الحسيمة. الثانية عشر ليلا. لفظتني شوارع المدينة. وجدتها واقفة في الباب تنتظرني. كذبت عليها لمّا قلت لها بأنني سأذهب للقاء أصدقائي. سيسمح لي الرب، السكارى لا يعاقبون على أقوالهم. أنا الآن ثمل. أكتب: وإذا كان عليّ أن أموت من أجل أن أستردك أيها العشق المقدس. كلمّا أطلبه منك هو أن تخبري الناس: أن يتذكروني بفرح. لا أريد أن يبكي أحد على قبري، يكفي ما أحرقتني ملوحة الدمع حيّا. الناس يولدون للفرح ويعيشون على الحزن إلى أن توارى جثمانهم في تلك الأجواء المكفهرة الكئيبة. لهذا أطلب منكم أن لا تستغلوا موتي لتفتحوا أبواب سدود الحزن الذي يملأ قلوبكم، لا أريد ذلك حتى ولو كنتم ستحزنون لأجلي فقط. إن الألم يفتك بي حين أراك تتعذبين على مرأى غير بعيد من عينيّ، وكأن شفرة تمزق كل مرة عرقا من عروقي التي لا يريد تدفق الدم فيها أن يتوقف ولو لهينيهة، للحظة قصيرة، قصيرة جدّا، كي ينتهي الأمر بسهولة ويتحقق الحلم بالسقوط على حافة الخلاص الحزين.
أريد أن أراها دوما لؤلؤة بريقك يضيء طريق المسافرين ويزين ليالي العائدين. إنك فاتنة أيتها اللؤلؤة، وإن وضعوك على روشة البرتقال ليعمقوا الندوب التي صنعها على وجه الزمن، ستظلين لؤلؤة.
لا أعرف كيف أفسر هذا الشعور الذي يعتريني. فأنت تعرفين كم أنا متعب. متعب جدّا. تعب قاتل. لا أعرف منذ متى شرع يسكنني. وغالب الظن أنه دخل تجاويف قلبي خلسة مني ومنك يوم رأيتك تصفعين ذات عشية، ذات يوم. لبسني نفس التعب والألم وظل يرافقني بإستمرار لسنوات عدةّ إلى أن تخلصت من وجه فقيه الدوار الذي صفعها أمامي وهي صغيرة لا تكبرني بكثير لأنها لم تجلب له البيض الذي كانت تجمعه أمي وتبيعه لنساء المدينة في السوق كل أسبوع، لمّا رأيت الفقيه يرحل، زغردت وقفزت أصرخ في الساحة الترابية التي تحيط بها بنايات طينية لا يتعدى عددها عشرة. إنني لا أتقبل هذا. لا أطيقه أو لا أتحمله. وأنا لا حول ولا قوة لي أمام هول الصفعة التي آلمت بك وبأختي الصغيرة.
أحبك أيتها اللؤلؤة الفاتنة.
وكانت رفيقتي التي تعرفت عليها منذ أشهر قليلة في جلسة أدبية جمعتني هناك في طنجة مع رفاقي من أدباء وشعراء وقراء وغيرهم، معي في غرفتي، واضعة يديها على حافة الكرسي المهترىء الذي يحضن جسدي النحيف، واقفة على بعد قدم واحد من قفاي، فيما كنت لتوه قد حشرت وجهي في كفي وقلم أنقله بين أصابع اليد الأخرى للتسلية قبل أن أبدأ في حك زناده مع الورقة كي تنطلق
الرصاصة,, الكلمة الأخيرة، الخيبة، التي لم تكن تنتظرها وهي تقرأ وأشعر بأنفاسها تكاد تتوقف حين أسترق النظر في صورتها الماثلة أمامي في مرآتي الصغيرة..
أشعلت سيجارة كادت عقبها يحرق أصبعيّ لو لم أنفضه عنّي بسرعة. فقالت لي" أنه النص... أنه النص.. ضع له تلك الخاتمة هل لا تريد أن تكتبها أمام عينيّ، أكتبها، هيّا! إني أريد أن أراها، أكتب ذلك الحب الذي أخفيته عنّي منذ أول لقاء".
لا أدري ما الذي أصابني حين ضربت بكفي على الطاولة صارخا وأنا ألتفت نحوها: " سأكتبها.. سأكتبها أريد ذلك.." سأكتبها مرة أخرى وتدفق الدمع على خديّ ساخنا كحبات الرمان وقلت لها بصوت جاد:
سأعيد كتابتها. إقرئيها معي جيدا.
وإذا كان عليّ أن أموت من أجل أن أستردك أيتها العشق المقدس أطلب منك أن تتذكريني بفرح.