-1- بالنسبة للمغرب العربي، كما بالنسبة لمستعمراتها بإفريقيا وآسيا، صاغت فرنسا في وقت مبكر إديولوجية متكاملة المعالم، تبلورت عبر الزمن إثر انهيار امبراطوريتها الاستعمارية أعقاب الحرب العالمية الثانية. وقد نضجت هذه الإديولوجية، التي حملت مسمى «الفرنكوفونية» بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وتعاظم الدور الأمريكي، حيث أحست فرنسا أنها لم تخسر فقط نفوذها السياسي بالعالم الثالث، وإنما أصبحت تنظر بعين الأسى والأسف والمرارة إلى انحسار لغتها عالميا، إلى درجة تنذر بخطر داهم، بعد تحول العديد من مستعمراتها السابقة إلى لغة العم «سام» الأكثر قربا إلى الحداثة والتكنولوجية، والدعم اللامحدود. ولاشك أن ما يجعل فرنسا اليوم، أكثر إصرارا على جعل الفرنكوفونية قوة فكرية ولغوية وثقافية بل وسياسية واقتصادية، على خارطة واسعة من العالم، هو الموقع المتدني الذي أصبحت تحتله اللغة الفرنسية في عالم اليوم، فهي التاسعة في العالم من حيث عدد المتكلمين بها، والذين لا يشكلون سوى 2.5% من سكان المعمور، فيما تتقدم عليها اللغة العربية التي تحتل المرتبة السادسة بعد الصينية والإنجليزية والهندية والإسبانية والروسية ويبلغ عدد متكلميها ما يوازي 3.9% من تعداد البشرية . يعني ذلك أن اللغة الفرنسية، التي تبسط نفوذها على المستعمرات، أصبحت تعاني من صراعات قاتلة مع اللغات الحية الأخرى، خاصة منها الإنجليزية التي تحولت إلى لغة علمية/ اجتماعية في العديد من البلاد الأوروبية والإفريقية والأسيوية، تحتل الصدارة على مستوى التواصل والمعرفة بين غالب الدول عبر المعمور، وهو ما دفع فرنسا إلى تكثيف جهودها، لتجعل من الفرنكوفونية إديولوجية تتجاوز مسألة اللغة، إديولوجية تمثل اكتساحا للغير، وأحيانا تمثل تعديا على حقوق التواجد والتعايش بين القوميات، من أجل إنقاذ اللغة الفرنسية من الموت المحقق. الرئيس الفرنسي الراحل فرانسو ميتيران، يفصح عن مفهوم هذه الإديولوجية فيؤكد أن الفرنكوفونية ليست هي اللغة الفرنسية فحسب. «إننا إذا لم نتوصل إلى الاقتناع بأن الانتماء إلى العالم الفرنكوفوني سياسيا واقتصاديا وثقافيا، يمثل إضافة، فإننا سنكون قد فشلنا في العمل الذي بدأناه منذ عدة سنوات..!!» الفرانكوفونية عند ميتران، ليست في اللغة الفرنسية، فاللغة لا تمثل الطاعة العمياء، واتباع سياسة الغالب على رأي ابن خلدون، فالمقصود من الفرانكوفونية كما يبدو واضحا من خلال كلام الرئيس الفرنسي الراحل، هو الانغماس في بحر الآخر، سياسيا، اقتصاديا، ثقافيا وهو ما يعني التبعية المطلقة وليست النسبية. من المسلمات التي يعيشها الوطن العربي، بصفة عامة، والمغرب العربي بصفة خاصة، الارتماء في أحضان عدو الأمس، لماذا؟ لأن الآخر متقدم ونحن متخلفون، هذا الأمر أو هذه العقدة تسقطنا في التقليد، فتجدنا حريصين كل الحرص على تتبع آخر التطورات التي وصل إليها الآخر. بذلك، أصبحت فرنسا تقدم نفسها للعالم الثالث من خلال هذه الإديولوجية، على أنها حبل الخلاص الذي لابد من التمسك به للوصول إلى بر الأمان، قبل الوقوع في الهاوية الأمريكية، وهو أمر لا تصمد حجبه أمام التاريخ، أو أمام الموضوعية الحاضرة. -2- في عام 1880 كانت هذه الكلمة «الفرنكوفونية» من ابتكار عالم الجغرافيا، «أو نيزيم روكلو»، وتشير إلى منطقة ما يتكلم أهلها ضمن حدودها اللغة الفرنسية، وهو ما يعني أن فكرة الفرنكوفونية نشأت خارج فرنسا، ذلك أن جماعة من القادة الأفارقة اقترحوا إقامة منظمة دولية تضم الدول التي تجمع بينها اللغة والثقافة الفرنسية، فتحمس الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران للفكرة وتبناها لتعقد تحت رئاسته سنة 1986 أول قمة فرانكوفونية. وتحمل الفرانكوفونية في مفهومها، مدلولا بسيطا يتجلى في تقاسم الفرنسية بين مجموعات من الأفراد منتظمتين في شعوب أو دول، وقد يمتد هذا القاسم ليشمل نماذج معينة من الثقافة الفرنسية، في المسرح والشعر والأدب والسينما، فهي نمط تفكير وسلوك حياة قبل أن تكون انخراطا في اللغة الفرنسية ضمن تنوعه العرقي والوطني والديني. وتعتبر الفرانكوفونية مشروعا سياسيا في أساسه، لأنه نشأ لضمان الارتباط الاقتصادي للبلدان –ا لتي كانت تحت الحماية الفرنسية- والحد من تأثير الهيمنة الأمريكية أو بعض البلدان الأوروبية الأخرى كألمانيا والبرتغال وإسبانيا بالرغم من تكتلها معهم ضمن الاتحاد الأوروبي أو ما يسمى المجموعة الأوروبية، وسيتطور هذا المشروع السياسي لاحقا ليتحول إلى مشروع ثقافي هدفه منافسة اللغة الإنجليزية- الأمريكية، وذلك بإنشاء هيئات ومؤسسات مثل المجلس الدائم للفرانكوفونية/ والوكالة الدولية للفرانكوفونية/ والجمعية الدولية للعمدات الفرانكوفونيين/ والجمعية البرلمانية للفرانكوفونية، بهدف تشجيع انتشار اللغة الفرنسية ودعم الجهود المبذولة في ميادين التربية والتكوين والإعلام باللغة الفرنسية . إن الفرانكوفونية اليوم أصبحت قوة فكرية ولغوية وثقافية، بل سياسية واقتصادية بعد أن تقلص ظلها العسكري الرسمي وبرزت في ثوب جديد وبتنظير مختلف عن السابق، وكشفت عن أنيابها التي غلفتها بقشرة من ذهب مصطنع براق، ولكنه مضلل خادع كما تكاثرت فئة الداعين إليها، وبدت عداوتها سافرة للعربية وللهوية العربية الإسلامية.. وبعيدا عن أي تأويل لما أصبحت عليه ظاهرة الفرنكوفونية في المغرب، يجب التأكيد أن الفرانكوفونية تحولت إلى خطاب لغوي وسياسي واقتصادي، ينبني على إقصاء العربية باعتبارها اللغة الرسمية للبلاد، وتعتبر فرضية الإغناء والشراكة اللغوية، مغالطة في جوهرها، لأنها ترمي في الحقيقة إلى توفير السبل الكفيلة لضمان تبعية لغوية وثقافية دائمتين، فالإثراء والتفاعل يتأسس على شرط النهوض باللغة الوطنية والحفاظ عليها، ثم تشجيع تعليم اللغة الأجنبية – حسب رغبة المتعلم- لإتقانها كلغة ثانية، وذلك في إطار ثنائية لغوية تتوخى توظيف اللغة الأجنبية في سياقها المعرفي والتواصلي. -3- بالنسبة للمغرب، نهجت فرنسا منذ سنة 1956 (سنة إعلان الاستقلال) سياسة لغوية استعمارية حاولت أن تخفي جذورها وأبعادها تحت غطاء شعار التعاون الدولي، معتمدة في تنفيذ هذا الشعار على أساس «السلاح المالي» لأجل حماية مصالحها السياسية والاقتصادية. في سنة 1956، كان عدد أطر الإدارة الاستعمارية الفرنسية يقدر بحوالي 130.500 إطار من مستوى جامعي. غير أن سياسة فرنسا وفرت لأطرها، بما في ذلك الشريحة غير الجامعية، ظروفا خولت لها صلاحيات الهيمنة على الإدارة المغربية. إن هذا الوضع كان في الواقع أحد العوامل التي هيأت لتوقيع عدد من اتفاقيات «التعاون» بين البلدين (المغرب وفرنسا)، وفي مقدمتها اتفاقية سادس يوليوز لعام 1957 (الفصول 20-24) التي ضمنت للأطر الفرنسية مصالحها داخل الإدارة المغربية. أما بخصوص قطاع التعليم، فإن الاتفاقية الفرنسية المغربية لخامس أكتوبر 1957 بباريس هي التي هيأت للحكومة الفرنسية فتح مدارس فرنسية بالمغرب (الفصل الخامس)، وبكل تحديد تم خلال نفس الفترة فتح 1025 قسما للتعليم الفرنسي على مستوى الابتدائي وسبع مدارس على مستوى الإعدادي. وقد شملت سلسلة الاتفاقيات اتفاقية 16 يونيو 1962 التي عملت فرنسا بمقتضاها على تحويل المعهد الفرنسي بالمغرب إلى معهد الجغرافيا بالرباط. ولقد عبرت الأحزاب الوطنية المغربية آنذاك، (حزب الاستقلال/ الاتحاد الوطني للقوات الشعبية/ الاتحاد الاشتراكي)، عن حذرها تجاه هذه الاتفاقيات التي أبرمت في عهد حكومة البكاي، التي لم تعمر طويلا، ولكنها كانت حريصة على بناء سياسة وطنية تحديثية ترمي إلى وضع بنيات اقتصادية وسياسية حديثة. لقد عبر رواد هذه الفترة، أمثال علال الفاسي وأحمد بلافريج وعبد الله إبراهيم، والمهدي بنبركة ومحمد حسن الوزاني عن حذرهم من ربط التنمية باللغة الفرنسية، وكان مطلبهم الأساس تعريب ومغربة الحياة السياسية والثقافية، كما كان برنامجهم التربوي يقوم على أربعة مبادئ، هي: التعريب، المغربة التعميم والمجانية. يقول علال الفاسي، «إن التعريب يعني وطنية ومغربة الإدارة والتعليم والتجارة وكل مجالات الحياة اليومية بالبلاد». وإن هيمنة الفرنسية أو أية لغة أجنبية على مجال التعليم، والإدارة أو على أية قطاعات أخرى، من شأنه القضاء على اللغة العربية، وهو المرمى الذي يدافع عليه ورثة الاستعمار... إن هذا النفس وهذا الوعي النقدي الذي نجده لدى رواد الوطنية في مغرب غداة الاستقلال سيتأثر سلبا في المراحل اللاحقة، بفعل الخلافات الحزبية التي ستشهدها الساحة السياسية المغربية. أما النخب الحاكمة وأطرها، فقد تابعت ارتباطها وتبعيتها للهيمنة الفرنكوفونية، وسينتج عن ذلك ما يسمى بنظام الوساطة اللغوية، والولاء الغربي كآليتين للإدماج السياسي داخل دواليب الدولة، وهو أمر سيؤثر سلبا على كل المسار التنموي للمغرب خلال السبعينيات والثمانينيات. إن نجاح الفرنكوفونية في استقطاب الاتجاهات اليسارية وكذلك دخول أطر الفرنكوفونية في قلب الأحزاب الوطنية، سيعطل مشروع التعريب كما رسمته القوى الوطنية غداة الاستقلال. لكن قراءة استشرافية لعهد ما بعد الثمانينيات بعناصره الثلاثة الجديدة: ظهور الحركات الإسلامية في قلب الحياة السياسية العامة، امتداد البطالة إلى المتخرجين من مؤسسات التعليم الفرنسي، دخول الولاياتالمتحدةالأمريكية كطرف دائم في الاستراتيجية الدبلوماسية المغربية وكذلك دخول المغرب كعنصر نشيط دائم للحياة السياسية العربية والإسلامية. يؤشر على أن هناك دعوة لاحقة للعربية في الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية المغربية. وإن كانت غير واضحة، وغير شفافة. -4- في خضم الجدل الذي تعرفه الساحة الثقافية المغربية اليوم، عن مكانة اللغة العربية داخل المحيط التربوي/ الاجتماعي/ اللساني/ الثقافي، وعن منزلة اللغة الفرنسية داخل النسق اللغوي السائد في المغرب الحديث، وهي منزلة تحدث بقوة كل المبادرات والمشاريع والرؤى التي اتخذتها بعض حكومات عهد الاستقلال، أحيانا تحت مسمى التعريب، وأحيانا أخرى، تحت مسمى حماية الهوية اللغوية، في خضم ذلك تحولت الفرنكوفونية، إلى ظاهرة معادلة للهوية المغربية، هدفها المباشر، إفشال كل مشروع يعمل على إعادة اللغة العربية إلى موقعها الطبيعي على أرض الواقع. إن الخلاصة التي يخرج بها المتتبع والمهتم بهذا الجدل كل مرة، هي أن التعدد اللغوي، لا يمس محتوى اللغة الأم، إذا كانت التشريعات تحفظ مجالات استعمالها وتضبط رسميتها بقوانين زجرية كما هو الشأن في العديد من الدول التي تحترم لغتها الوطنية، فإذا كان الدستور المغربي ينص بوضوح وشفافية، على أن العربية لغة رسمية للمملكة المغربية، فإن العكس يتجلى ماثلا أمام الملاحظ وهو يقصد إحدى المصالح العمومية في الإدارة المغربية بالرغم من تكرار دوريات الوزارة الأولى على مختلف العهود، حول ضرورة استعمال اللغة العربية في جميع المرافق الإدارية. إن الأقطار التي يستعمل قسم من سكانها اللغة الفرنسية في شؤون التعليم والإدارة والاقتصاد، أصبحت توجه أكبر عنايتها إلى تنمية لغتها القومية أولا، تحرص على فتح نوافذها نحو آفاق جديدة بتعليم لغات أجنبية أخرى، كالإنجليزية التي لها السبق في ميدان العلم والتكنولوجيا والعولمة، وفي ميدان الاقتصاد، كما يفعل الفرنسيون والكنديون أنفسهم، وبالأحرى السويسريون المتكلمون بالفرنسية الذين لا يأنفون من إيثار اللغة الإنجليزية واستخدامها في عدد من مرافق التعليم العالي ولاسيما في تخصص العلوم والرياضيات وإدارة الأعمال. إنه لمن سوء الحزم وقصر النظر، أن يحبس المغرب نفسه في فضاء لغوي وثقافي واحد وضعته فيه عهود سابقة، وظروف معينة لم يكن له يد في صنعها، وقد صار العالم اليوم فضاء مفتوحا يوحي بأن من مصلحة الشعوب المتطلعة إلى التقدم والحرية أن تختار لنفسها ما ينفعها ويناسبها وأن لا تترك لأحد أن يختار ذلك مكانها، ومن المؤكد أن هذا الانفتاح على الفضاء الواسع هو العامل الأقوى في تقريب الشعوب بعضها من بعض من أجل مزيد من التعاون والتفاهم في ظل المساواة والتكافؤ . ومن أجل أن يكون هذا الانفتاح إيجابيا، نرى ضرورة، إصدار قانون بتعميم اللغة العربية والذي يجعلها وحيدة الاستعمال في ميدان الإدارات العمومية والجمعيات، والمقاولات والمؤسسات الاقتصادية والمالية والصناعية، حيث تستعمل في الوثائق والمناقشات الرسمية والامتحانات ومباريات ولوج أسلاك الوظيفة والمراسلات الداخلية والخارجية. كما نرى ضرورة أن تجعل هذا القانون، العربية وحيدة الاستعمال في التعليم ماعدا في أقسام تعلم اللغات الأجنبية، ويجعل العربية لغة الإذاعة والتلفزة حيث يفرض على كل شريط أو مسلسل أجنبي تبثه وسائل الإعلام المرئية المغربية، أن يترجم إلى العربية مباشرة، أو عبر الدبلجة ونفس الشيء بالنسبة للإشهار. ومن أجل سلامة تطبيق هذا القانون، نرى ضرورة تطبيق عقوبات صارمة (ذعائر مالية/ إقفال المقاولات والمحلات/ سحب رخص العمل... وغير ذلك). وعلى الذين سيوقعون هذا القانون، أن يشعروا أن الدولة ليست وحدها المتورطة اليوم في قضية الفرنكوفونية، بل الشعب أيضا يتورط فيها يوما بعد يوم، عن طريق التعليم الفرنسي والإعلام المفرنس، والإدارة الفرنسية وغيرها، حيث لا يجب تعريب هذه المجالات فقط، من أجل إعادة الاعتبار للغة الرسمية بالمغرب، وإنما أصبح على المغرب تعريب مواطنيه، الذين أخرجتهم اللغة الفرنسية عن طريق الصواب، ومنهم الأساتذة والمعلمين والوزراء والزعماء والأطر العليا، والأطباء والمهندسين والمحاسبين والخبراء، ممن أصبحوا يجهلون حتى الحديث بالعامية، في مجتمعاتهم الصغيرة والضيقة. نعم، قد يعتبر العديد من المتفرنسين، أن الأمر يتعلق باجثتات اللغة الفرنسية، مع أن هذه الدعوة لا تعني إطلاقا التقوقع على الذات اللغوية، أو رفض متشنج للغة الفرنسية كلغة لها إسهاماتها الواضحة في بناء الحضارة الحديثة، بل أن ذلك لا يعدو أن يكون مجرد دعوة إلى الإحساس بالتمييز والاعتزاز به، وما يستتبع ذلك من سلوكات وآليات تجسد هذا الاعتزاز وتقره. وخارج هذه الدعوة وتجلياتها، لابد من الإقرار بأن تحليل وضع اللغة الفرنسية في المغرب، يدفعنا إلى الاستنتاج أن الفرانكوفونية سياسة اقتصادية ثقافية، لا مستقبل لها، لأنها تشجع الشحاذة وتقدم الصدقة بصيغة مساعدة، وهي ثقافيا لا آفاق لها لأنها تساهم فعليا في تبخيس العربية في بورصة القيم اللغوية المهيمنة، مستفيدة من ضعف استعمال العربية في مجالات حيوية بالبلاد وانعدام تشريع لغوي يضمن لها دستوريتها.