بشكل غير مسبوق منذ ميلاد المغرب المستقل، يجتاح البلاد فراغ سياسي، من جراء عطالة مؤسسة الحكومة، وهي المؤسسة الدستورية والسياسية الهامة، في هرم السلطة، والتي ينعقد لها وبها التسيير النظامي والدستوري والقانوني لشؤون الدولة والمجتمع. وفي ظاهر الأوضاع، وعلى سطح صفحة الواقع اليومي، يبدو هذا الفراغ السياسي، من خلال سكون المجتمع، وصمت الشعب، وهدأة الطيف السياسي، وشرود المواطن، يبدو فراغا سياسيا هادئا، وعارضا، وعابرا، غير مثير للوساوس والهواجس، فعجلة المعيش اليومي سائرة، ورحى الإدارة والاقتصاد والإنتاج دائرة، والأمن قائم والنظام مستتب، والمواطنون يتفرجون على مناورات الأحزاب ومناكفاتهم المسرحية المضحكة المبكية كما يتفرجون على لعب أطفال، وحركة النهار يبتلعها ظلام الليل، دون انفلات ولا انزلاق ولا تصدع.
ولكن عمق الأحوال، وباطن التداعيات، ينبئ عن انطواء هذا الهدوء على خديعة مضللة، وانطواء ذلك الصمت على خطورة مهددة قاتلة، شبيهة بخطورة الأدواء التي تنخر الأجساد بصمت قاتل رهيب.
ثلاثة أشهر وما يزيد، تتلكأ الأحزاب السياسية عن تشكيل الأغلبية التي من شأنها إفراز الحكومة المنبثقة عن نتائج اقتراع السابع من أكتوبر، وقد وضعت الأحزاب السياسية المشاكسة نفسها في وضع بئيس وكريه، أمام أعين الشعب الذي يراقب الالتواءات، والتزحلق بين المواقف المتناقضة، والمناورات التي أقل ما يفتضح فيها أمام المواطن البسيط، أنها مناورات جشعة متهارشة حول أنصبة الغنيمة الاستوزارية، وحول أنهر ووديان الميزانيات ومدخرات المال العام.
هذا أقل ما ينطبع في ذهنية المواطن البسيط الذي تطحنه محن البحث عن القوت اليومي، ولم ير قط في أي حكومة، مرت من أمامه، أو عبرت فوق جراحات ظهره، أي بارقة أمل في خلاصه، ناهيك عن رفاهه وإسعاده.
أما المواطن السياسي المتتبع، أكان مشاركا أو مقاطعا رافضا، فقد بات مبصرا واعيا، بخلفية المناورات الحزبية، وكيف أنها تفتقد للمصداقية وتفتقر إلى شرف القرار المستقل، وتغامر بالمستقبل الديموقراطي للبلاد، بل وتضع التأمين السياسي والاجتماعي في كف عفريت.
وقد كان المغرب الجديد، الذي انبثق من حركية المجتمع سنة 2011، وانصهر في بوتقة دستور الفاتح من يوليوز2011، يسير حثيثا على درب هذا التأمين السياسي والاجتماعي، للارتقاء نحو الأفضل، نحو تأمين ديموقراطي كامل يضمن الإرادة السياسية الحرة والناضجة والكاملة للشعب المغربي، دون انتقاص منه أو وصاية عليه، والمرحلة المنصرمة، التي ولدت فيها التجربة الحكومية الأولى، من رحم الإفلات من تسونامي الربيع العربي، لم تكن سوى مرحلة تمرين على تفعيل المكتسبات الدستورية الجديدة، والتي كان من أبرزها اكتساب الحزب السياسي الصفة الدستورية، ومن خلالها اكتسابه فاعلية المشاركة في الحكم، وكرامة الاستقلال والسيادة في القرار والاختيار.
والمحطة الراهنة كانت هي فرصة المغرب للإقلاع الديموقراطي، وإنضاج المكتسبات الدستورية التي حفل بها العقد السياسي الجديد، وقد دشنها الالتزام الملكي بإنفاذ المسؤولية الملكية السيادية الدستورية فور إعلان النتائج الانتخابية، في تعيين رئيس الحكومة من الحزب الفائز انتخابيا، وباشر رئيس الحكومة المكلف، إجراءات إنفاذ التكليف الملكي بهدف تشكيل حكومة يكون هو رئيسها، وتنسجم مع مقتضيات الوظيفة الرئاسية، التي يضمنها الدستور ويمليها واجب إنجاح التدبير الحكومي، وضرورة ضبط التضامن الحكومي بين يدي معارضة حية ونشيطة وفاعلة في تقويم كل نشاز سياسي.
غير أن هذا الإيقاع الدستوري المنضبط والمنسجم والمتناغم، بدأ بالإرادة الملكية الضامنة دستوريا بحماية الخيار الديموقراطي، ومرورا بالممارسة الشعبية لحق الاختيار بالتصويت في صناديق الاقتراع، ثم القرار الملكي بتكليف رئيس الحكومة من الحزب الفائز، وانتهاء بممارسة رئيس الحكومة المكلف لحقه في تشكيل حكومة منضوية تحت رئاسته ومنضبطة لسلطته الرئاسية، هذا الإيقاع انفرط عقده بين يدي الطرف الرابع، وهو الأحزاب السياسية المدعوة للمشاركة، التي كان لها فهم معتسف لمقتضيات الدستور، فراحت تتكتل لتفرغ رئاسة الحكومة من محتواها الدستوري، وتشكل معارضة للحكومة من داخل الحكومة.
هذا الطرف الرابع، بعد الملك وهو يضمن ثم يقرر ويكلف، وبعد الشعب وهو يسود وينتخب، وبعد الرئيس المكلف وهو يمارس صلاحياته الرئاسية الدستورية، هذا الطرف بممارساته المشاكسة والمساومة، وتأويلاته الخاطئة، إنما يتمرد على العقد الدستوري الجديد، فيفرغه من محتواه التقدمي، ويتمرد على القرار الملكي بالتكليف فيعطل مفعوله، ويتمرد على الشعب فيعرقل مساره نحو انبلاج فجر الديموقراطية الحقيقية، ويتمرد على الرئيس المعين فيصادر حقه في تكريس ما يراه منسجما مع مأموريته الرئاسية.
إن من التداعيات الخطيرة لهذا الفراغ السياسي، هو إسقاط هيبة العقد الدستوري السياسي الجديد ومن ثم إسقاط هيبة كل التصرفات والضمانات السيادية للبلاد، بما يترتب عنه استفحال نزعة التمرد والتسيب، إذ أن خلخلة الثوابت الدستورية، ومنها الخيار الديموقراطي، لا ينتج عنه سوى خلخلة التماسك وزعزعة الانصياع لسلطة النظام والمؤسسات، عندما يصبح الاستخفاف بالممارسة السياسية عقيدة المواطن وحكمه المبطن على الوقائع والتحولات.
وإن أخطر ما يميع الحياة السياسية، هو النأي بها عن صدى المرجعيات الإيديولوجية والسياسية، وإفراز التحالفات السياسية من واقع الأهواء والمصالح والمكايدات، وقد كان المغرب في وارد اكتساب ثراء سياسي متعاظم ومفيد لتنمية المجتمع وتقوية المؤسسات، من خلال الاصطفاف السياسي المبني على تقارب المرجعيات، فتنفرز الجبهة المحافظة بتحالف الأحزاب الإسلامية والأحزاب الليبرالية والأحزاب التقليدية الوطنية في مقابل انفراز الجبهة الحداثية بتحالف الأحزاب اليسارية مع الأحزاب ذات النزعة الحداثية، عندئذ يصبح للعمل السياسي معنى حيوي، بحيوية الرأي والرأي المضاد في إطار وئام الانتماء الواحد للوطن الواحد.
فهل سترعوي الأحزاب وتؤوب إلى رشدها فتنقذ البلاد والعباد من شرور العطالة الحكومية؟.