الشّعب التركي الذي نزل إلى الشوارع متحدّيا آلة الانقلابيين الذين أرادوا دفع تركيا إلى المجهول، لم يخرج دفاعا عن أردوغان كما يعتقد البعض، ولم يخرج دفاعاً عن العدالة والتنمية ،وإنّما خرج دفاعا عن الشرعية التي رفض أن تُداس من طرف العسكر، الذي له تاريخ طويل مع الانقلابات في تركيا. الشّعب التركي لم يحمل السلاح ضد هذا الجيش، ولم يحمل صوراً للسيد أردوغان ولم يهتف بحياته، وإنما كل ما حمله هذا الشعب هو علم تركيا الذي انضوى تحت لوائه الآلاف لاستعادة الشرعية، التي كادت أن تذهب ريحها لولا أن هذا الشعب العظيم وقف وقفة رجل واحد. عندما تآمر الجيش على تركيا انصهر العلماني مع الإسلامي، وسقطت كل الخلافات، ولم يظهر من هؤلاء سوى ما يندّد بالانقلاب، الذي كان سيعيد الدولة التركية إلى براثن العسكر. الشّعب التركي كان يدرك جيداً أنّ التغيير لا يكون عبر الانقلابات ولا يكون عبر حكم العسكر، وأنّ الديمقراطية لا يمكنها أبدا أن تحيا عبر مثل هذه العمليات، لذلك كان حريصا إلى إعادة السّكة إلى المسار الصحيح، قد يختلفون بينهم، قد يتصارعون وقد يشيطنون بعضهم البعض، لكنّ لا يمكنهم أبدا أن يسمحوا لأحد أن يمّس الشرعية بسوء، وهذا هو السّر في إفشال مخطط الانقلاب، الذي كانت دول عديدة في العالم الغربي وفي العالم العربي أيضا تتمنى نجاحه ، خاصة تلك التي لا تريد لتركيا سوى أن تعمّ فيها الفوضى ويسود فيها القتل والدّمار. الشّعب التركي تربّى على الديمقراطية، تربّى على صناديق الاقتراع وتربّى أيضا على حريّة اختيار قياداته، لذلك أدرك أنّ العودة إلى المؤسسات وإلى الحكم المدني هو عين الصواب. الفرق الذي بيننا وبين الشعب التركي الديمقراطية ،فالشّعب التركي يقدّس الديمقراطية، ويقدس حكم القانون، بينما نحن نقدّس الفرد الحاكم، ونتصوّر أنّه لا وجود للحياة بدونه، ولا يمكن لظاهرة الزعيم أن تتكرر أبدا إن هو مات أو قتل. فلنتصوّر لو حدث هذا الانقلاب في دولة عربية، ولو تدخل العسكر وأراد سرقة السلطة من الديكتاتور، فماذا سيكون رد فعل الشعب المقهور؟ لا شكّ أنّ العملية ستُكلّل بالنجاح، ولن يخرج الشعب لاستعادة الشرعية، لأن الديكتاتور لا يملك شرعية أصلا، ولا يمكن أن يجد من يدافع عنه سوى بعض البلطجيين الذين سرعان ما يهربون خارج البلاد عندما يحسون أنّ البلاد أصبحت في يد الانقلابيين . نعم هناك فرق شاسع بيننا وبين الشعب التركي، فهذا الأخير تربّي على احترام إرادة الشعب مهما كانت هذه الإرادة، بينما نحن تربّينا على لعق الأحذية وتقديس الحكام وجعلهم ألهة نعبدهم من دون الله، الشعب التركي يقدّر الحرية ويقدّر صناديق الاقتراع، بينما نحن في دولنا نقدّر الظلم والديكتاتورية. فشل الانقلاب في تركيا لأنّ الشّعب التركي يعلم جيّداً أنّ الحاكم الذي جاء عبر الانتخابات لا يمكنه أبدا أن يتمّ خلعه بهذه الطريقة . فشل الانقلاب لأنّ الشّعب التركي يدرك أنّ حكومة أردوغان كانت في مستوى تطلعاته. فشل الانقلاب وبقي أردوغان في منصبه رئيسا للبلاد لأنّ الشّعب لا يريد أن ينساق وراء تلك الهجمة الغربية التي لا تريد لتركيا سوى أن تغرق في الدماء. فشل الانقلاب لأن حكومة العدالة والتنمية حققت انجازات منقطعة النظير لتركيا وانتقلت بها لتعانق الدول الكبرى ، وحققت ما لم تحققه الحكومات الأخرى على مر عقود من الزمن. فشلالانقلاب لأنّ هناك شعباً جُبل على التداول على السلطة ولا يثق إلا في من يقدّر الحرية. فشلالانقلاب لأن من يحكم تركيا ليس ديكتاتورا وليس متسلطا ولا يستعبد الناس كما هو الشأن في أوطاننا التي أنهكها الاستبداد بعد فشل الانقلاب العسكري الذي كانت أغلب الدول الغربية تباركه وكذلك العديد من الدول العربية، خرجت أصوات أخرى تؤكد لنا أنّ الانقلاب دبّرته حكومة العدالة والتنمية وأنه لولا أنّ هذا الانقلاب لم يكن مفبركا لما فشل حسب اعتقاد هؤلاء الذين قتلتهم الأيديولوجية، وراحوا يعارضون من أجل المعارضة فقط. قد يكون هذا الكلام صحيحا لو كنّا أمام شعب مستعبد، وقد يكون ذلك صحيحا لو كنّا أمام شعب يركع للزعيم ويصلي له آناء الليل وأطراف النهار، وربّما يكون ذلك الكلام صحيحاً لو كان الأمر يتعلق بشعب نشأ في مهد الاستبداد وترعرع في ظل الظلم والاضطهاد، ولكن وبما أنّ الأمر ليس كذلك، وبما أن الشعب التركي شعب متحضر فقد أوقف الدبابة ولاحق العسكر وأعاد الشرعية ودحر كل المؤامرات التي تحاك ضد تركيا مهما اختلفنا مع أردوغان، ومهما اعتقدنا أن الرّجل ارتكب أخطاء كثيرة في فترة حكمه خاصة عندما قرر أن يمنع بعض وسائل التواصل الإجتماعي عن الشعب التركي، لكن هذا لن يجعلنا نخفي الشمس بالغربال، وننساق وراء الطواغيت الذين لا يريدون لشمس الحرية أن تنجلي في دول العالم الإسلامي. هنيئا للشعب التركي بنصره على العسكر وعلى قادة الانقلاب، وهنيئا له بوعيه الذي قلّ نظيره في دولنا التي ترزح تحت حكم الطغاة الذين باعوا الأوطان ،وعزاؤنا للانقلابيين في مصر وفي دول الخليج من الذين كانوا يستعدّون للاحتفال بسقوط الشرعية، كما لا ننسى أن نذكر هؤلاء أنّ من ذاق طعم الحرية لن يرضى عنها بديلا. كل عام والطغاة يستعبدون الشعوب .