لا أحد في حكومة الأستاذ بنكيران استطاع أن يفهم مغزى الفيديوهات التي بلغتنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي والتي يتحدث أصحابها عن امتعاضهم، ورفضهم مطالبة الحكومة المغربية نظيرتها الألمانية بإعادة شبان هاجروا إلى ألمانيا بطريقة شخصية، فاغتنموا فرصة عبور أفواج هائلة من مواطنين سوريين وعراقيين وغيرهم إلى أوروبا فتمكنوا هم أيضا عن طريق اليونان وتركيا من دخول الأراضي الألمانية. ما الذي يجعل الشبان المغاربة اليوم كما بالأمس القريب يلتحقون بالمهجر كما لو أنهم يلتحقون بالجنة ولا يضعون اعتبارا لشيء اسمه الوطن، فيهربون منه كما لو أنهم يهربون من السعير؟ ما الذي يجعلهم تواقين للحرية في بلدان أخرى حتى إذا جاؤوها تفجرت كل طاقاتهم، واكتشفوا قدراتهم الإبداعية، أو تكشفت لهم فوجدوا ذواتهم التي فقدوها في أوطانهم وتبينت قيمة الإنسان فيهم فتحولوا إلى مواطنين يعيشون توازنا اجتماعيا واقتصاديا وحتى علميا، فتراهم يستفيدون ويفيدون البلدان المستقبلة لهم؟ أين كبت هذا الشباب كل تلك الكفاءة وكل تلك القوة طوال سنين خلت في بلدانهم الأصلية؟ أمَا كان لها أن تتحرر ويستفيد منها بلدهم الأصلي؟ ما الخلل التربوي أو التنظيمي أو المعرفي الذي يجعل الإنسان يبلغ مرحلة اليأس فيتحمل كل تبعات الهجرة التي تعني أن تفتح عليك باب المجهول والموت المحقق برصاص حراس الحدود، أو بالجوع أو بالمرض، في عالم أصبح اليوم مليئا بالحقد وبكراهية العرب والمسلمين وأي شكل تعبيري أو احتجاجي من طرفهم يصبح إرهابا وداعشية تشرعن لاعتقاله أو اغتياله بسهولة؟ لعل مثل هذه الأشرطة المتنقلة وغيرها كثير والمتناثرة في مواقع التواصل الإجتماعي لمادة دسمة لمن له الجرأة على سبر أغوار الأزمات النفسية والإجتماعية التي يتخبط فيها الإنسان المغربي، والتي لا يبدو أن المسؤولين الحكوميين والفاعلين السياسيين تفاعلوا معها بالشكل اللازم.. حتى تناقش الأزمة على ضوء التغيير الذي يفترض أنه يعيشه المغرب مند دستور 2011، وصعود حزب محسوب على التيار الإسلامي لتسيير الشأن المحلي والوطني. أكيد أن القليل من النباهة يجعل المتتبع لهذه الأشرطة يستشعر حالات الإنتكاسة، والإحباط في مجتمع نصفه شباب لا يتجاوزون 25 سنة، مجتمع معتقل في رؤية نمطية لما يمكنه أن يكون في المغرب، وما يمكنه ان يتمخض على المستوى القريب، المتوسط والبعيد، وهذا ما يجعلك تسمع من كل مغربي سألته عن حاله فيجيبك بالقول الذي أصبح مأثورا " السلاك أخويا "، ليلخص لك الفضاء العام الذي يعيش في المغاربة، والقدرة المحدودة بل المعدومة والآفاق البعيدة بل المنغلقة تماما. كنا نتابع بألم وصمت جنائزي لسنوات مضت أفواجا من الشباب المغربي الذي بلغ مرحلة اليأس وابتكر اللانشات كي يمخر بها عباب مضيق جبل طارق الخطير مفضلا الموت في البحر على البقاء في عدمية غرفة الإنتظار. وكانت الرحلة غالبا ما تنتهي بغرق كل من في القارب. ولعل المسؤولين في الدولة كانوا يتابعون هم أيضا كل ذلك دون أن تكون لهم مقاربة جريئة وواقعية للأزمة. وكان المثير للجدل آنذاك أن تنشأ على أعين الدولة لوبيات وعصابات نشيطة في تهريب البشر نحو الضفة الأخرى لتراكم أموال الهجرة وأموال المخدرات حتى أصبحنا أمام مافيا كبيرة جذورها في المغرب وفروعها في كل أروبا، وتابعت الدولة مراقبتها شباب المنطقة دون أن يرف لها جفن، ودون بديل حقيقي يدمجهم في النسيج الإجتماعي والإقتصادي للمنطقة، فغدوا بدون حماية وقد بلغوا مرحلة لم يعودوا قادرين على مقاومة إغراءات الداعشيين مما جعل الدولة الإسلامية داعش تستقبل أكثر من ثلاثة آلاف شاب مغربي من مدن شمال المغرب. لا أحد يشك في أن كافة المغاربة لهم الحق في التواجد في أي مكان في العالم بموجب القانون المنظم لدخول بلدان أجنبية، لكن الهجرات تختلف من حيث المعنى ومن حيث المبنى، ومن حيث توقيتها، ومن حيث أشكالها. فإذا كان المشارقة خرجوا عن بكرة أبيهم بالملايين من سوريا والعراق والدول المجاورة بسبب المعارك الطاحنة بين الفصائل السياسية المعارضة والأنظمة الإستبدادية، فما الذي يجعل المغاربة تواقين إلى الهروب وليس الهجرة؟ وحتى مضمون الأشرطة البليغ لم يخص بالذكر فقط الشبان العاطلين فحسب وإنما أيضا الشبان والشابات ذوي الشهادات العليا الذين فضلوا هم أيضا الإنسحاب بصمت إلى أروبا أو أمريكا بعيدا عن هذا الوطن وبشتى الطرق والوسائل. ما أثارني في الحقيقة هو ما لمست في تصريحات الشباب المغاربة في السويد وفي الدانمرك وفي بريطانيا وإسبانيا هو حبهم الشديد لوطنهم وتمسكهم به لكن عندما كان الصحفي يسألهم عن إمكانية الرجوع، كانت الأجوبة كلها تقريبا تتميز بكثير من اللباقة والدبلوماسية اكتسبها هؤلاء الشباب هناك، والتي استنتجت منها أنهم استحيوا أن يقولوا أمام أضواء الكاميرا لا لا لا، فمعذرة أيها الوطن أبعدنا عنك المفسدون..