إلى أصدقائي التوانسة : توفيق بكّار، محمود طرشونة، رضا بن صالح ، صلاح الدين بوجاه ، مصطفى الكيلاني ، رضا بن حميد ، محمد الباردي.... ومن يستطيع نسيان عليسا وحفدتها . • قوس قرطاج كان الجو ،على غير عادته، مترنّحا ، مثل فرس حرون طالعة من ساحات الحروب البونيقية، وأنا أنزل تونس في الساعة الرابعة والنصف من بعد زوال يوم الاثنين ثاني عشردسمبر ، بعد ساعتين ونصف من الطيران . لم أسافر خارج المغرب منذ سنة كاملة ، فقد كانت نوايايَ تتجه نحو الإمساك نهائيا عن ذلك والقعود بمملكتي ، لكنني أجدني أحمل بعضًا من روح السندباد .فمن بين ثلاث دعوات ، اخترتُ دعوة تونس لاعتبارين اثنين: كونها، أولا، كانت سبّاقة إلى إشعال فتيل الربيع العربي بانتفاضة شعبية سلمية ضد الطغاة من الحكّام ؛ وثانيا إغراء قرطاج حيث سنقضي أسبوعا كاملا ؛ كما أنها ،لاعتبار نوستالجي ، أولى العواصم الإفريقية في ممالكنا المغاربية الشمالية منذ أزيد من ألفيْ وثمانمائة وخمسة وعشرين عاما . لم أكن أحمل غير حقيبتي الخفيفة ، حين توجّهتُ ، برفقة صديقيَّ سعيد يقطين ومحمد عز الدين التازي، نحو فندق "بّلاص" بكمّرت في الضواحي القريبة من المرسى ، على مسافة قصيرة من قرطاج (1). كنتُ مُتعبا ،وبحاجة إلى نوم طويل أستريح فيه من آثار تعب تليد ، حتى أستعيد تركيزي لتلمس بعضٍ من آثار ثورة قرنفلية أبدعها جيل جديد يُكنس الظلام ويُشعل النار في مرحلة بَدَتْ مثل قش هارب. وكل من يقرأ تاريخ تونس، منذ الفتح حتى الآن، سيجد أنه لم تَخْلُ محطة من فرار حاكم ظالم أو انتحاره . ويمكن فهم كل ما يجري، الآن، بالعودة إلى ارتماءة عليسا(2)، على حافة قرطاج في نار الخلود والامتنان والمحبة ،صونا لكرامة الحياة ورماد العشق الساخن ، وإلى الحركة العفوية لمواطن بسيط اسمه البوعزيزي ، والتي كانت من بين الآف العوامل الحافزة لتلك الانتفاضة الشعبية . فبعد أزيد من ثلاث وعشرين سنة من الحكم الفردي، ومن كَبْتِ الحريات واستفراد كمشة من المُقربين بالثروة ...بلغ السخط مداه وعمّ الإحساس بضرورة الانتفاض وتكسير القيود الثقيلة والصدئة لعقود العبودية ،وكان خبر إحراق مواطن من سيدي بوزيد لنفسه، احتجاجا على مضايقته في كسب لقمة عيشه ، سبيلا لانطلاق ما كان مؤجلا ، ابتداءً من السابع عشر من دسمبر 2010 ،ثم تتواصل عدوى الاحتجاجات في عدد من المدن التونسية الأخرى فتشبُّ نار مواجهات دموية عنيفة خلفت قتلى في صفوف المتظاهرين . ورغم محاولات امتصاص الغضب والالتفاف على الثورة، فإن ثلاث خطب للرئيس الفار زين العابدين بنعلي ( 28 دسمبر2010 و10 يناير ثم 13 يناير2011 ) لم تعد تنفع ،فاضطر إلى الفرار وعائلته يوم رابع عشر يناير 2011 نحو المملكة العربية السعودية التي قبلت لجوءه بعد رفض فرنسا . *** جاء وصولنا متزامنا مع تعيين السيد منصف المرزوقي رئيسا مؤقتا للبلاد ، من طرف المجلس التأسيسي الذي يدبِّرُ المرحلة الانتقالية إلى مرحلة لاحقة . ما زال هناك تخوف من الحاكمين الجدد ، من حزب النهضة ، ونواياهم التي لم يَخبَرها أحد بعد .بل هناك يقين راسخ أن الثورة لم تكتمل ، وأن التاريخ لا يكذب أبدا بخصوص من يقطفون ثمارها !!. كانت تونس أول بلد عربي أزوره في مطلع التسعينيات، إذ نشأ اللقاء الأول بمدينة قابسفالقيروان وعبرهما زرتُ العاصمة وصفاقس وسوسة .أما قرطاج فأزورها لأول مرة، وقد وجدتُ الصديق الأديب ،التونسي المرساوي، رضا بن صالح خلال هذه السفرة ، خير رفيق لي، بحيث جعلني أزور قرطاج وسيدي بوسعيد والمرسى وعددا من المعالم التاريخية والثقافية ، مستمتعا بالأرض التي أمشي عليها، بصمتها الشاعري والثوري في آن ، وبيوتات أهلها البسطاء وقبب أوليائها الشامخين ، هنا وهناك، بالإضافة إلى قصور البايات والدايات والسلاطين وأنين القديسين وصرخات كل الجنود والمغامرين ممن ضاعت أرواحهم على هضبة بيرسا، أو في ذلك المد والجزر المتوسطي البطولي، بين قرطاج وصقلية والتفاتا نحو طنجيس والعرائش ووليلي. كأنه الأمس القريب جدا ، في رائحة الحكايات الملفوفة داخل طروس ملحمية كُتبت على جلدي الذي لم أستبدله، حتى صار سِفْرا لأسفاري أقرأ فيه وأتأمل . جلسنا في مقهى الصفصاف، محاطين بإقامات ملوك وبايات الزمن الماضي ، من قصرالعبدلية إلى دار التاج إلى أقواس ومنحنيات تحت التراب، تربط المكان بأريانة ،بقرطاج ، بسيدي بوسعيد الفنار، بالمرسى ، بحلق الوادي ... ويحق لصديقي رضا بن صالح أن يكون عابدا أبديا لهذا المكان ، يُحاور تربته وحجارته وبساتينه، كما يُحاورُ سلالته وتوأم روحه ، ليحيا هويته المديدة هناك . • حكماء قرطاج عاد الجو إلى دفئه بالنهار ، مما أتاح لنا قضاء أيامنا المعدودة هناك، بمزاج رائق، خصوصا أننا كنا في ضيافة طيبة من طرف أصدقائنا التونسيين وبرفقة أدباء أعزاء من الوطن العربي(3) . في كل نقاشنا الثقافي ببيت الحكمة – قرطاج، داخل قصر ترشقُ الأمواج المتوسطية حيطانه العالية رشقا نوستالجيا ، كان الإعلام المرئي والصحف الوطنية تخوض في مستجدات الأوضاع السياسية ، في خطاب الرئيس المؤقت وقد خاطب الناس بكلام مؤقت ، وفي حزب النهضة الحاكم الذي يخشى الناس أن يكون مُخبِّئا " الذئب تحت القفة " ،كما نقول عندنا والله أعلم !فيما هناك فئة أخرى متفائلة ومرتاحة لتجربة المرجعية الدينية ، لأن الجميع ، اليوم ، أمام رهان تحول عظيم سيكون من أهم أولوياته إصلاح الأعطاب القاتلة اجتماعيا واقتصاديا وتعزيز ضمان الحريات . كانت حواراتنا، خارج قصر المُجَمّع ،تدور حول أوضاعنا العربية؛ في تونس وسوريا والأردن ومصر ، ولم يكن غريبا أن أجد أدباء الأقطار الأخرى يعرفون دقائق ما يجري في المغرب، كما نعرف- نحن- نفس الشيء، وكانوا متطلعين للسؤال عن تجربة المغرب ، بعد فوز حزب العدالة والتنمية وتحالفاته مع حزبين من الكتلة وحزب ثالث يميني . في كل الأحوال ، وعلى غير العادة، كنا متفائلين، رغم أن من بين قواعد الأزمات أن تتيح الفرصة لمن لم يكونوا في الحساب . مرجعيتنا نسيج متناغم واحد يُعلي من هويتنا التي أراها في كل شيء، وحتى في أخطائنا الصغيرة . خلال جلسات النقاش الثقافي المتواصلة ، كنتُ أسرق بعض الوقت لأزور خالد بن يوسف في مكتبه ببيت الحكمة والذي زوّدني مشكورا ببعض الكتب القيمة، قبل أن أخرج إلى الساحة المطلة ، من علٍ على البحر، فأرى ما لا تراه عيني ، ثم تخالطت ،مرة أخرى، لحظتي الراهنة بلحظات سابقة. عدتُ أسترجع إحساسي القديم بتونس ، ولعلَّ إحساسا سريا مشتركا، هو الذي راودني في سبع رحلات(4) سبقت هذه ، سفرات إلى قابسوالقيروان ،تركتْ لديَّ رسوما وكلمات لا تمّحي : • قابس ..لا تتعجلي وأنتِ أمامي : لم يعد أمام الفجر من خيار، أو من حقيقة أخرى، غير الارتماء في أحضان ألفته الخالدة للمكان والزمان، احتماءً من ثقل الظلام وفداحة البرودة القاسية وقد طوّحت بي بعيدا، حيثُ صوتي لم يعد صوتي، بل صار شريانا من دمي، أكلم به نفسي فيخدش صمتي لتطلع منه أبخرة حارة، لو قشرتها لوجدتُ دمي الضائع منذ قرون. هكذا رأيتُ الأشياء وعشتُها في وصولي إلى مدينة قابس(5) متأخرا ،وقد لفَّ الظلام لفّاته على رأسه بإتقان ، متدثرا بأمطار دسمبر. رأيتُ كل شئ ينمو ويعلو، في قابس ذات الأبراج النورانية، لا يراها ولا يطلع إليها غير الطهرانيين ممن آمنوا بالفجر والمطر..مثلي بالتأكيد، فأنا أشعر بكوني آخر عشاق الفجر المبلل بالمطر. • القيروان ..عتبات الذهول: قال الرقيق القيرواني في قطعته "تاريخ أفريقية والمغرب" ، بأن عقبة لما وصل طنجة، رحل منها إلى السوس الأدنى ثم الأقصى، وقاتل أهالينا قتالا شديدا "فأصاب نساء لم ير الناس في الدنيا مثلهن، فقيل إن الجارية منهن كانت تبلغ بالمشرق ألف دينار ونحوها". *** حينما تخالطت أنفاسي ، في ذلك المساء الممتد على سهل المطار الدولي قرطاج، بأبخرة نديّة ضاجّة بروائح روحانية، آنذاك، طلعتْ من دواخلي أحاسيس بائدة ومتوغلة في مناطق قصية من وجداني.إحساس أني كنتُ في هذه الأرض قبل خمسة عشر قرنا خلت، ولما تزال آثارها المتجددة بنفس الدهشة حينما اخترتُ أن أكون فاتحا، بدم أمازيغي وإفريقي وعربي، في "معسكر" قررنا ،خلال ذلك الفجر الأول لحياتنا الجديدة، أن يكون محطة طلوع الشمس وتصريف الغيوم وتَمَلك أسباب تفاعل واختلاط الحلم في اتجاه غرب الروح. كنتُ أرى، خلال إقامتي، غُبارا صافيا(نسجت منه أمي، لي ولكل الثوار، أقمصة صيفية وشدودا بيضاء تتضمخ بدمائنا الفائرة) وأسمع دقات الطبول ووقع حوافر الخيول وهمهمات لا محدودة بلهجات متعددة، وكانت أيضا أحاسيس رقيقة تغزوني غزوا غزوا. الآن،ما تزال نفس الشموس تُشرق على الأحلام الممددة غربا، إلى حيث تُبللها بما فاض من ذهول دائري ..ثم تتبعني أينما حللت. يوميا، كنا نأوي ليلا، وفي وقت متأخر إلى خيامنا، يُحوطنا ما ينهض بداخلنا من تذكرات.. وقد هبّت الأمطار، بعد ثلاثة أيام من وجودنا، لتضرب الأرض بدون انقطاع، كما لو أنها تبحث عن آثارنا البائدة.. في انعطافتنا اليومية على مسجد عقبة بأنفاسه الروحانية...ثم كل الدروب المتربة والزكية . كنا نحس بأن القيروان(6)، هي الآن وقبل ذلك ، الفاتح الدائم لمخيلتنا..فنصيخ السمع والوجدان للرغبات المتشكلة في كل القصبة بجنودها الفاتحين ورؤاهم المبللة بمياه البحر وروائح الأساطيل البرية .ثم نلتفت إلى أبي زمعة البلوي،والى أبي المهاجر الذي خانته الفرص الضائعة كما لم تخن كُسيلة. هناك ،حيث عقبة بن نافع الذي أنشأها بالطوب والحجارة وعرق الطريق والروح الساخنة ، فتحوَّل ما خلفه إلى حكايات تُروى بكثير من التقدير ؛ وهناك أيضا الأديب صلاح الدين بوجاه الذي رسم لنا خيالاتها في سرود رائقة ...كما سيرسم الشعراء والروائيون نصوصا بديعة عن الأمكنة هنا وهناك .
• من وراء الحُجُب ..لوَّحْتُ بيدي حينما كنتُ أسرق تلك اللحظات من الندوة ، منسحبا للاختلاء بنفسي واقفا أمام البحر ، بوجدانه الأزرق المتوسط وهو يمدُّ روحه المتمايلة ، غير عابئ بما مضى وبما سيأتي ، فهو خبير بأن العالم مليء بالتفاهات والصغائر ؛ يكفيه فقط هزّ رأسه العاتي إلى كل الأساطيل التي حملها ليشعر بالامتنان للواحد الحي الوهّاب . في تلك اللحظات ( وقد انتظرت طويلا تواصل روحي مع أرواح من شعرتُ بضوئهم الروحاني ينفذ فيضا منّانا وعميقا إلى روحي الهشة) تطاير رذاذ موج كان مختبئا خلف حركة مدٍّ بَدَتْ هادئة في البداية، قبل أن تفاجئني وتطلع نحوي ..كأنها ،يا مولايَ، تفتح ما انغلق فانفلقت الذاكرة ، أو عُلبتها القرنفلية تحديدا ، عن حجاب الأزمان الغابرة . كان فجرا مُثقلا بالضباب والساعة تُشير إلى السنة الرابعة عشرة وثمانمائة قبل الميلاد ، وهي الموافقة لألف وأربعمائة وست وثلاثين سنة قبل الهجرة . ظهرت سفن عدة، تتوسطها سفينة ذات بناء مخروطي جميل، شامخة بلونها الأرجواني وخط أزرق مائل ، عليها الأميرة عليسا القادمة من "صور" الشام ، تنشر بعينيها دهشة الوصول ...وهي الهاربة من أخيها الأصغر ،بيجماليون، الذي غصبها مُلكها وقتل زوجها آشرباس ، كاهن ملكرت . يملأ نظرتها حزن لفقدان والدها متّان . رفعتُ يدي مُلوِّحًا لها ، ففاضت دهشتها حتى تحولت مَدّا عاتيّا .عدتُ من شوقي الذي طال "أسكبُ في الكؤوس دمي "منتصبا على هضبة بيرسا أناديكِ بلغاتي كلها وأنتِ بعرش الضياء : عليسا ، ديدون ، الرحالة الخالدة ، أليشات أم أنتِ أليسار الروح الحائرة ، أم شامة الولية التي تنسج الحياة والحكايات لنا ...لا تفاوضيني على شيء فأنت شهوة الدهر ، خذي جلدي بدل جلد الثور ، خذي جلد الدهر كله وفكيه حبالا من الكتّان إلى سِنونَ وقرون تصل زمنكِ بزمني الآن،في السابع عشر ديسمبر ألفان وإحدى عشر : يا الصدر النافر والقلب الظافر ،أنتِ الرحمة الرحيمة ،والرقة الحق ، اليقين والصدق ،الشفق والغسق ، الألفة والاغتراب، الوعد والسعد ، اليوم والغد ، اليقين الخاسف ونبوة الكاشف ، أنت المغفرة وأحاسيس المُنى والغيب، فاهبطي آمنة مطمئنة وكلي من كل الطيبات . هبطتِ الأرضَ الخلاءَ فنطقتِ باسم قرطاج ، ثم تبعكِ المحاربون والكهنة وثمانون فتاة من عذارى قبرص ، حملتهن في طريقك لضمان النسل الوفير . عدتُ حزينا وأنا أقول لها بصوت سمِعَتْهُ كل أمة الله ..أنا البربري الأشوري الكنعاني، أنا إيناز ويرباس وأشرباس، حنبعل والاسكندر، عقبة وكسيلة .أنا أنين أول الأنبياء وصرخة آخر المحاربين ...لا تُرهِبني الأقدار في تقلباتها الكثيرة أو هرطقة الهراطقة ، ولكنه صمتك ونظراتك الزائغة . قرطاج جوهرة وسط نجوم زاهرة من أوتيكا وهيبيون وهدريم ولمتا وليكس ونيفاشا وطنجيس والعرائش ووليلي ...مسبلة الجفون، تُمدد قدميها على الساحل المتوسطي في انتظار فجرنا البهي . كل الغزاة، في الحروب البونية الثلاث، يكتحلون من رمادها، رماد الأسى، الذي هو رمادك المقدس ، ولن ينسوا أبدا، حتى الآن ، معركة كناي في السنة السادسة عشرة ومائتين قبل الميلاد ، قبل أن ينيخ الدهر ويخون القائد حنبعل، فعاد النصر الروماني مع سيبيون ثم لاحقا مع حفيده ايمليانوس . حنبعل !لماذا نسيتَ فسهوتَ وتخاذلت وغرّك السهر الطويل عن تلاوة آيات عليسا خلف ملائكة الدنيا ..فسلمتَ للأعداء كل الفيلة وتركتنا غرباء؟ ألم أقل لكَ ، يا رفيقي ، نكون رمادا أو بشرا أسوياء أو لا نكون !. ألمْ تقولي لي ، يا عليسا ، إن الطريقَ لا تكون طريقا حتى تكون بلا نهاية !. عليسا .. أيتها المخلدة في روحي ودمي ، مُزنة حليبٍ في خيالي : حينما كنّا لسنوات في حروب الكرامة والتوسع ندافع عن أرضنا وحقنا في الحياة ، لا نملك إلا قامتك والسفن والسيوف .كنتُ أموتُ وأموتُ ثم أنهض من أشلائي بسيفي اللامع باحثا عنكِ، وكلما رأيتك قلتُ لكِ ،ما سيقوله بعد مئات السنوات، شاعر اسمه عنترة في عبلته :
وَلَقَد ذَكَرتُكِ والرِّماحُ نَواهِلٌ - مِنّي وبِيضُ الهِندِ تَقطُرُ مِن دَمي فَوَدَدتُ تَقبيلَ السُيوفِ لأَنَّها- لَمَعَت كَبارِقِ ثَغرِكِ المُتَبَسِّمِ . وفي سنوات السلم أصير عابدا زاهدا، وليا وقديسا،أصوم لصومك وأصلي لصلاتك. وفي كل فجر، أصعد ربوة بيرسا لأنادي النائمين من أمة قرطاج وأقول ،ما سيقوله بعد مئات السنين، شاعر اسمه كُثَيِّر (7) لعزته : رُهبانُ "قَرْطاجَ" وَالَّذينَ عَهِدتُهُم - يَبكونَ مِن حَذَرِ العَذابِ قُعودا لو يَسمَعونَ كَما سَمِعتُ كَلامَها - خَرُّوا لِ"عليسا" رُكَّعاً وَسُجودا • حكاية قديمة لتسلية المسافر وأنا أمام البحر ، أبصرُ وأسمع بروحي دقَّات طبول طالعة من أعماق البحر .لن يتخيّلَ أحدٌ أنَّ كلَّ الأناشيد الرومانسية التي كتبتُها لكِ وحدكِ على مآقي الخيال المخترق لزمننا ، ستجد ألحانها داخل طبول ومزامير الفرقة المرافقة لجيوشك ، في المدينةالجديدة حيث كهفنا القديم. تُغافِلُني رشّات باردة تُذيقني لذة الزمن الحق الذي أنا فيه .أحمدُكَ ربي حمداً كثيرا عدد خلقكَ وزِنةَ عرشكَ .بالسماء من غير عُمد والبحار من غير سد ، لو تجعلُ كلَّ هذا الماء مِدادا سائلا غائلا لدونتُ ما أشعر به دون أن يكفيني .
*** قلت في نفسي ما نسيته قبل تذكره، وكنتُ وحدي دونما شعور بذلك، ولكني أشرت لنفسي بأن أهتم لكل ما سيأتي.قررتُ البحث في ثلاثة أيام ضائعة من رحلة سيدي علي الشاوي قبل قرون إلى البلاد التونسية . ولا أحد يعرف عنها شيئا، حتى إن جميع مؤرخي البلاد المغاربية، ومؤرخ الشاوية ومرافق سيدي علي وكاتبه، الشيخ الهبطي،أسقطوا تلك الأيام وسكتوا عنها سكوتا مريبا، ولم تفضح الحكاية سوى جملة مرمية في سياق عابر، من تقييد للهبطي ،يقول فيها: "وبالبلاد التونسية ، بعد مروره على بلاد قسنطينة، سيقبس نور شاخد بقلب سيدي علي ويهز وجدانه هزا لم يفق منه ثلاثة أيام خالدات". هل أنا هنا من أجل البحث في تخمينات ضائعة لجدي أم إعادة تركيب كل الجزئيات والتفاصيل وتشفير الحدوس والتخمينات الخاصة بعليسا في قرطاج، أم باكتشاف هويتي التي طمرتها الأزمان ؟ حول سبب سفره، أنه كان بقبته الرابضة على سهول الشاوية ، في غفوة ، فسمعَ هاتفا في الحلم يدعوه إلى تفقُّد بلاد الله والبحث عما يشفي روحه من الحيرة، بعدما ثلمها غلوُّ اليقين . فتح عينيه مذهولا.. ولم يكن قد نام سوى ساعة واحدة بعد سهرة طويلة مع الهبطي...الذي ما زال منزويا في ارتخاءاته الليلية يُشعلُ ويحرق السفن القديمة ، المصنوعة من ربْطات وأعواد الكيف الكتامي. وفي انفلاق ذهوله العالق ، قام الشاوي واقفا ليتدبّرَ رؤياه، فهمَّ خلفه الشيخ الهبطي لكنه سقط.عاد مقرفصا بجواره ، ثم رفعَ رأسه وهو يسمع قوله بلغة الحسم: -"سنرحل بعد ساعة واحدة شرقا.نفس الحلم أراه منذ أربعين ليلة يأمرني بالرحيل دون توقف، شرق الروح، ولن أنزل عن ناقتي حتى يأذن الله بذلك.جَهِّزِ الخيل والنوق والمؤونة وعشرة من الرجال الشداد واكتم الخبر..وقل للنساء إنني ذاهب لتفقد أحوال ممالكي ". أغرتِ الأمطار الكثيرة علي الشاوي، فالجميع مختبئ وهادئ ولا خوف من أي طارئ.هيَّأ كل شئ وانطلق مستعينا بالصوم والصمت، لا يتوقف إلا لقضاء حاجة، ثم يواصل المسير ليل نهار دون توقف. وبعد سبعة أيام وليال، بين الواحة والبحر، الأرض والسماء، الغيب والحلم .. توقفت ناقته المباركة وبركت، فالتفتَ إلى الشيخ الهبطي قائلا: -"هنا ذاب ذهولي". سألوا فعرفوا أنها البلاد التونسية. • برشة برشة.. يا تاكابي الغروب في تاكابي التونسية وهْمٌ وتعوُّد، مثل البحث في تخمينات جرت في هذه الأرض التي قيّدها الشيخ الهبطي أرضا حرة. واعتبرها أرض رسالات الأحرار. في كل مرة ونحن نناقش، كنت أحس بلذة الاحتمالات الغائبة وتواريخها المردومة. في الأيام الثلاثة الضائعة، رأيتُ أن علي الشاوي أغرمَ بامرأة ذات قامة نورانية.فخمنت أنها ارتمت على روحه، وكان الظلام قد لانَ.آنذاك، رميتُ يدي ( بل هو من رمى، أنا فقط أتخيل) رمى ورميتُ إلى الخصر فلم أجد ما يعيق اللمس، ثم في ذهول رباني رفع رأسه إلى السماء وقد عَلَتْهُ كل الدهشات الضائعة من قرطاج إلى تاكابي إلى قسنطينة إلى تامسنا إلى إيتاكا... قال وقلت وراءه: ربي، الحياة حقٌّ وأنتَ الحقُّ القيوم.ربي اِمْلأ كأسي بمُنايَ ومبتغايَ واسقني بما يكفي من مزن يدمّر كل السدود العالية فيروي عطشَ حقول الرّمان والزعتر والنعناع.ربي لا تحرمني من فواكه دنياك ولا تُمِتني واجعلني خالدا في سلالاتي.إنني في جنتك. - لا يكفي تَمثل ما جرى،بل عليَّ الإحساس به. - من أكون ؟وكيف لهذا الدم الساخن الذي ألهب وجداني وهزَّ مشاعر أمتي كلها أن يجري كل هذه السنون في دمي، طاهرا عَفِيًّا . مثل الندى (كان الندى ، دافئا ، على غير عاداته منذ الأزل) ، يهبطُ على الزمن في غنج وانبهار، يتلمس الأرض العطشى ثم ينخطف ليعلو هاربا، في دلالٍ مداعبٍ ومستمر، وفي انخطافه الروحاني أثمل بتلك اللمسة، فينقسم من حُبٍّ دافقٍ يشقُّه، ليعود مثل عدّاء رشيق اختزن كل انتصاراته ليهبط الأرض بسلام، مستسلما آمنا ينساب ويذوب...ولا أحد يعرف، منذ أن خلق الله الأرض والمطر، من يذوب في الآخر؟. رابتْ أشواقي... وهي الآن،تتفتتُ، تذوب وتتفكك في جذبتها، وأنا في كُدية قرطاج أتصببُ عرقا،بعينين مغمضتين..أرى، سيدي علي، هناك في ربوته الخالدة بالجنة،محاطا بكل فواكه الزمان.يبتسم وأنا أتمرغ بحثا عن استجماع فُتاتات أشواقي. صوت ينهمر من بعيد، من هنا أو من هناك، لم أستطع تحديد مصدره، ولكنه يخترقني كما الأغاني القديمة بدقَّات الطبول وبموسيقاها الحارة، والعلو الفادح الذي لا تشده حبال امرأة أو رجل. تمهلتُ وخفَّ عني صبيب العرق فأرخيت سمعي أصيخ إلى نشيدٍ طالعٍ من أعماق البحر: [مَا لِي ما لي و مَالْ الشمعة مَا ضَوَّاتْ لي في ظلام ما لي و مالْ السّعد مَا سَقّمْ لي لِيَّامْ حتى نْصِيبْ ما فرَّحني نسّاني في ليّام...اللي امْضَى عني وراحْ خبّل لي تخمام...](8). *** كان جدي يضحك حتى خِلتني أسمعه وسط قولها الجريح:" الشَّعْرُ كْحَلْ غَمْرَه مَلْويّه "، وعيناها غيمتان تسقيان روحي صباح مساء. "الرقبة، سْبولة كتامية "، أحضنها وأدق بماء روحي أعوادها الطازجة.ورمانتاها "عسّة وطنية " وساقاها "شمعة مكدية". قام جدي من زمني.فسعيتُ ، بدوري ، إلى استجماع ذرّاتي. نهضتُ ثم عدتُ فرِبْتُ(سقطت مثل كمشة تراب في يوم عاصف) أبحث وسط التراب، المعجون بعرقي وروحي، عن مشاعري وقد ذابت وتسربت إلى الأودية الجوفية الراحلة إلى عمق الأزل المظلم. فتّشتُ في ذاكرتي عن الرقة التي لا تفارقني فثمِلتُ، آنذاك عادت إليَّ روحي، وطلعتْ من دمي خمائر وجداني،ثمَّ استقمتُ في وقفتي الأبدية، أفردتُ ذراعيَّ على طريقة المصلوب – وأنا المسلم ،المؤمن، التقي، الورع- أريد معانقة أرواحي التي سكنتني منذ سقوط العواصم على إيقاع أناشيدنا. • عتاقة الزعفران : في أول يوم من وصوله، حلقَ رأسه بالمكان الذي كان يعيش فيه أبو لبابة الأنصاري، يتطهَّر من ذنوب لا يعرفها سواه وذنوب حفيده الذي جاء بعده بقرون .ثم قام وغسل رأسه بماء دافئ ، بعدها ،لفَّ عليه الشد بزهو متحسسا، بيمناه،صدره كما لو كان يبحث ،برفق، عن جِرار وخوابي بها أساطير دفينة. قال للشيخ الهبطي: - لا تُدوِّن شيئا عنا هنا، فصحائف السماء كفيلة بذلك. ثم اتجه برفقته نحو البحر ،وكان الوقت ساعة غروب. أبصر بعينين مشبعتين بكل التذكرات الماضية والآتية، فرآنا، بل رآني وحدي في غربتي وحيرتي .لحظتها رفع يمناه عاليا، كما رفعها كل الأنبياء من قبله، رمى الشد الأبيض عن رأسه الحليق ودخل الماء مستحما بملابسه وقد توقف الغروب إلى الأبد. وقبل أن يصرخ ، كان كل الأولياء الراقدين في قبورهم المعلومة والمجهولة ، قد هبّوا واقفين مثل محاربين مُلبّين النداء الأخير للقائد ، وهو يقول : - عليسا أم شامة ؟ من تكونين : شين الشاوية وعروش الهاوية .وأنا من أكون ؟ دم القيامة وسروج الغمامة .متى تضعين ابني الراقد في أحشائك منذ سبعة قرون قبل الميلاد .ابني من سيقود جيوشي ،جنوبا، لتحرير الأحلام القديمة . كانت السماء مثل كبد عامر بالحنين، وقد ملأ نفسي إحساس بأنني أحيا في حُلمين لكلٍّ منهما احتمالاته ، الله وحده يعرفُ نهايتهما . تحديقاتي تلهمني أن أرى ما ضاع واندرس، فرأيته أمامي جذلانا بي.. لم أسأله عن محمد بن عبد السلام، وكيف عرفت أنه عاد بدوره واستقرّ في المزامزة بحقول أولاد سليمان يقيد الرياح ويوزعها. كنتُ وإياه على مبعدة ، وفي اتجاهين متعاكسين ، دون أن يلتفتَ بعضنا إلى الآخر ، فأتاني صوته كهدير الوحي : هل أنت محمد بن عبد السلام؟ قلت: لا، أنا الغزواني والنعماني والسليماني والزعفراني... ثم أحسست بهبوط وجداني عميق، أشعرني بحمرة أشبه بدم الحلم الذي طلاني، وبلون الأرض والغروب والشفق البعيد، فمشيتُ وهم خلفي حتى رأيت قرطاج المرصودة وسمعت خلفها أصوات الحياة ، فاندفعت ودخلت آمنا. في صمت صموت، تحت تدفق الغروب الذي كان حبيس إشارة جدي، رأيتُ قدومها بعد النداء ، لتجلس منعزلة أسفل شجرة خروب، دنوتُ منها وقد نسيت ارتباكي الأول. ما زالت في نفس عمرها الذي كانته منذ قرون عالية في لحظة غدر مزدوج، لن نسامحهم فيه. قبل ذلك، كنت قد قلت للكاهن آشرباس :إن عليسا لن تهبط أرضنا حتى تتطهر بالأمطار الطوفانية، و لن تسامحنا حتى نُرجع إليها دمها المسفوح ومُلكها في كل العواصم ، و لن تحكم من على الربوة المقدسة حتى ترى أنوار الحق العظيمة. عدتُ إلى ارتباكي وأنا أدنو منها، فقلت لها: - أنا عبد السلام، بل محمد الشيدي بل الغزواني. نعم، أنا الحفيد،شعيب الشاوي بن محمد بن عبد السلام بن خليفة بن جدنا علي. - أنسيتَ أن جدك علي الشاوي أحبك ورآك منذ آلاف السنين ؟ - لا ، لم أنسَ شيئا أبدا . - ولماذا تركتني .ركبتَ فرسي وسافرتَ بعيدا تبحث عن حروب موغلة في الحياة؟ - لم أقدر على رؤية الحزن الراقد خلفَ عينيكِ ، فرحلت. ضحِكتْ، ثم أخرجت دفاترها القديمة ببطء، فتحت الصفحات الثلاث من دفتر قديم من رق جلد أعرفه (ثلاث صفحات لا تختلف عن الأيام الثلاثة الضائعة )، وبها رسومات للأساطيل وخريطة بحرية ممتدة من أسوار الشام المتهدمة إلى ربوات قرطاج ، وفي واحدة منها لمحتُ صورتي بالرصاص الأسود،كتبت عليها بخط متعثر "بدأت أحبك ". لم تتكلم وجلستُ بجوارها . خمنتُ، هل ستتذكرين حينما أشرح لك طرق الصيد بالفخاخ والشباك؟. لم نعد – أيتها الأميرة - نرث في هذه الدنيا غير حبك وطهريتك. ثم عانقتها وأحسست برعشات موروثة أستعيدها في دمي. أغمضتُ عيني داخل حضنها، ثم هممت بفتحهما فرأيتني وقد صرت أعمى. لم أصرخ، توحدت داخل نفسي، هبطتُ إلى وجداني أبحث عن منديلها( الذي لوّحتْ لي به في أول وصولها) وبلمسة منه، أبصرتُ وعدت أقول لها: - أي بحر يكفي مداده لتدوين الأيام الثلاثة الضائعة ؟. - ولكن، لماذا اختفيتَ وتركتني في السفينة وحدي .( قالت). - لأنك أول وآخر ملاك شهيد في حياتي، وأجمل ثورة في وجداني، مكتوبة بنور الحق على مآقي الملائكة بالزعفران كما على قلوب الشهداء والأصفياء. أخذتني من يدي اليمنى، ابتسمتْ وَرَجَتني أن أغمض عيني ثم أفتحهما، فرأيتني معها، ندخل كهفا أرضه من زعفران وكبريت أحمر ،حوْلنا منارات من ذهب،مزينة بالجواهر. نُخبئ فيه حبنا القديم وبداخله نتعشى،سويا،بالحليب والكرنينة. لما اقتربنا من أحد الأبواب، قرأت على لوح كتب بحروف عربية: هذا بيت عليسا الخالدة. دخلت، لن أروي ما رأيتُ، ولن أتكلم عن الجنة، كما وعدتُها. ومشيتُ أبحث عن الطريق التي لا تكون طريقا حتى تكون بلا نهاية . - نظراتي تسبق كلماتي ووجداني ينهرق أمامي دفقا دفقا .(هكذا عنَّ لي أن أرُدّ ). (ما يقهرني، ويهز كل وجداني..مُطوِّحًا بها - في انشداد وذهول رومانسيين - من الشاوية العظيمة وسهولها الطاهرة إلى ظلال وآثار الجنة التي ضاعت منا.. إنها الرغبة الآن في أن أراك وأكلمك وتجري الفتنة بيننا مجرى الشمس من المغرب إلى الجنة ، ذهابا وإيابا). - مثلي،لا يتعبها في هذه الحياة إلا قلبها وفهمها العميق للغة الإشارات ودلالتها. - انتبهتُ إلى كل مساحات انبهاري التي لا ترويها سوى كلماتك ، مثل سهو نظراتك في أشد لحظاتها عمقا.سأكتبُ إليك لاحقا كما لو أكتبُ إلى دمائي التي ظلت مسفوحة في امتدادات الروح. • وقوف ليس كمثله.. وقفنا ،أنا وجدّي، في نفس المكان واللحظة بفاصل زمني لا يُحتسب، ورغم ذلك أحسست به يزاحمني، ومثلي يقف فننظر إلى السماء، ثم أجلس على ربوة غطَّتها شقائق النعمان .. - يكفي أن أسمع صوتك كي أحيا حينما أكون حزينة ( قالت بصوت ناعم ). - يبدو أني سأكمش صوتك بين يدي وأعجنه...ثم أطلي به روحي وجسدي ( قلنا، أنا وجدي في نفس الآن). - لا تؤلمني، أنا أموت بين يديك.خفف عني وهَبْنِي المزيد ( قالت). خرجتُ من ذهولي ورميتُ يدي إلى قلبي .أخرجته لأطوحَ به كمن يريد زرعه هناك. هبطتُ إلى الأرض جالسا، تمددتُ ووجهي إلى السماء.نظرتُ من بين أصابعي إلى الشمس فتذكرت كل شيء. - ( بداخلي قلت سيظل وجداني شامخا) ولما رمشتْ عيناي كان الله قد أعلن قيامتنا فأبصرتكِ تركضينَ بحب وخوف وطموح، ثم ترتمينَ بين رحمات الله، سيدي ربي، تبوسين وتضحكين وتبكين ، وأنتِ تقولين: آسيدي ربي، دع لي قرطاج والشاوية.دع لي الجد والحفيد ،الكاهن والمحارب، النبي والولي. *** هناك ، حينما كنتُ بقاعة قصر المؤتمرات مُتابعا للحوار والمناقشات ، نهضتُ خارجا كأنما هاتفٌ عادَ يناديني ، فخرجتُ إلى الوسعة الفسيحة المُطلة على البحر المتوسط ، ونفس الأمواج تُعاودُ مُراودتي وتعبث معي ..لحظتئذ ، وفي آنٍ واحد، رمتني عليسا بمنديلها الأبيض الذي حملته معها من إرث والدتها ، كما رماني جدي بسلهامه الأضرع، صنيع جدتي ، فأحسست بالدفء وواصلت رحلتي.