من المؤسف جدا أن تكون جل ممارساتنا الاجتماعية والسياسية والمدنية محكومة بمنظومة من الأفكار والنظريات الغربية المستوردة، التي كان منشأها في ثقافة أخرى وفي سياقات أخرى، مناقضة للحالة الثقافية للمجتمعات العربية والاسلامية، وللمرحلة العمرية التي تمر منها. بل ومتعارضة مع الخصائص القيمية والغائية التي تعد نطاقا مركزيا تدور حولها كافة الأفكار الفلسفية المنظمة لشبكات المجتمع المدني، من جمعيات ومنظمات غير حكومية وتعاونيات وهيئات اجتماعية، التي تمزج في تكامل وتوافق بين الاجتماعي والسياسي والمدني، بروح أصيلة وفي هياكل وقوالب مختلفة. انسحب منطق الاستيراد عنوة على كل الأنساق الفكرية والثقافية والاجتماعية، وغدت الأفكار الغربية والحداثة والرأسمالية والعولمة والقومية التي كان منشأها الغرب عبر عصر التنوير والثورات الصناعية والتكنولوجية مرجعا وحيدا وأرضية فلسفية وأخلاقية تبنى عليها أوطاننا، دولة ومجتمعا. بل ويتشكل إثرها وعي جمعي بمرجعية مستوردة.
وكأني بقارئ عزيز يتساءل، ما الغاية من طرح هذا الموضوع؟ وما الداعي لذلك، وعبارته مستهلكة ومتداولة؟ خاصة وأن البعض يرى أن فكرة الاستيراد متجاوزة، لأن الكل يقر أن دول العالم الثالث إنما هي تابعة للغرب، وليست من ذاتها نابعة!!!
صحيح ... لكن أظن أن المأزق الذي لج فيه وعي الأمة غصبا وقهرا منذ عقود، مقابل المنطق الهجين الذي انتصب معتقدا يسبي أفكارنا ويصك لنا علامات في طريق سيار دون مخرج، هو أكبر من أن نستوعب حدوده الفعلية والعملية المادية في الواقع، وإن استوعبنا فكره ومنطقه بشكل مجرد. فالتمثلات الحاصلة في ممارساتنا الاجتماعية والسياسية والجمعوية والمجتمعية عامة، قد تكون نتاج أصل هجين من الأفكار المسربة المميتة، التي لا توجِد معنى ولا تخدم احتياجاتنا الحقيقية، بل إنما هي نمط من الأفعال ترسخت بعد تنميط، وممارسة تُولّد الواحدة منها الأخرى، وهي تطبيع مع الشكل والقالب، وحركية متسارعة تشغل عالمنا بنتائج ومحصلات ومخرجات، يصعب التدقيق في صوابيتها، وفي ملائمة ثمارها مع المقاصد والغايات. هذا إن كان للمشتغل والممارس في الأصل منطق ورؤية وغاية.
لذلك فمحاولة تقليب الأفكار في الموضوعات المستحدثة والمستوردة، كالمجتمع المدني والجمعيات والعمل التنموي التي قلما يطالها النقد والتجريح، تبقى أولوية وواجبا على كل مشتغل ومتهمم بهذه القضايا، حتى يتحرى الشهد منها بعد أن ميز المعنى عن المبنى.
سياق محلي مغتصب
لج كيان الأمة الاسلامية في منطق الاستيراد قرونا من الزمن، حتى غدا أصلا وأصبح الانتحال من الثقافات الغربية غاية في حد ذاته، بل ومحددا لمدى تقدمنا ومعيارا لنجاعة اختياراتنا من عدمه. وبالتالي أصبحت كل النطاقات الثانوية أو الهامشية، رهينة لنطاق مركزي مستورد بذاته. أي أن جل الموضوعات والقضايا والمجالات التي يتم عرضها للنقاش ويراد تصحيح مسارها أو تعديلها، يتم الاشتغال عليها وفقا لمنهجية تدبيرية وآليات معرفية محكومة بقوى مستوردة، وفقا لنطاق مركزي مستورد. لذلك فإن مجموع الأفكار التي تؤطر القضايا الكبرى من موضوعات المجتمع المدني والعمل الجمعوي والتنموي، هي في الأصل نتاج سياق حضاري وثقافي مختلف، تم استيرادها وتنزيلها في وسط مختلف وفي مرحلة عمرية دقيقة، لأمة مستعمرة، مترهلة ومشتتة، ذات قابلية لاستيراد كل المنتوجات الغربية، المادية والمعنوية. خاصة وأن تخلف الأمة العربية والاسلامية كان جليا في المنظومة الفكرية والثقافية التي تؤسس لهذه الموضوعات، رغم أن لها أصولا مؤسسة وإرثا غنيا، ساهم بشكل بارز في تألق الأمة الإسلامية في المجالات الاجتماعية والانسانية والخيرية قرونا. إلا أن وطغيان الاستبداد الجاثم على أرادة الشعوب، الخانق للحرية والمبادرة1، ثم الجمود الفكري الذي انسحب على العقل العربي في مقابل التقليد الأعمى، الذي طال هذه المجالات، لم يسمح بتبلور سياق محلي منسجم ومتماسك، ولا بتطوير منظومة التضامن العضوي، التي تتشكل تلقائيا عبر جدلية الممارسة والتنظير الممتدة في الزمن، لتستقر الدول العربية والإسلامية إثر ذلك على أشكالها التقليدية من البنى الاجتماعية التي طغت عليها الفردانية عوض المنطق الجماعي الذي يعد نواة كل إبداع، مما سهل عملية الاختراق الثقافي والقيمي لأمة مدْبرة عن ماضيها ومقبلة على هرج وتيهان واستعمار .
فبعد التماس المباشر للثقافتين العربية والغربية في خضم مرحلة الاحتلال العسكري، الذي شكل صدمة حضارية معنوية للأمة العربية المنهارة ذاتيا، إثر انبهارها بالغرب المتقدم والسيد والمستعمر، لم تقاوم الدول المتخلفة أفكار الغالب وثقافته وفنه وعلومه ومنظوماته الاجتماعية والمدنية، بل انتحلتها وانتشت بها، فتم تنزيلها عبر "وكلاء دائمين مستديمين متوالدين عبر الأجيال"2 وبعد أن "سكن الاستعمار بين ظهرانينا عاديا علينا بخيله ورجله، وجميع أسلحته، حتى وطد بيننا للعش الذي فيه ولد
ونشأ وترعرع التخلف. فلما انسحب بجسمه خلف فينا آليات سلبية استمرت في الاشتغال من بعده، مكتفيا بإشارات من بعيد، أو تدخلات مباشرة إن اقتضى الحال"3. حتى غدا منطق الأشياء فينا متوالدا في بركة من الأفكار الميتة، التي تنمي في وعي الأمة قابليتها للاستعمار، وتحرضها في نفس الآن على استعارة أفكار مميتة لمستعمر غربي4، الذي أصبح بين عشية وضحاها حداثيا، وحاميا للسلام. وإلى اليوم فإن جل الدول العربية والاسلامية " في أغلب الأحوال مستمرتان في كفاحهما من أجل اللحاق بالغرب، وفي أثناء هذه العملية لا تكتفيان بالتخلي عن مزايا البناء على تقاليدهما وتجاربهما التاريخية التي شكلت هويتهما وكيف صارتا، جزئيا، إلى ما صارتا عليه، بل تتركان نفسيهما تنجران أيضا إلى حروب مدمرة وفقر ومرض وتدمير لبيئتيهما الطبيعيتين."5
صنم يجب أن يكسر
حينما نبقى حبيسي فكرة المجتمع المدني التي أصبحت معتقدا لا يطالها النقد ولا المراجعة، وحين نستسلم لهذا القدر المحتوم، شكلا ومعنى، ولم نلزم أنفسنا ومجتمعاتنا بطرق باب الممكن عوض الخضوع الصارم لما كان، ولم نبدع سياقا فكريا آخرا ينسجم ونظامنا القيمي وأفقنا العمراني، فإن حلم التغيير والانعتاق من براثين البؤس والشقاء تبقى أوهاما، نساهم جميعا في تكريسها، لإصرارنا على تقديس الفكرة الصنم، ولجمود خيالنا الجماعي على نمط معين من الأفكار والمنتوجات المجتثة من أصلها، والتي لا تصلح لتربتنا ولنبل مقاصدنا.
كل المؤشرات تؤكد أن الدول العربية والإسلامية في مجملها لا تزال تترنح في مستويات دنيا في سلم التنمية البشرية، ولم يزدها استيرادها لمناهج تنموية ومجتمعية غربية إلا تخلفا وتناقضا، رغم الكم الهائل من الجمعيات والتعاونيات التي أسست بنمط وبأسلوب معين، لغرض أساسي واهم وواهٍ، وهو دعوى المساهمة في التنمية الاجتماعية والاقتصادية للدول العربية والإسلامية السادرة في تخلفها، رغم كل محاولات الاقلاع الحضاري الفاشلة، منذ عقود.
وللأسف أصبح جهد المجتهد فينا وفلاح الباحث الأكاديمي والمتخصص المجتمعي هو ترجمة الأفكار والمنتوجات الغربية في موضوعات المجتمع المدني والتنمية على شكل مقالات وكتب ومحاضرات، يلخص فيها ما وصل إليه الأستاذ الأوروبي في بحوثه، يحث فيها ومن خلالها جغرافية التخلف بتتبع الطريق السالكة التي شيدها الغربي، دون أي نقد يذكر، ودون إشارات توجه عقل المتلقي بضرورة التمييز بين الفكرة وما بعد الفكرة، وبين الواقع الآني وبين الأفق والاستشراف. وهو ما حدر
منه الدكتور عابد الجابري رحمه الله حين وجه على أن "المرجعيات الأوروبية في الموضوع، سواء كانت واقعا تاريخيا أو اجتهادات فكرية، يجب أن تبقى مرجعيات استشارية لا غير. يجب أن لا تنقلب إلى (نموذج سلف) يهيمن على الفكر ويوجه الرؤية" 6
وبالتالي، إن لم يصل مستوى الوعي الجمعي عند المثقف والفاعل السياسي والمجتمعي وأصحاب المشاريع التغييرية، إلى إدراك المأزق التاريخي الذي حاصر العقل العربي عن إدراك ذاته وجعله رهينة فكر أوروبي المنشأ، ساهم في رقي الغرب وتقدمه، في مقابل نكوص العرب وتخلفهم، فلن ننعتق من هذا السياق الذي أريد لنا باسم الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان، أو بفعل " التدخلات الانسانية التي تقوم بإدامة منظومة تصون الحرمان وترسخه بينما هي تدعي أنها تزيله" 7
لن ننعتق وسنبقى دائما سجناء لنمط من العمل ألفناه، ووجدنا عليه آبائنا، تحكمه روح سيادية، ويؤطره معتقد المجتمع المدني. لن ننعتق وإن كثفنا من أشكال العمل الميداني وإن أسسنا جمعيات وتعاونيات وكشفيات ونوادي رياضية، ومنظمات شبابية ونسوية، همها الوحيد هو تحقيق ذاتها وتطوير أدائها بمعيار كمي وعددي، وهدفها الأسمى هو بصم اسمها في مجال من المجالات الثقافية والاجتماعية والفنية المتاحة، لتندرج ضمنيا من حيث لا تدري ضمن كوكبة من البيادق التائهة التي لا تخدم إلا الغرب ووكلائه، حين ربطت عملها واجتهادها بحدود ضيقة وأهداف آنية، ولم ترسم مسارا استشرافيا يخدم سياق انعتاق الأمة ومستقبلها.
لسنا عدميين كي نلغي الفكر وحسناته، ولسنا متعالين كي ننفي فضل الآخر على الانسانية جمعاء، كما أنه من "الوهن الفكري إلباس الآخر نقائص أودعها في مخيلتنا ضيق صدرنا وأحكامنا المسبقة"8 لكن التنزيل الآلي والأعمى لأفكار سياقاتها خاصة، والاستيراد الصارم لكل المناهج الفكرية والثقافية التي تُتّخذ "معتقدات تسيطر دائما على الملاحظة الذكية للواقع"9 تبقى أمور مرفوضة.
حري بمن خلقه وفكره ومشروعه ملاذ للناس، أن يهتدي لما هو حق وصواب، بعد تمحيص ودراسة واجتهاد، وأن يمسك عن اتخاذ كل ما هو غربي المنشأ وثنا تتمسح به عقولنا المستلبة، فالحق لا يتبعه إلا قلة، وهم عتقاء التقليد والتغريب، المتحررون من قيود الأفكار الميتة والمميتة، وهم الأمل.