ترجع جذور المحاولة الانقلابية الاخيرة إلى رواسب تخلفت عن فترة انحطاط الخلافة العثمانية أواخر القرن التاسع عشر و بدايات القرن العشرين، و ذلك بسبب مؤامرة القوى الامبريالية آنذاك على السلطان عبد الحميد في اطار ما عرف بسياسة (الرجل المريض)، و من جهة أخرى فإن انتشار الجمعيات الماسونية و تواطئ بعض الاقليات مثل طائفة الدونمة و الارمن لعبا دورا اساسيا في سقوط الخلافة الاسلامية ابتداء من عزل السطان عبد الحميد و وضعه رهن الاقامة الاجبارية الى حين وفاته سنة 1918، و مرورا بإعلان الجمهورية العلمانية بقيادة مصطفى كمال اتاتورك. و هنا لا بد أن ننوه بالمواقف النبيلة التي باشرها السلطان عبد الحميد الثاني في مواجهته للضغوط و الاغراءات الماسونية و الصهيونية من أجل تنازله عن الاراضي الفلسطينية للصهاينة مقابل أداء ديون الدولة العثمانية المتهالكة، بالاضافة الى امتيازات أخرى عرضها بكيفية مباشرة و غير مباشرة الزعيم المؤسس للصهيونية ثيودور هرتزل. و في هذا السياق وجه السلطان عبد الحميد الثاني رسالة شفوية الى هرتزل بواسطة الصدر الاعظم يقول فيها // ( انصحوا الدكتور هرتزل بألا يتخذ خطوات جدية في هذا الموضوع، فإني لا أستطيع أن أتخلى عن شبر واحد من الأرض، فهي ليست ملك يميني، بل ملك الأمة الإسلامية التي جاهدت في سبيلها وروتها بدمائها، فليحتفظ اليهود بملايينهم، وإذا مزقت دولة الخلافة يوماً فإنهم يستطيعون آنذاك أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن، أما وأنا حيّ، فإن عمل المبضع في بدني لأهون علي من أن أرى فلسطين قد بترت من الدولة الإسلامية، وهذا أمر لا يكون. إني لا أستطيع الموافقة على تشريح أجسادنا ونحن على قيد الحياة.) و حاولت الجمعية الماسونية المعروفة آنذاك باسم ( الاتحاد و الترقي) جاهدا الوصول إلى هذا الهدف دون جدوى، مما جعلها تقرر التخطيط بمكر للإطاحة بالخلافة العثمانية باعتبارها عائقا يحول دون انشاء ( اسرائيل)، وهذا ما يتضح بالرجوع الى الرسالة التي وجهها السلطان عبد الحميد من منفاه الاجباري بعد خلعه الى شيخ الطريقة الشاذلية يوضح له فيها تفاصيل و اسباب الاطاحة به، و يقول في ذلك// ( انني لم أتخل عن الخلافة الإسلامية لسبب ما، سوى أنني بسبب المضايقة من رؤساء جمعية الإتحاد المعروفة باسم (جون تورك) وتهديدهم اضطررت وأجبرت على ترك الخلافة. إن هؤلاء الإتحاديين قد أصروا وأصروا علي بأن أصادق على تأسيس وطن قومي لليهود في الأرض المقدسة (فلسطين)، ورغم إصرارهم فلم أقبل بصورة قطعية هذا التكليف، وأخيرا وعدوا بتقديم (150) مائة وخمسين مليون ليرة إنكليزية ذهبا، فرفضت بصورة قطعية أيضا وأجبتهم بهذا الجواب القطعي الآتي: ((إنكم لو دفعتم ملء الدنيا ذهباً فضلاً عن (150) مائة وخمسين ليرة إنكليزية ذهبا فلن أقبل بتكليفكم هذا بوجه قطعي. لقد خدمت الملّة الإسلامية والأمة المحمدية ما يزيد عن ثلاثين سنة فلم أسود صحائف المسلمين آبائي وأجدادي من السلاطين والخلفاء العثمانيين لهذا لن أقبل بتكليفكم بوجه قطعي أيضاً))... وبعد جوابي القطعي اتفقوا على خلعي، وأبلغوني أنهم سيبعدونني إلى مدينة سالونيك فقبلت بهذا التكليف الأخير. هذا وحمدت المولى وأحمده أنني لم أقبل بأن ألطخ الدولة العثمانية والعالم الإسلامي بهذا العار الأبدي الناشئ عن تكليفهم بإقامة دولة يهودية في الأراضي المقدسة: فلسطين .. وقد كان بعد ذلك ما كان. ولذا فاني أكرر الحمد والثناء على الله المتعال. وأعتقد أن ما عرضته كاف في هذا الموضوع الهام، وبه أختم رسالتي هذه ) انتهى كلام السلطان عبد الحميد. و لا يخفى على المتتبع لسياقات التطور التاريخي للشعب التركي بعد اعلان الجمهورية ذلكم التطرف العلماني الذي فرض بالحديد و النار و بقوة الجيش، بحيث إن كل محاولة لاستعادة الهوية الاسلامية للشعب التركي يتم قمعها بواسطة انقلاب عسكري يبتغي الحفاظ على التركة الكمالية بحرفيتها، و بالاضافة الى ذلك فإن الدولة العلمانية العميقة بكل مؤسساتها القضائية و التشريعية و العسكرية كانت تتوجس خيفة من كل حركة سياسية أو دعوية ذات حمولة اسلامية، و لذلك تم منع الزاوايا الصوفية و التكايا عشية الانقلاب على الخلافة العثمانية، رغم الطابع السلمي للتيار الصوفي الذي ينأى بنفسه عن خوض لجة السياسة و يكتفي بمناقشة دقائق الحياة الروحية للمؤمن، و لاحقا أعيد الاعتبار لهذه الزوايا و سمح لها بالنشاط العلني من جديد، و قبل ذلك تم قمع ثورة الشيخ سعيد بيران بالحديد و النار و القي القبض عليه و نفذ فيه حكم الاعدام، و رغم أن الشيخ الرباني بديع الزمان سعيد النورسي رفض المشاركة في ثورة سعيد بيران الا أنه لم يسلم بدوره من المضايقات و الاعتقالات و المحاكمات المدنية و العسكرية إلى وفاته سنة 1960، بل إن الاضطهاد لاحقه حتى بعد وفاته و ذلك عشية الانقلاب العسكري الذي وقع آنذاك، إذ قامت السلطات العسكرية بعد أربعة أشهر من وفاته بهدم القبر ونقل رفاته بالطائرة من مدينة أورفة التي دفن فيها و بحضور شقيقه إلى جهة مجهولة في جو من الخوف بسبب حظر التجول، و أصبح قبره مجهولا الى يومنا هذا. مع العلم أن بديع الزمان النورسي رغم مشاركته في الحياة السياسية في بداياته الاولى إلا أنه و مباشرة بعد تجاوزه سن الاربعين حدث له انقلاب فكري جعله يبتعد عن الخوض في السياسة و يكتفي بالاهتمام بقضايا الايمان و الروحانيات و أطلق قولته المشهورة ( أعوذ بالله من الشيطان و السياسة). و رغم ابتعاد النورسي عن السياسة في المرحلة الثانية من تطوره الفكري الا انه لم يمارس نوعا من التقية بإظهار موقفه من سياسة و فكر كمال أتاتورك و تركته الايديولوجية، و تعرض للاعتقال بأمر من المدعي العام بسبب هذا الموقف، الا أنه اصر على اعلان كرهه لكمال اتاتورك بقوله (ويا ترى أي ذنب وأي جريرة في ان تنتقد او تضمر عدم المحبة لرجل حوّل جامع اياصوفيا الذي هو مبعث الشرف الأبدي لأمة بطلة، والدرة الساطعة لخدماتها وجهادها في سبيل القرآن، وهدية تذكارية نفيسة من هدايا سيوف أجدادها البسلاء.. حوّله إلى دار للأصنام وبيت للأوثان وجعل مقر المشيخة الإسلامية العامة ثانوية للبنات؟ ثم ان قيامي بإظهار سيئاته ليس الا من اجل صيانة كرامة الجيش. أي ان عدم محبة شخص فرد ليس إلاّ من أجل كيل الثناء إلى الجيش بكل حب). و لقد أدى هذا الوضوح في موقف سعيد النورسي من كمال اتاتورك الى معاداة حزب الشعب الجمهوري لجماعة النور و تنكيله بالنورسي و محاولة تسميمه المتكررة التي نجا منها باعجوبة، مع العلم أن هذا الحزب اسسه كمال اتاتورك بمعية بعض غلاة العلمانيين سنة 1923 و استولى على الحكم و مارسه بكل استبداد و دكتاتورية، ولذلك تنبأ النورسي سنة 1950 بسقوط شعبية حزب الشعب الجمهوري و أنه لن يستطيع ابدا ان يصل الى الحكم باصوات الناخبين مرة اخرى، و جاءت فراسة النورسي بعد هزيمة هذا الحزب في نفس السنة ( 1950) امام الحزب الديموقراطي بزعامة عدنان مندريس بعد اعتماد مبدأ التعددية الحزبية و الغاء نظام الحزب الواحد. و الغريب أن الداعية فتح الله كولن رغم كونه ينتسب الى فكر سعيد النورسي و يحاكي كثيرا من مواقفه التربوية و الايمانية خاصة مع انقطاعه المطلق للدعوة و الخدمة الايمانية ، الا أنه رغم كل ذلك فإنه تحالف مع الشعب الجمهوري ضد حزب العدالة و التنمية، مع العلم أن هذا الاخير بدوره يستقي كثيرا من أدبياته من معين رسائل النور التي ألفها النورسي، و يشير قادته في كثير من خطاباتهم السياسية الى تاريخ النورسي و أقواله، مما أدى الى نوع من تنازع التركة النورسية بين الجانبين، و جعل قادة حزب العدالة و التنمية و على رأسهم اردوغان و أوغلو و عبد الله غول يصنفون جماعة فتح الله كولن في دائرة الخيانة لفكر النورسي، و يؤيدهم في ذلك جماعة النور، لاسيما أن آخر آخر تلاميذ النورسي عبد الله يغين صرح قبل سنتين انه يرى أن (الاستخبارات الأمريكية واللوبي الإسرائيلي بالولايات المتحدة يقودان حربا ضد حزب العدالة و التنمية و أنهم استطاعوا أن يخدعوا أيضاَ الأستاذ فتح الله كولن، حتى أصبح يردد كلامهم ويرضخ لأوامرهم). و قد بادر اردوغان عشية الانقلاب الاخير الى اتهمام حركة الخدمة بالوقوف وراء التخطيط لهذا الانقلاب باعتبارها المتحكمة في التنظيم الموازي الذي يتغلغل في قطاعات حيوية داخل البلد و الذي يؤيده حزب الشعب الجمهوري، لكن فتح الله گولن نفى هذه الاتهامات و صرح مؤخرا أنه لم ينظر طيلة حياته إلى التدخل العسكري كعمل إيجابي، وأنه تضرر کثيرا من الانقلابات التي حصلت في تركيا معتبرا أنه لا يمكن ممارسة الديمقراطية عن طريق الانقلابات. هذه بعض الحفريات التاريخية و الايديولوجية التي شكلت الارهاصات الجذرية للانقلاب التركي الاخير.