الله شديد العقاب"( الحشر، 7 )، وفي قوله تعالى" من يطع الرسول فقد أطاع الله"( النساء 80)، وعموما فمسألة الضرورة والأهمية القصوى للسنة في دين الإسلام قد أشبعها القرآن الكريم. والواقع إن هذه المسألة المثارة بحدة منذ مدة بين دعاة الإصلاح الديني، وحراس التراث، يؤطرها النقاش العام حول التراث الإسلامي، ومن ضمنه هذا التراث الحديثي الذي بين أيدينا ويسكننا، فصحيح أن تراثنا الديني والسياسي في الكثير من جوانبه غير مستساغ، ولا يتساوق وروح العصر، ومرهق لطموحات وتطلعات المسلمين والإنسانية جمعاء، لكن مع ذلك لا يجب أن تحملنا الحماسة والاندفاع في خضم هذا الاشتباك الفكري الديني والسياسي بين التنويريين والتقليديين، لتصرفنا عن الحق واستخدام العقل، وننجر نحو دعوات التشكيك في كل التراث الحديثي، وإنكار للسنة.
ويبدوا أن السنة قد تم استغلالها أو توريطها -إن صح التعبير- بشكل من الأشكال في الصراع العقدي والسياسي وحتى المذهبي عبر التاريخ الإسلامي، والذي أفرز مظاهر الغلو الديني في مجتمعاتنا الإسلامية، وأظن أنه لتحرير السنة من شباك هذا التراث العقدي والسياسي الذي ورثناه للأسف( وهي مسألة في غاية الخطورة والتعقيد ) علينا أن ننطلق من مسلمة أن الغلو لا يواجه أبدا بآليات قديمة أو جديدة للغلو، كما أنه لا يجب أن تحملنا ردود الأفعال وصراعاتنا العقدية والسياسية، أو دوافعنا النفسية إلى إلغاء السنة وأهميتها في دين الإسلام، والدعوة إلى اعتماد القرآن فقط وبدون ضوابط وشروط،( لأن القرآن ضابط للسنة، والسنة مبينة للقرآن ومسترشدة به )، ولا أن نلجأ إلى لي عنق الآيات لنعصرمنها ما يريحنا من تفسيرات. صحيح أن القرآن ميسر للذكر، كما قال الله تعالى " ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر"( القمر، 22 )، ولكن ذلك مشروط بإقبالنا عليه، بحسن نية، ومتعلمين متواضعين، لكي يطهرنا من أمراض القلوب ويحصننا من نزعات الشيطان وهوى النفس، وهكذا نستجلي من آياته صفاء معانيها وغاياتها ومقاصدها، ولن يكون مجديا أن نأتيه متكبرين متعالمين، وواضعين أصابعنا في أعيننا، نفسره على ما تقتضيه نوايانا وعقائدنا المسبقة، لشرعنة سياسة ما، أو إرضاء لعقيدة ما، أو مجاملة لجهة ما، أو للميولات الذاتية، أو لنشتري بذلك ثمنا قليلا. لقد تكلف الله عز وجل بحفظ القرآن، قال تعالى " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون "( الحجر، 9 )، لعلمه المطلق بطبيعة النفس البشرية الميالة للتحريف، قال عز وجل " ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها"( الشمس، 6-7)، والقرآن لا يمكن ولا يجب أن يتعرض للتحريف، لأنه مركز الدين الإسلامي وجوهره، وهو الرسالة الخاتمية، ولأنه كذلك مشمول بالعناية الربانية من كل تحريف، لكن السنة النبوية غير مشمولة بهذه العناية بشكل مباشر، ودعونا نتفق أن العناية البشرية مهما بلغت من حرص ودقة في جمع وتخريج وحفظ للأحاديث، فإنها تبقى قاصرة، فالعناية الربانية بحفظ القرآن مطلقة وأبدية، لكن العناية البشرية بحفظ السنة نسبية ومتقطعة، لذا فهي مفتوحة للسؤال والمدارسة والبحث على الدوام.
ولهذا فعناية السلف بالسنة النبوية بشكل عام، وبالحديث على الخصوص، مهما بلغت من دقة وصرامة علوم الحديث( علم الرجال، العلل، المصطلح... )تبقى عمل واجتهاد بشري صرف، لا هو بمقدس، ولا يلفه الكمال، علما أن الدراسات الحديثية من جمع للأقوال ودراسة للمتون وتتبع لأحوال الرجال واستقصاء للأخبار وتمحيص للأدلة...في حاجة ماسة لخلاصات العلوم الإنسانية، مثل علم الاجتماع واللسانيات والتاريخ وعلم النفس وتحليل الخطاب وغيرها من العلوم، التي للأسف لم تكن قد ظهرت أو تطورت وتأهلت مع البدايات الأولى للاهتمام بإخراج الحديث، ولا أثر لها في تشكيل مناهج علوم الحديث وتطوراته اللاحقة، والغريب أن هذه العلوم لا تزال إلى الآن مغيبة ومتوجس منها عند حماة التراث.
وهكذا يمكن القول أن أصحاب الجوامع، ناهيك عن أهل الأثر وغيرهم، قد قاموا فعلا بمجهود جبار واستثنائي في وقتهم، ذلك أنهم اشتغلوا في حدود إمكانات متواضعة جدا تقنيا وعقليا مقارنة بما أنتجه العقل البشري في وقتنا الحالي بفعل التراكم والتطور والتجديد، ولهذا فنحن حقا في حوزتنا آليات للبحث في التراث لم تكن تحت تصرف سلفنا، وقد علمتنا علوم عصرنا أن طبيعة ووسائل ومناهج البحث العلمي، والظروف والملابسات النفسية والسياسية وغيرها المرافقة لمراحل استكشاف وبناء المعرفة، هي التي تتحكم أو على الأقل لها تأثير على طبيعة وحجم المعرفة المحصلة، كما أن عملية تدوين وتصنيف الروايات لا يمكن بأي حال من الأحوال فصلها عن تأثيرات البيئة الثقافية والحالة المجتمعية العامة السائدة،أهمها الحالة الدينية(حركة النفاق،الغلو والصراع العقائدي..)والسياسية (الفراغ السياسي الذي تركه وفاة الرسول،وأحداث السقيفة وما حولها وما بعدها،ولاحقا الاستبداد السياسي مع وصول الأرستقراطية الأموية للحكم،ثم صراع المحاور بين السياسي والعقدي والمذهبي والكلامي خاصة أيام حكم الإمبراطورية العباسية...)
وهناك سند قرآني قوي لهذا الطرح، فالرسول صلى الله عليه وسلم نفسه بلغه أثر البيئة الثقافية، وكاد ينجرف لضغط الرأي المؤثر لولا تثبيت الله تعالى له، قال عز وجل " وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره، وإذا لاتخذوك خليلا ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا"(الإسراء،73-74)
ولذا مع كامل الأسف، الأثر السياسي والنفاقي والإسرائيلي والشيطاني يبرز بشكل واضح جدا في الروايات المنسوبة للرسول صلى الله عليه وسلم إذا ما عرضناها على القرآن الكريم، فعلى سبيل المثال نجد روايات كثيرة لا تقدم صورة منسجمة مع القرآن حول الثقافة الشيطانية، واستطاع الشيطان أن يتوارى خلف الروايات التي تقدمه مثل شخصية تافهة وساذجة، عكس القرآن تماما الذي قدمه كعدو رئيسي للإنسان، وكثف من التحذير منه، وأخبرنا بالقدرات والإمكانات الخطيرة المتاحة له، ونبهنا لخطواته وكل شيء عنه، كما أن الروايات تتكتم كثيرا عن المنافقين وأهل البغي والمتخاذلين،والسماعون للكفار المذكورون بكثافة في القرآن،أو ليس من واجبنا أن نتساءل عن ماذا قصد الله تعالى " إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب، أولائك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون"(البقرة16)،فكيف تم إذا كتمان بينات وهدى القرآن من بعد ما بينه الله تعالى للناس في الكتاب؟
وقبل أن أختم هذا المقال، أعلن أنه مثلما لا يمكن تصديق أي قول يقال أنه سنة بدن ضوابط علمية تنهل مرجعيتها النظرية من القرآن والعقل، فإن إنكار السنة ومكانتها في الإسلام غير مقبول عقلا وشرعا، و كذلك تكذيب كل السنة المدونة التي وصلتنا والادعاء بعدم صحتها وأن السنة الصحيحة مدونة ومحفوظة من الله تعالى في الكعبة غير الكعبة المعروفة، في مكان غير معروف كما هو عند غلاة القرآنيين، هو الآخر ادعاء وافتراء مردود ومرفوض بالقرآن والعقل والتاريخ، كما أن بعض الانفعالات المجرحة بعلم الحديث،المقوضة لأسسه، ونازعة منه صفة العلم، وواصفة إياه وبعض أصحابه بأسفه النعوت، أمر غير أخلاقي و لا يليق، مثله مثل الأوصاف الجاهزة عند الطرف المغالي في حماية التراث، و التي تطورت بفعل المصالح والنفسيات إلى اتهامات وتلفيقات من قبيل الطعن في صحيح البخاري، وهم بهذه الاتهامات يطعنون في القرآن نفسه الذي يحذر من داء الآبائية، ويحث على القراءة والسؤال، والتشكك المؤدي إلى تقوية الإيمان بعد حصول اليقين والطمأنينة.
إن الإرث الحديثي الذي في حوزتنا الآن بما له وما عليه، كنز ثمين وثروة عظيمة تحت تصرفنا، ونحن حقيقة جد محظوظين لأننا نملك بشكل مشترك وعادل كل هذا الزخم من المادة الخام التي وصلتنا، وتمكننا من الاشتغال عليها بإعادة التفكير فيها بتساؤلات العصر، على ضوء القرآن والعقل والواقع، مستفيدين من الآليات المعرفية العصرية، ومن منطلق أن الإصلاح الديني قبل أي إصلاح.