جاءت مدونة الأسرة استجابة للتحولات العميقة التي مست كيان المجتمع المغربي وغيرت العديد من مسلماته و ثوابته القيمية ،فمدونة الأسرة و ما حملته من شحنات عالية للتغيير في محاولة من المشرع لامتصاص اللاتوافق الحاصل بين مكونات الشعب المغربي حول أحكام الأسرة؛خصوصا الأحزاب السياسية والجمعيات النسوية،والدفع بها نحو القبول بصيغة تحقق التلائم والتناغم بين مرجعيتين مختلفتين: مرجعية محلية تنهل من الشريعة الاسلامية مصدرا أساسيا للتشريع،وبين مرجعية دولية تجعل من الاتفاقيات الدولية لحقوق الانسان المصدر الوحيد والأوحد للتشريع. إن محاولة الملائمة التي قام بها المشرع بين المرجعيتين حول أحكام الأسرة، وما وازها من تسويق ودعاية اعلاميين لا يخفيان في الحقيقة حجم التناقض بين المرجعية المحلية والمرجعية العالمية؛خصوصا حينما يتعلق الأمر بتشريعات الأحوال الشخصية التي هي من صميم الهوية الدينية للمغاربة داخل وخارج أرض الوطن.وحجم هدا التناقض- إن لم نقل الارتباك والتيه- لايظهر في مواد مدونة الأسرة بقدر ما يظهر في المادة 156من مدونة الأسرة حين نصت على أنه "إذا تمت الخطوبة ،وحصل الإيجاب و القبول وحالت ظروف قاهرة دون توثيق عقد الزواج وظهر حمل بالمخطوبة،ينسب للخاطب للشبهة ادا توفرت الشروط التالية: أ- إذا اشتهرت الخطبة بين أسرتيهما،ووافق ولي الزوجة عليها عند الاقتضاء؛ ب- إذا تبين أن المخطوبة حملت أثناء الخطبة؛ ت- إذا أقر الخطيبان أن الحمل منهما. تتم معاينة هذه الشروط بمقرر قضائي غير قابل للطعن. إذا أنكر الخاطب أن يكون ذلك الحمل منه،أمكن اللجوء إلى جميع الوسائل الشرعية في إثبات النسب" إن تفكيك هذه المادة و قراءتها في بعدها الموضوعي و الغائي،سيقودنا حتما إلى فهم أبعادها كما خلفياتها،التي لن تكون سوى استهداف ومحاولة لتدمير مؤسسة الزواج وذلك بالخلط الواضح بينها وبين مؤسسة الخطبة ،فالمادة 5 من مدونة الأسرة نصت في فقرتها الأولى على أن "الخطبة تواعد رجل وامرأة على الزواج"،وأضافت المادة 6 من نفس المدونة "يعتبر الطرفان في فترة الخطبة إلى حين الاشهاد على عقد الزواج،ولكل من الطرفين حق العدول عنها"،في حين أن المشرع في المادة 4 من مدونة الأسرة عرف الزواج أنه "ميثاق تراض و ترابط شرعي بين رجل و امرأة على وجه الدوام،غايته الإحصان والعفاف وإنشاء أسرة مستقرة،برعاية الزوجين طبقا لأحكام المدونة"، هذه المواد ومواد أخرى تظهر بوضوح أن لكل من المؤسستين أحكامهما الخاصة لا سواء من حيث الحقوق والواجبات أو من حيث الآثار الناتجة عن المؤسستين،كما تعمل هذه المواد على كشف اللبس والخلط الكبيرين اللذين يكتنفان إرادة المشرع في صياغته للمادة 156 من مدونة الأسرة و يبرز محاولة الزواج القسري لمؤسستي الخطبة والزواج في هذه المادة الأخيرة-كما وضحنا أعلاه- وذلك بإعطائهما نفس الآثار من حيث نسب الابن الناتج عنهما، وبالمحصلة الاعتراف بالعلاقات الغير الشرعية وما ينتج عنها إن لم نقل التشجيع عليها وذلك بإضفاء الشرعية على علاقات غير شرعية،وبذلك يكون المشرع المغربي قد خطى الخطوة الأولى في اتجاه المس بأحكام الأحوال الشخصية القطعية الدلالة التي لطالما تردد الغرب الاستعماري للاقتراب منها ومحاولة استبدالها بأحكام و نصوص تتعارض شكلا و موضوعا مع البنية الثقافية و الدينية لعموم الدول الإسلامية. فكعادتها-أي القوى الغربية- المتشبعة بأفكار الهيمنة والغطرسة الثقافية،الوفية لسياسة العصا و الجزرة لم تعد تحمل مشاريعها الاستعمارية و التوسعية دائما فوق الذبابات. بل أصبحت الاتفاقيات الدولية وهي من تحيك خيوطها والعولمة وهي ذبابتها الوهمية الجديدة من أهم الوسائل التي يمكن أن تجعلنا نطلق على هذه الحرب بأنها حرب ناعمة,تستهدف تدمير الجهاز المناعتي للدول الإسلامية،ونقول الدول الإسلامية هنا وذلك لكونها من أكثر الدول التي تملك ممانعة دينية و ثقافية عالية اتجاه المشروع الغربي الذي يروم خلق مسوخ ثقافية؛ لاهي استطاعت أن تصل إلى النموذج الغربي ولاهي حافظت على قيمها و ثوابتها الدينية و الثقافية,وما المادة 156 من مدونة الأسرة إلا تعبير صارخ عن المسخ القانوني الذي يشرعن للمسخ الثقافي و الاجتماعي,إلا أننا يمكن أن نقرأ من إحدى الزوايا رغبة المشرع المغربي من خلال المادة 156 من مدونة الأسرة لتجاوز تخلف القانون عن الواقع,لكن زاوية أخرى للنظر تخبرنا بمظاظة أننا ننتقل من تخلف للقانون عن الواقع إلى واقع لقانون التخلف.