بالنسبة لدول المغرب العربي، كما بالنسبة لمستعمراتها بإفريقيا وآسيا، صاغت فرنسا في وقت مبكر إيديولوجية متكاملة المعالم، تبلورت عبر الزمن إثر انهيار امبراطوريتها الاستعمارية أعقاب الحرب العالمية الثانية. وقد نضجت هذه الإيديولوجية، التي حملت مسمى "الفرانكفونية" بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وتعاظم الدور الأمريكي، حيث شعرت فرنسا أنها لم تخسر فقط نفوذها السياسي بالعالم الثالث، وإنما أصبحت تنظر بعين الأسى والأسف والمرارة إلى انحسار لغتها عالميا، إلى درجة تنذر بخطر داهم، بعد تحول العديد من مستعمراتها السابقة إلى لغاتها الأصلية، وإلى لغة العم "سام" التي أصبحت أكثر قربا من الحداثة والتكنولوجية والعولمة. ولاشك، أن ما يجعل فرنسا اليوم، أكثر إصرارا على جعل الفرانكفونية قوة فكرية ولغوية وثقافية بل وسياسية واقتصادية على خارطة واسعة من العالم بأي ثمن، هو الموقع المتدني الذي أصبحت تحتله اللغة الفرنسية في عالم اليوم، فهي التاسعة في العالم من حيث عدد المتكلمين بها، والذين لا يشكلون سوى 2.5% من سكان المعمور، فيما تتقدم عليها اللغة العربية التي تحتل المرتبة السادسة بعد الصينية والإنجليزية والهندية والإسبانية والروسية ويبلغ عدد متكلميها ما يوازي 3.9% من تعداد البشرية. يعني ذلك أن اللغة الفرنسية، التي كانت تبسط نفوذها على المستعمرات، أصبحت تعاني من صراعات قاتلة مع اللغات الحية الأخرى، خاصة منها الإنجليزية التي تحولت إلى لغة علمية/ اجتماعية في العديد من البلاد الأوربية والإفريقية والأسيوية، تحتل الصدارة على مستوى التواصل والمعرفة بين أغلب الدول عبر المعمور، وهو ما دفع فرنسا إلى تكثيف جهودها، لتجعل من الفرانكفونية إيديولوجية تتجاوز مسألة اللغة، إيديولوجية تمثل اكتساحا للغير، وأحيانا تمثل تعديا على حقوق التواجد والتعايش بين القوميات، من أجل إنقاذ اللغة الفرنسية من الموت المحقق. الرئيس الفرنسي الراحل فرانسو مثيران، يفصح عن مفهوم هذه الإيديولوجية، فيؤكد: "أن الفرانكفونية ليست هي اللغة الفرنسية فحسب. إننا إذا لم نتوصل إلى الاقتناع بأن الانتماء إلى العالم الفرنكوفوني سياسيا واقتصاديا وثقافيا، يمثل قيمة مضافة، فإننا سنكون قد فشلنا في العمل الذي بدأناه منذ عدة سنوات..!!" الفرانكفونية عند ميتران، أي عند الجمهورية الفرنسية، ليست في اللغة الفرنسية، فاللغة لا تمثل الطاعة العمياء، واتباع سياسة الغالب على رأي ابن خلدون، فالمقصود من الفرانكفونية كما يبدوا واضحا من تفسير الرئيس الفرنسي الراحل، هو الانغماس في بحر الآخر سياسيا، اقتصاديا، ثقافيا، وهو ما يعني التبعية المطلقة وليست النسبية. بذلك، أصبحت فرنسا تقدم نفسها للعالم الثالث من خلال هذه الإيديولوجية، على أنها حبل الخلاص الذي لابد من التمسك به للوصول إلى بر الأمان، قبل الوقوع في الهاوية الأمريكية، وهو أمر لا تصمد حجبه أمام التاريخ، أو أمام الموضوعية الحاضرة. في عام 1880 كانت هذه الكلمة "الفرانكفونية" من ابتكار عالم الجغرافيا، "أونيزيم روكلو"، وتشير إلى منطقة ما يتكلم أهلها ضمن حدودها اللغة الفرنسية، وهو ما يعني أن فكرة الفرانكفونية نشأت خارج فرنسا، ذلك أن جماعة من القادة الأفارقة في بحر القرن الماضي، اقترحوا إقامة منظمة دولية تضم الدول التي تجمع بينها اللغة والثقافة الفرنسية، فتحمس الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران للفكرة وتبناها لتعقد تحت رئاسته سنة 1986 أول قمة فرانكوفونية. وتحمل الفرانكفونية في مفهومها، مدلولا بسيطا يتجلى في تقاسم الفرنسية بين مجموعات من الأفراد منتظمتين في شعوب أو دول، وقد يمتد هذا القاسم ليشمل نماذج معينة من الثقافة الفرنسية، في المسرح والشعر والأدب والسينما، فهي نمط تفكير وسلوك حياة قبل أن تكون انخراطا في اللغة الفرنسية ضمن تنوعه العرقي والوطني والديني. وتعتبر الفرانكفونية مشروعا سياسيا في أساسه، لأنه نشأ لضمان الارتباط الاقتصادي للبلدان -التي كانت تحت الحماية الفرنسية- والحد من تأثير الهيمنة الأمريكية أو بعض البلدان الأوروبية الأخرى كألمانيا والبرتغال وإسبانيا وبريطانيا، بالرغم من تكتلها معهم ضمن الاتحاد الأوربي أو ما يسمى المجموعة الأوربية، وسيتطور هذا المشروع السياسي لاحقا ليتحول إلى مشروع ثقافي هدفه منافسة اللغة الإنجليزية- الأمريكية، وذلك بإنشاء هيئات ومؤسسات مثل المجلس الدائم للفرانكوفونية/ والوكالة الدولية للفرانكوفونية/ والجمعية الدولية للعمدات الفرانكوفونيين/ والجمعية البرلمانية للفرانكوفونية، بهدف تشجيع انتشار اللغة الفرنسية ودعم الجهود المبذولة في ميادين التربية والتكوين والإعلام باللغة الفرنسية، وهو ما حول الفرانكفونية اليوم إلى قوة فكرية ولغوية وثقافية، بل وسياسية واقتصادية بعد أن تقلص ظلها العسكري الرسمي وبرزت في ثوب جديد وبتنظير مختلف عن السابق، وبعدما كشفت عن أنيابها التي غلفتها بقشرة من ذهب مصطنع براق، ولكنه مضلل خادع، خاصة بعدما تكاثرت فئة الداعين إليها، وبدت عداوتها سافرة للعربية وللهوية العربية الإسلامية.. وهكذا بدأت الفرانكفونية تقدم نفسها بديلا حضاريا، ومشروعا سياسيا واقتصاديا وثقافيا ترعاه دولة فرنسا، وتسعى إلى توظيفه كسلاح تشهره في وجه العولمة، لتضمن به بقاءها على الساحة الدولية، وتفتح من فضاءات لإنعاش اقتصادها وتعزيز موقعها في وجه النزعة الأنجلو-أمريكية. ليحتل نظام التربية والتعليم ضمن هذا التوجه موقعا أساسيا كخطة تعتمدها فرنسا لبسط فرنكوفونيتها، ولذلك فهي تعمل في كل المناحي، وبكل الوسائل للنهوض بلغتها وحماية ثقافتها في مختلف محمياتها ومستعمراتها الإفريقية السابقة التي ترى فيها امتدادا لوجودها. وبعيدا عن أي تأويل لما أصبحت عليه ظاهرة الفرانكفونية في المغرب، (وهو موضوع هذا المقال) يجب التأكيد أن الفرانكفونية تحولت إلى خطاب لغوي وسياسي واقتصادي، ينبني على إقصاء العربية، اللغة الرسمية للبلاد، وتحويل فرضية الإغناء والشراكة اللغوية، إلى مغالطة في جوهرها، لأنها ترمي في الحقيقة إلى توفير السبل الكفيلة لضمان تبعية لغوية وثقافية دائمة، فالإثراء والتفاعل يتأسسان على شرط النهوض باللغة الوطنية والحفاظ عليها، ثم تشجيع تعليم اللغة الأجنبية –حسب رغبة المتعلم- لإتقانها كلغة ثانية، وذلك في إطار ثنائية لغوية تتوخى توظيف اللغة الأجنبية في سياقها المعرفي والتواصلي والثقافي. بالنسبة للمغرب، نهجت فرنسا منذ سنة 1956 (سنة إعلان الاستقلال) سياسة لغوية استعمارية، حاولت أن تخفي جذورها وأبعادها تحت غطاء شعار التعاون الدولي، معتمدة في تنفيذ هذه السياسة، باستعمال "السلاح المالي" لأجل حماية مصالحها السياسية والاقتصادية. ففي هذه السنة (1956)، كان عدد أطر الإدارة الاستعمارية الفرنسية بالمغرب المستقل يقدر بحوالي 130.500 إطار من مستوى جامعي. حيث وفرت لأطرها، بما في ذلك الشريحة غير الجامعية، ظروفا خولت لها صلاحيات الهيمنة على الإدارة المغربية. إن هذا الوضع كان في الواقع، أحد العوامل التي هيأت لتوقيع عدد من اتفاقيات "التعاون" بين البلدين (المغرب وفرنسا)، في مقدمتها اتفاقية سادس يوليوز لعام 1957 (الفصول 20-24) التي ضمنت للأطر الفرنسية مصالحها المادية والمعنوية داخل الإدارة المغربية. أما بخصوص قطاع التعليم، فإن الاتفاقية الفرنسية المغربية لخامس أكتوبر 1957 بباريس هي التي هيأت للحكومة الفرنسية فتح مدارس فرنسية بالمغرب (الفصل الخامس)، وبكل تحديد تم خلال نفس الفترة فتح 1025 قسما للتعليم الفرنسي على مستوى الابتدائي وسبع مدارس على مستوى الإعدادي. وقد شملت سلسلة الاتفاقيات، اتفاقية 16 يونيو 1962 التي عملت فرنسا بمقتضاها على تحويل المعهد الفرنسي بالمغرب إلى معهد الجغرافيا بالرباط. ولقد عبرت الأحزاب الوطنية المغربية آنذاك، (حزب الاستقلال/ الاتحاد الوطني للقوات الشعبية/ الاتحاد الاشتراكي)، عن تحفظها وحذرها تجاه الاتفاقيات التي أبرمت في عهد حكومة البكاي، التي لم تعمر طويلا، والتي كانت حريصة على بناء سياسة وطنية ترمي إلى وضع بنيات اقتصادية وسياسية حديثة. لقد عبر رواد هذه الفترة، أمثال علال الفاسي واحمد بلافريج وعبد الله ابراهيم، والمهدي بنبركة ومحمد حسن الوزاني عن حذرهم من ربط التنمية باللغة الفرنسية، وكان مطلبهم الأساس، تعريب ومغربة الحياة السياسية والثقافية، كما كان برنامجهم التربوي، يقوم على أربعة مبادئ، هي: التعريب، المغربة التعميم والمجانية. يقول علال الفاسي، "إن التعريب يعني وطنية ومغربة الإدارة والتعليم والتجارة وكل مجالات الحياة اليومية بالبلاد". وإن هيمنة الفرنسية أو أية لغة أجنبية على مجال التعليم، والإدارة أو على أية قطاعات أخرى، من شأنه القضاء على اللغة العربية، وهو المرمى الذي يدافع عليه ورثة الاستعمار... إلا أن هذا النفس وهذا الوعي النقدي الذي نجده لدى رواد الحركة الوطنية في مغرب عهد الاستقلال سيتأثر سلبا في المراحل اللاحقة يفعل الخلافات الحزبية التي ستشهدها الساحة السياسية المغربية، إذ تابعت النخب الحاكمة وأطرها، ارتباطها وتبعيتها للهيمنة الفرانكفونية، وهو ما نتج عنه ما يسمى بنظام الوساطة اللغوية، والولاء الغربي كآليتن للإدماج السياسي داخل دواليب الدولة، مما أثر سلبا على كل المسار التنموي للمغرب خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. إن نجاح الفرانكفونية في استقطاب الاتجاهات اليسارية وكذلك دخول أطر الفرانكفونية في قلب الأحزاب الوطنية، سيعطل مشروع التعريب كما رسمته القوى الوطنية غداة الاستقلال. والواقع أن إخفاق السياسات الحكومية المتلاحقة في توطيد تعليم وطني إسلامي مستقل، وتجاهل المبادئ الأربعة التي أجمع عليها الشعب المغربي غداة الاستقلال، في أول لقاء عقدته اللجنة الملكية لإصلاح التعليم بتاريخ 28/09/1997م وهي (التعريب، والتعميم، والتوجيه، والمغربة) والتي يستحيل وضع (ميثاق وطني لسياسة التعليم) بدونها، يؤكد أن الوجود الفرنسي أصبح متغلغلا في المجال التعليمي وأقوى مما كان عليه زمن الاستعمار، وأنه لم يتخلى عن فرض نفسه شريكا لنا في تعليمنا وثقافتنا. إن قراءة استشرافية لعهد ما بعد الثمانينيات بعناصره الثلاثة الجديدة: ظهور الحركات الإسلامية في قلب الحياة السياسية العامة، امتداد البطالة إلى المتخرجين من مؤسسات التعليم الفرنسي، دخول الولاياتالمتحدةالأمريكية كطرف دائم في الإستراتيجية الدبلوماسية المغربية إضافة إلى دخول المغرب كعنصر نشيط دائم للحياة السياسية العربية والإسلامية، سيؤشر على أن هناك دعوة لاحقة للعربية في الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية المغربية. وإن كانت غير واضحة، وغير شفافة. ملف التعاون الثقافي بين المغرب وفرنسا سيتأثر بشكل كبير بالإحداث والقرارات والاتفاقيات التي طبعت العلاقة بين البلدين خلال العقود الأربعة الماضية، وهو ما سيلعب دوره في خدمة مجالات التعاون الاقتصادي والتجاري، وهو ما جعل دور المغرب يبرز في خدمة مشروع الفرانكفونية بوضوح في احتضانه للمؤتمر الوزاري الثامن للفرانكفونية، الذي انعقد بمراكش أيام 17 و18 فبراير 1996 بحضور ممثلي 19 دولة، والذي أصبح بعد ذلك محطة أساسية في تاريخ هذه الإيديولوجية بين الدول الناطقة بالفرنسية. إن نجاح هذا المؤتمر جاء تزامنا مع أحداث موجعة للفرانكفونية، انتصار أمريكا والعالم الانكولوفوني في معركة الأمانة العامة للأمم المتحدة، حيث تم إقصاء المرشح الفرنكوفوني بطرس بطرس غالي من جهة، وإصدار الجزائر، البلد الذي يضم أكبر عدد من الناطقين بالفرنسية بعد فرنسا، لقانون التعريب الشامل، وذلك يوم افتتاح المؤتمر، هذا القانون الذي يدخل بالجزائر مرحلة جديدة تعرب فيها كل القطاعات بدءا بالتعليم العالي وانتهاء بالحياة الاقتصادية ومرورا بمصالح وإدارات الدولة. يتجسد هذا الإخفاق في المصادقة على "ميثاق الفرانكفونية" ميثاق مراكش، الذي حاول معالجة غموض الرؤية التي عرفها ويعرفها العمل من أجل الفرانكفونية، غموض ناتج عن تعدد وتشابك مؤسسات فرانكفونية عديدة، مما يولد تنازعا في الاختصاصات وتكرارا للجهود وتضاربا في الأهداف، بالإضافة إلى البعد السياسي لهذا الميثاق. لقد أفرز ميثاق مراكش حول الفرانكفونية البنيات التالية: الأمين العام للفرنكوفونية الذي ينتخب لمدة أربع سنوات قابلة للتجديد من طرف رؤساء حكومات الدول التي تجمعها اللغة الفرنسية، ويعمل تحت سلطة قمة رؤساء الدول، والمؤتمر الوزاري والمجلس الدائم للفرانكفونية وله وضعية دولية ومستقلة (المادة 6 من الميثاق) وكالة الفرانكفونية التي هي بمثابة الواضع الأساسي لبرامج التعاون الثقافي والعلمي والاقتصادي والقانوني المقررة من طرف القمة، وهي توجه من خلال المؤتمر العام (المؤتمر الوزاري) الذي يراقب سياستها المالية (المادة 16 من الميثاق). وعلى هذا الأساس يتم إحداث منصب المدير العام للوكالة الفرانكفونية، أما المحطات الموالية فقد كان حضور المغرب فيها حضورا نوعيا. يتجلى انطلاقا من نتائج هذا المؤتمر أهمية الدور المغربي في دعم فرنسا في صراعها الدولي من أجل الحفاظ على خصوصياتها، دون أن نغفل أن هذا الدعم المغربي جاء على حساب الشخصية العربية الأمازيغية المغربية كما جاء لاستمرار الدعم الذي من شأنه تعميق التبعية السياسية والاقتصادية لفرنسا. وفي الحقيقة انتقلت الفرانكفونية في مؤتمر مراكش، من مشروع ثقافي إلى مشروع سياسي، يعيد إنتاج الإرث الاستعماري بصيغ جديدة ومستساغة ويطرح نفسه في ذات الوقت، كفاعل في العلاقات الدولية، له طابعه وأدواره في الساحة العالمية، ابتداء من سبعينيات القرن الماضي وحتى اليوم. ففي نظر عالم المستقبليات، الدكتور المهدي المنجرة الذي تابع عن كتب مؤتمرات الفرانكفونية الدولية، إن انتقال الفرانكفونية من الثقافي إلى السياسي، كان وما يزال، يهدف إلى المحافظة على المستعمرات الفرنسية بصفة مباشرة أو غير مباشرة، ويهدف إلى ترويج نموذج صريح واحد لتنمية التخلف في هذه المستعمرات، ويشجع على التسول كما يحفز على الصدقة الملفوفة داخل غطاء المساعدة. في نظر الدكتور المهدي المنجرة، لا يمكن فصل الفرانكفونية عن تطورها التاريخي المرتبط بالمرحلة الاستعمارية، وأيضا بمرحلة التحرر وبالمتغيرات الجديدة، ويؤكد في مداخلة له نشرها ضمن كتاب المغرب العربي والفرانكفونية أنه لا يمكن خلق روح التعاون الإنساني ببعد كوني، إذا لم نبدأ باحترام الآخر، منتقدا أولئك الذين يغلفون الفرانكفونية، بمفاهيم أدبية وشاعرية لطمس واقعها الحقيقي. يلاحظ الدكتور المهدي المنجرة أن مفهوم "الفرانكفونية" كلما تطور عبر التاريخ، عمل على تقسيم إفريقيا، إذ تسبب في تعطيل خلق مجموعات اقتصادية متجانسة في القارة السمراء، وساهم في الترويج لنموذج تنمية التخلف فيها، وأخيرا شجع على الاعتماد على "الصدقات" التي تدخل في إطار الدعم الهزيل والتعاون الغير مجدي. وفيما يتعلق بما تمثله القمة "الفرانكفونية" من ثقل في النظام الدولي، يرى الدكتور المنجرة، أن الدول المنتمية لهذه الحركة، رغم أنها تمثل 18 بالمائة من مساحة المعمورة/ 76 بالمائة من سكان العالم، إلا أنها تضم أكبر نسبة من الأمية 40 بالمائة من نسبة الأمة في العالم. كما أن دول الشمال في هذه الحركة وهي فرنسا وكندا ليست لديها أية حرية للعمل ولا الاستقلالية داخل مجموعة الدول التسع المصنعة، لتعمل في انجاز أو إخراج أي مشروع حضاري، ونفس المنطق ينطبق على دول الجنوب في هذه الحركة. أما على المستوى الثقافي فيرى الباحث المستقبلي المغربي، أن الفرانكفونية تحاول دائما، جعل الصراع بين "النزعة اللاتينية للفرانكفونية" و"الانغولوساكيونية للدول الانغلوفونية" في حين أن كلاهما تغريهما ما يسمى بالمركزية الأوروبية. وبخصوص ما يمثله العالم الإسلامي من ثقل في الفرانكفونية، يقول المهدي المنجرة، أن من بين 290 مليون نسمة في الدول الفرانكفونية هناك 36 بالمائة من المسلمين، 28 بالمائة منهم يتكلمون العربية، ويختتم الكاتب مداخلته بالتساؤل أمام هذه الأرقام، كيف يمكن بعد ذلك لأكبر بلد فرانكفوني وهو فرنسا أن يعتبر اللغة العربية من بين اللغات المندثرة؟! الحقيقة، أن فكرة الفرانكفونية قديمة، قدم المشروع الاستعماري الفرنسي، في المغرب والمغرب العربي وافريقيا، وفي نظر العديد من الباحثين والخبراء، ستبقى هذه الإيديولوجية الاستعمارية حية في الوجود، مادام في جعبة فرنسا بصيص من تطلع إلى مقاربة مستعمراتها القديمة بعين كولونيالية، لا ترى في مجتمعاتنا حقا في الاستقلال الوطني. إن فرنسا ما كانت تكتفي من مستعمراتها بنهب الثروات وجلب العمالة الرخيصة، وتأمين السوق للسلع الرأسمالية، وتوفير مواطئ قدم للجيوش البرية والبحرية والجوية، وقواعد بشرية تستخدم لأداء السخرة العسكرية في الجيش المحتل، بل تطلب أكثر من ذلك بكثير، انجاز جراحة ثقافية ولغوية تستتبع المستعمر للمستعمر، وتأتي بمعاول الهدم على استقلال شخصيته وكيانه، فتدفعه إلى فقدان القدرة على وعيه لذاته، إلا في علاقته الإنجدابية به. ففي العهد الاستعماري عملت فرنسا بحزم على نشر التعليم الفرنسي عن طريق "المدارس الحكومية الرسمية" خاصة بالمدن الرئيسية، وقد مثلت هذه المدارس البوابة الحقيقية التي دخلت اللغة الفرنسية منها بشكل مباشر، وهو ما أدى إلى تداعي النسيج الاجتماعي التقليدي، بمؤسساته ومفاهيمه الثقافية وإلى تدهور في مفاهيم اللغة العربية، كأداة يمكن من خلالها تمثل مظاهر الحداثة أو التعبير عنها رغم النضالات الجادة التي خاضتها الحركات الوطنية من أجل المحافظة على الإرث الثقافي العربي/ الإسلامي ومن أجل إبقاء اللغة العربية، اللغة الرسمية للبلاد. وحتى تتمكن فرنسا من ترسيخ الهيمنة الثقافية، كان من اللازم، مواجهة العربية كلغة وثقافة وحضارة، خصوصا وأن تجذر هذه اللغة في وجدان المغاربة، كان أكبر من الاختراق الاستعماري، حيث وقفت العربية جدارا صلبا في وجه هذا الاختراق، من خلال غرس قيم التحرر والكرامة والاستقلال... وهي قيم تتجاوز المستوى الأخلاقي، للتحضير العولمي كقيم عملية، تعمل على تهييء الفرد والجماعة لمواجهة تحديات الاستعمار القائمة على أساس سلب الحرية والاستقلال، وممارسة الإهانة، وذلك بهدف تحقيق الإخضاع في أهدافه النهائية. ولأن فرنسا، كانت تدرك -بلاشك- أن حقبة الاحتلال الاستعماري حقبة انتقالية في تاريخ البشرية، وأن جيوش الغزاة، لابد وأن تعود ذات يوم إلى حدودها بعد أن تحقق مقاومة الشعوب المستعمرة القدر الضروري من التراكم الذي به تجبرها على ذك الاكتفاء، لذلك انصرفت الفرانكفونية بعناية إلى توفير شروط ديمومة سيطرتها في المستعمرات، حتى بعد اضطرارها إلى الجلاء عنها، فعملت بكفاءة عالية، وبجهد جهيد، من أجل الاستيلاء على العقل واللسان والوجدان، بواسطة "زواج كاثوليكي" عصى، وقد تحقق لها ذلك في إيديولوجية الفرانكفونية، بأكبر قدر من النجاح، وبأقل قدر من الخسائر. يقول الأستاذ عبد الإله بلقزيز وهو باحث متمكن ومتخصص وخبير في هذا الموضوع تعليقا على ما حققته فرنسا: "نعم بهذا الخيار الثقافي الاستعماري نجحت فرنسا في مسح الشخصية الثقافية واللغوية للمجتمعات الإفريقية التي استعمرتها، ويكاد لا يوجد اليوم مجتمع إفريقي باستثناء المغرب العربي، لا تمثل اللغة الفرنسية لغته الوطنية الجامعة، ومع أن فرنسا فشلت في وئد اللغة العربية أو إخراجها من الميدان في بلدان المغرب العربي، كما فعلت بنجاح في سائر مستعمراتها الإفريقية، إلا أنه سيكون من باب المكابرة الوطنية الجوفاء، الإدعاء بأنها لم تحرز نجاحات هائلة في مجال تحقيق هدف الاغتصاب الثقافي واللغوي في بلداننا، والشواهد على ذلك اليوم وافرة، يكفي أن لسان فرنسا مازال حتى الآن، لسان الإدارة في هذه البلدان، ولسان التعليم فيها من الطفولة حتى الكهولة، والرأسمال الأمثل لتنمية الموقع الاجتماعي". ومن خلال التحويرات الجذرية التي أدخلتها فرنسا على بنية المجتمعات المغاربية، خلقت نسيجا من النشاط الاقتصادي والثقافي، أصبحت له قاعدة اجتماعية محلية استمرت في التوسع، واستطاع أن يتمثل عدة جوانب من المشروع الفرنسي الذي كان انتشار اللغة الفرنسية من أبرز وسائله وأهدافه الإستراتيجية. والحقيقة أن فرنسا فرضت هذه السياسة على اتجاهين متكاملين يمثلان صورة (المغرب المتفرنس) المستقل الذي يحلم الاستعمار الجديد بأن يحل محل (المغرب) المحمي بهويته. - الاتجاه الأول: يتمثل في مدارس البعثة الثقافية الفرنسية، حيث تجري عملية فرنسة أبناء الطبقة البورجوازية بمن فيهم أبناء النخبة السياسية والأعيان ذوي الحظوة في المجتمع، وإعدادهم لتحصيل الشهادات الكبرى واستلام المناصب العليا في الإدارة المغربية ليلعبوا دورهم في التنكر والعداء للحضارة العربية الإسلامية، ومحاولة ربط المغرب إلى الأبد بالمصالح الاستعمارية، ودعم "البورجوازية المغربية" الجديدة بإطارات قيادية صالحة لتكون صلة وصل بين (الاستعمار القديم) و(الاستعمار الجديد). - الاتجاه الثاني: يتمثل في مدارس التعليم الرسمي العمومي الخاصة بأبناء الشعب المغربي الذين تجري عملية فرنستهم بنسبة أقل، لأن دورهم في (المغرب المتفرنس) ينحصر في أن يكونوا أعوانا للرؤساء في المكاتب الإدارية، مساعدين في الخدمات العامة وهو ما يجعل الخطة الفرنسية موجعة أكثر... ومؤثرة أكثر. في خضم الجدل الذي تعرفه الساحة الثقافية المغربية اليوم، عن مكانة اللغة العربية داخل المحيط التربوي/ الاجتماعي/ اللساني/ الثقافي، وعن منزلة اللغة الفرنسية داخل النسق اللغوي السائد في المغرب الحديث، وهي منزلة تحدث بقوة كل المبادرات والمشاريع والرؤى التي اتخذتها بعض حكومات عهد الاستقلال، أحيانا تحت مسمى التعريب، وأحيانا أخرى، تحت مسمى حماية الهوية اللغوية. في خضم ذلك، تحولت الفرانكفونية، إلى ظاهرة معادلة للهوية المغربية، هدفها المباشر، إفشال كل مشروع يعمل على إعادة اللغة العربية إلى موقعها الطبيعي على أرض الواقع. إن الخلاصة التي يخرج بها المتتبع والمهتم بالمشهد اللغوي بالمغرب، هي أن التعدد اللغوي، لا يمس محتوى اللغة الأم، إذا كانت التشريعات تحفظ مجالات استعمالها وتضبط رسميتها بقوانين زجرية كما هو الشأن في العديد من الدول التي تحترم لغتها الوطنية، فإذا كان الدستور المغربي ينص بوضوح وشفافية، على أن العربية لغة رسمية للمملكة المغربية، فإن العكس يتجلى ماثلا أمام الملاحظ وهو يقصد إحدى المصالح العمومية في الإدارة المغربية بالرغم من تكرار دوريات الوزارة الأولى على مختلف العهود، حول ضرورة استعمال اللغة العربية في جميع المرافق الإدارية. وبالنظر إلى قوة اللغة العربية في المواجهة، فإن الفرانكفونية التي عوضت الحضور الاستعماري الفرنسي، دخلت في حرب قذرة ضد جميع مظاهر التعريب، واستعملت في ذلك جميع الأسلحة، (المحرمة حضاريا) هادفة بشكل مباشر إلى استئصال اللغة العربية من الوجود الثقافي والحضاري المغربي. ونظرا للحضور القوي للوبي الفرانكفوني في المغرب، والذي يمتلك نفوذا اقتصاديا ثقافيا/ تربويا قويا، أصبحت اللغة العربية تواجه تحديات جمة، في ممارسة حقها كلغة رسمية أولى للمغرب كدولة وشعب، ويرتبط هذا اللوبي الذي يتشكل من مغاربة وفرنسيين بشبكة من المصالح مع فرنسا، تمكنه من بسط سيطرته على قطاعات واسعة في المغرب، تتجاوز الاقتصاد إلى الثقافة والتعليم والإعلام... وتشكل قوة سياسية تدافع عن مصالحها من خلال التأثير على القرار السياسي، وتوجيهه في الاتجاه الذي يخدم مصالحها. لقد عملت فرنسا على فرض نظام "ازدواجية لغة التعليم" على المغرب غداة استقلاله، بعدما وقع معها على اتفاقيات سياسية، واقتصادية، وعسكرية، وثقافية، باسم (تبادل الخبرات والمصالح) باعتبار أن اللغة الفرنسية تمثل نموذجا لسانيا كاملا بذاته، قوامه التقنية والعلمية والعقلانية، وهو ما من شأنه أن يساهم في بناء المغرب الجديد، مما أذى بالتالي إلى انهيار النخب التقليدية سياسيا واقتصاديا. بعد هذه المرحلة، وفسح المجال لنخب أخرى، نشأت في إطار المدارس والمعاهد والجامعات الفرنسية، لكي تكتسح مراكز السلطة من منظور بيروقراطي، حصر المسألة في جوانبها التقنية، ومن ثمة التغطية على إبعادها الاجتماعية والثقافية العميقة. والنتيجة كانت وما تزال هي اتساع استعمال اللغة الفرنسية، اتساعا ملحوظا على حساب اللغة العربية، في التعليم والإدارة كما في المعالات التجارية والصناعية والخدماتية والثقافية اليومية. إن الأقطار التي يستعمل قسم من سكانها اللغة الفرنسية في شؤون التعليم والإدارة والاقتصاد، أصبحت توجه أكبر عنايتها إلى تنمية لغتها القومية أولا، تحرص على فتح نوافذها نحو آفاق جديدة بتعليم لغات أجنبية أخرى، كالإنجليزية التي لها السبق في ميدان العلم والتكنولوجيا والعولمة، وفي ميدان الاقتصاد، كما يفعل الكنديون والفرنسيون أنفسهم، وبالأحرى السويسريون المتكلمون بالفرنسية الذين لا يأنفون من إيثار اللغة الإنجليزية واستخدامها في عدد من مرافق التعليم العالي ولاسيما في تخصص العلوم والرياضيات وإدارة الأعمال. إنه لمن سوء الحزم وقصر النظر، أن يحبس المغرب نفسه في فضاء لغوي وثقافي واحد وضعته فيه عهود سابقة، وظروف معينة لم يكن له يد في صنعها، وقد صار العالم اليوم فضاء مفتوحا يوحي بأن من مصلحة الشعوب المتطلعة إلى التقدم والحرية أن تختار لنفسها ما ينفعها ويناسبها، وأن لا تترك لأحد أن يختار ذلك مكانها، ومن المؤكد أن هذا الانفتاح على الفضاء الواسع هو العامل الأقوى في تقريب الشعوب بعضها من بعض من أجل مزيد من التعاون والتفاهم في ظل المساواة والتكافؤ. ومن أجل أن يكون هذا الانفتاح إيجابيا، نرى ضرورة، أن تصدر الحكومة قانونا بتعميم اللغة العربية، يجعلها وحيدة الاستعمال في ميادين ومجالات الإدارات العمومية والجمعيات، والمقاولات والمؤسسات الاقتصادية والمالية والصناعية، حيث تستعمل في الوثائق والمناقشات الرسمية والإمتحانات ومباريات ولوج أسلاك الوظيفة والمراسلات الداخلية والخارجية. كما نرى ضرورة أن تجعل هذا القانون، العربية وحيدة الاستعمال في التعليم ماعدا في أقسام تعلم اللغات الأجنبية، ويجعل العربية لغة الإذاعة والتلفزة حيث يفرض على كل شريط أو مسلسل أجنبي تبثه وسائل الإعلام المرئية المغربية، أن يترجم إلى العربية مباشرة، أو عبر الدبلجة ونفس الشيء بالنسبة للإشهار. ومن أجل سلامة تطبيق هذا القانون، نرى ضرورة أن تسن وزارة العدل عقوبات صارمة (ذعائر مالية/ إقفال المقاولات والمحلات/ سحب رخص العمل... وغير ذلك). وعلى الذين سيوقعون هذا القانون، أن يشعروا أن الدولة ليست وحدها المتورطة اليوم في قضية الفرانكفونية، بل الشعب أيضا يتورط فيها يوما بعد يوم، عن طريق التعليم الفرنسي والإعلام المفرنس، والإدارة المفرنسة وغيرها، حيث لا يجب تعريب هذه المجالات فقط، من أجل إعادة الاعتبار للغة الرسمية بالمغرب، وإنما أصبح على المغرب تعريب مواطنيه، الذين أخرجتهم اللغة الفرنسية عن طريق الصواب، ومنهم الأساتذة والمعلمين والوزراء والزعماء والأطر العليا، والأطباء والمهندسين والمحاسبين والخبراء، ممن أصبحوا يجهلون حتى الحديث بالعامية، في مجتمعاتهم الصغيرة والضيقة. نعم، قد يعتبر العديد من المتفرنسين، أن الأمر يتعلق باجثتات اللغة الفرنسية، مع أن هذه الدعوة لا تعني إطلاقا التقوقع على الذات اللغوية، أو رفض متسنج للغة الفرنسية كلغة لها إسهاماتها الواضحة في بناء الحضارة الحديثة، بل أن ذلك لا يعدو إن يكون مجرد دعوة إلى الإحساس بالتمييز والاعتزاز بالهوية، وما يستتبع ذلك من سلوكات وآليات تجسد هذا الإعتزاز وتقره. وخارج هذه الدعوة وتجلياتها، لابد من الإقرار إن تحليل وضع اللغة الفرنسية في المغرب اليوم، يدفعنا إلى الاستنتاج أن الفرانكفونية سياسة اقتصادية ثقافية، لا مستقبل لها في وطن يعتز بهويته العربية/ الإسلامية، وبانتمائه إلى لغة الضاد، ذلك لأنها تعمل على تشجيع الشحاذة، وتقدم الصدقة بصيغة مساعدة، وهي ثقافيا لا أفاق لها لأنها تساهم فعليا في تبخيس اللغة الوطنية الأولى في بورصة القيم اللغوية المهيمنة، مستفيدة من ضعف استعمال هذه اللغة في مجالات حيوية بالبلاد وانعدام تشريع لغوي يضمن لها دستوريتها، وتلك إشكالية تتصل بالوعي الضعيف والمتدني للنخب السياسية في بلادنا... والله أعلم.