شُعيب حَليفي لم أكن أحمل غير حقيبتي الخفيفة، حين توجّهتُ، برفقة صديقيَّ سعيد يقطين ومحمد عز الدين التازي، نحو فندق «بّلاص» بكمّرت في الضواحي القريبة من المرسى، على مسافة قصيرة من قرطاج. كنتُ مُتعبا، وبحاجة إلى نوم طويل أستريح فيه من آثار تعب تليد، حتى أستعيد تركيزي لتلمس بعضٍ من آثار ثورة قرنفلية أبدعها جيل جديد يُكنس الظلام ويُشعل النار في مرحلة بَدَتْ مثل قش هارب. وكل من يقرأ تاريخ تونس، منذ الفتح حتى الآن، سيجد أنه لم تَخْلُ محطة من فرار حاكم ظالم أو انتحاره. ويمكن فهم كل ما يجري، الآن، بالعودة إلى ارتماءة عليسا، على حافة قرطاج في نار الخلود والامتنان والمحبة، صونا لكرامة الحياة ورماد العشق الساخن، وإلى الحركة العفوية لمواطن بسيط اسمه البوعزيزي، والتي كانت من بين ألاف العوامل الحافزة لتلك الانتفاضة الشعبية. وبعد أزيد من ثلاث وعشرين سنة من الحكم الفردي، ومن كَبْتِ الحريات واستفراد كمشة من المُقربين بالثروة ...بلغ السخط مداه وعمّ الإحساس بضرورة الانتفاض وتكسير القيود الثقيلة والصدئة لعقود العبودية، وكان خبر إحراق مواطن من سيدي بوزيد لنفسه، احتجاجا على مضايقته في كسب لقمة عيشه، سبيلا لانطلاق ما كان مؤجلا، ابتداءً من السابع عشر من ديسمبر 2010، ثم تتواصل عدوى الاحتجاجات في عدد من المدن التونسية الأخرى فتشبُّ نار مواجهات دموية عنيفة خلفت قتلى في صفوف المتظاهرين. ورغم محاولات امتصاص الغضب والالتفاف على الثورة، فإن ثلاث خطب للرئيس الفار زين العابدين بنعلي (28 ديسمبر2010 و10 يناير ثم 13 يناير2011 ) لم تعد تنفع، فاضطر إلى الفرار وعائلته يوم رابع عشر يناير 2011 نحو المملكة العربية السعودية التي قبلت لجوءه بعد رفض فرنسا. جاء وصولنا متزامنا مع تعيين السيد منصف المرزوقي رئيسا مؤقتا للبلاد من طرف المجلس التأسيسي الذي يدبِّرُ المرحلة الانتقالية إلى مرحلة لاحقة. ما زال هناك تخوف من الحاكمين الجدد، من حزب النهضة، ونواياهم التي لم يَخبَرها أحد بعد، بل هناك يقين راسخ بأن الثورة لم تكتمل، وأن التاريخ لا يكذب أبدا بخصوص من يقطفون ثمارها!!. كانت تونس أول بلد عربي أزوره في مطلع التسعينيات، إذ نشأ اللقاء الأول بمدينة قابس فالقيروان وعبرهما زرتُ العاصمة وصفاقس وسوسة.أما قرطاج فأزورها لأول مرة، وقد وجدتُ الصديق الأديب التونسي المرساوي، رضا بن صالح، خلال هذه السفرة، خير رفيق لي، حيث جعلني أزور قرطاج وسيدي بوسعيد والمرسى وعددا من المعالم التاريخية والثقافية، مستمتعا بالأرض التي أمشي عليها، بصمتها الشاعري والثوري في آن، وبيوتات أهلها البسطاء وقبب أوليائها الشامخين، هنا وهناك، بالإضافة إلى قصور البايات والدايات والسلاطين وأنين القديسين وصرخات كل الجنود والمغامرين ممن ضاعت أرواحهم على هضبة بيرسا، أو في ذلك المد والجزر المتوسطي البطولي، بين قرطاج وصقلية والتفاتا نحو طنجيس والعرائش ووليلي. كأنه الأمس القريب جدا، في رائحة الحكايات الملفوفة داخل طروس ملحمية كُتبت على جلدي الذي لم أستبدله، حتى صار سِفْرا لأسفاري أقرأ فيه وأتأمل. جلسنا في مقهى الصفصاف، محاطين بإقامات ملوك وبايات الزمن الماضي، من قصر العبدلية إلى دار التاج إلى أقواس ومنحنيات تحت التراب، تربط المكان بأريانة، بقرطاج، بسيدي بوسعيد الفنار، بالمرسى، بحلق الوادي... ويحق لصديقي رضا بن صالح أن يكون عابدا أبديا لهذا المكان، يُحاور تربته وحجارته وبساتينه، كما يُحاورُ سلالته وتوأم روحه، ليحيا هويته المديدة هناك. عاد الجو إلى دفئه بالنهار، مما أتاح لنا قضاء أيامنا المعدودة هناك، بمزاج رائق، خصوصا أننا كنا في ضيافة طيبة من طرف أصدقائنا التونسيين وبرفقة أدباء أعزاء من الوطن العربي. في كل نقاشنا الثقافي ببيت الحكمة – قرطاج، داخل قصر ترشقُ الأمواج المتوسطية حيطانه العالية رشقا نوستالجيا، كان الإعلام المرئي والصحف الوطنية تخوض في مستجدات الأوضاع السياسية، في خطاب الرئيس المؤقت وقد خاطب الناس بكلام مؤقت، وفي حزب النهضة الحاكم الذي يخشى الناس أن يكون مُخبِّئا «الذئب تحت القفة»، كما نقول عندنا والله أعلم!فيما هناك فئة أخرى متفائلة ومرتاحة لتجربة المرجعية الدينية، لأن الجميع، اليوم، أمام رهان تحول عظيم سيكون من أهم أولوياته إصلاح الأعطاب القاتلة اجتماعيا واقتصاديا وتعزيز ضمان الحريات. كانت حواراتنا، خارج قصر المُجَمّع، تدور حول أوضاعنا العربية؛ في تونس وسوريا والأردن ومصر، ولم يكن غريبا أن أجد أدباء الأقطار الأخرى يعرفون دقائق ما يجري في المغرب، كما نعرف- نحن- نفس الشيء، وكانوا متطلعين للسؤال عن تجربة المغرب، بعد فوز حزب العدالة والتنمية وتحالفاته مع حزبين من الكتلة وحزب ثالث يميني. في كل الأحوال، وعلى غير العادة، كنا متفائلين، رغم أن من بين قواعد الأزمات أن تتيح الفرصة لمن لم يكونوا في الحساب. مرجعيتنا نسيج متناغم واحد يُعلي من هويتنا التي أراها في كل شيء، وحتى في أخطائنا الصغيرة. خلال جلسات النقاش الثقافي المتواصلة، كنتُ أسرق بعض الوقت لأزور خالد بن يوسف في مكتبه ببيت الحكمة، والذي زوّدني مشكورا ببعض الكتب القيمة، قبل أن أخرج إلى الساحة المطلة، من علٍ على البحر، فأرى ما لا تراه عيني، ثم تخالطت، مرة أخرى، لحظتي الراهنة بلحظات سابقة.