رؤيتان نطق الواقع بفشلهما: أما الأولى فهي تلك الرؤية التحديثية المستلبة التي سادت وعي قطاع واسع من النخبة في عالمنا الإسلامي، حيث تصورت التحديث والنهوض عملية انقطاع عن أصالة الأمة وماضيها، فاختزلت المطلب في المناداة باتباع الغرب واحتذاء نموذجه. وقد ترجم هذا التصور في الواقع بالتركيز على تركيم التقنيات المستوردة، واستقدام أفكار الغرب ونظمه الثقافية وصياغة مؤسسات التربية والتعليم والإعلام وفق منظوماته الفكرية. لقد أهملت هذه النخبة العمق الحضاري للأمة، فتصادمت في قراراتها ورؤيتها لنظم وقيم الحياة مع المقومات الذاتية تصادما سافرا، فصار التراث لديها مجرد شكل ولم تدرك أنه مقوم محدد لنفسية ووعي الشعوب، فلا تستحضره بوصفه مرجعية وموضوعا للتأمل والنقد والتطوير، بل تستحضره على شكل جدران وآنية وأباريق نحاس تشكل بها فولكلور وتراثا لاستعطاف جيوب السياح. وهكذا تقام الدنيا ولا تقعد من أجل جدار تاريخي يريد أن ينقض، أو تمثال حجري سقط أنفه، ولكن قيم المجتمع وأخلاقه التي تنهار بفعل الغزو الثقافي الغربي ونمطه الأخلاقي المنحل لا يعار لها أدنى اهتمام. وبتطبيق مشروع التحديث على الطريقة الغربية، لم يحدث في واقعنا تحول وانتقال مجتمعي مرحلي متوازن، بل حدث انفجار في بنيات المجتمع أفقدها الانتظام والتحول التدريجي، لأن التغيير لم يراع الشخصية الثقافية للأمة وخبرتها التاريخية، بل كان التحديث فعلا خارجيا مفروضا عليها. ومعلوم أن للخصوصية الثقافية سلطة تنزع نحو رفض ما يخالفها، وقبول ما يتناغم مع حقيقتها، وهذا بعد لا بد من إدراكه والانتباه إليه في كل عمل تغييري يستهدف النهضة. أما الرؤية الثانية فهي تلك التي سادت قطاعا واسعا من النخبة المثقفة بثقافة إسلامية أصيلة، حيث وعت هذه النخبة أن عملية التنمية تتطلب حتما تحديثا في بنيات المجتمع ونظم العيش، فوضعت تصورا تبسيطيا ينادي بالاستفادة من التقنية الغربية فقط، وتجاهل القيم الثقافية المنتجة لها. فكان محصول تحديثها التقني لا يتجاوز الماكياج الخارجي للمجتمع التقليدي المتخلف، إذ لم يصدر عن نزعة عقلية إنتاجية إبداعية، فكانت علاقتنا بالمنتج الغربي هي علاقة الاتكال المطلق، حيث نقتصر على الاستيراد دون تفكير جدي في الانتقال منه إلى الإنتاج والإبداع. صحيح أن مجال القيم الثقافية أكثر تعقيدا، لأنه يخص نسق الرؤيا إلى العالم بكل شموليته، ومعلوم أن هذا النسق نافذ في عمق النفس وعلائق الاجتماع. لذا فالأنساق الثقافية هي في الغالب تتبدى كأنساق مغلقة تتمنع عن تقبل القيم المغايرة لها. لكن هل يعني هذا أن يستمر الفكر الإسلامي في القول بِقَصْرِ الاستفادة من الغرب على القيم المادية وتجاهل القيم الثقافية؟ هل حقا لا يملك الغرب في المجال القيمي والثقافي ما ينبغي علينا أخذه والاستفادة منه؟ سؤال نؤجل الإجابة عليه إلى مقالنا المقبل إن شاء الله.