يقوم تفرد الأمير على احتجابه. فالإبقاء عليه بعيدا عن رعيته، يقوي غموضه ويرسي أكثر دعائم سلطته. في البداية، عند ظهوره، إبان سعيه للحصول على السلطة، يبرهن الأمير عن جدارته بفضل مزاياه كأمير حرب، تلك المزايا التي لا يتوانى في عرضها أمام الملأ. وخلال مسيرته هذه يكون مرفوقا بالشجعان الذين لا يخشون ركوب الخطر ولا يتراجعون أمام أي مخاطرة. وكانت شجاعته تبعد عنه كل الجبناء والمتوسلين الذين ستأتي ساعتهم، فيما بعد، لما تضع الحرب أوزارها. ولما يتم تتويجه، يتخندق الأمير شيئا فشيئا في عزلته الملكية، محاطا بخدامه المقربين وحاشيته. ولكونه المركز المعطاء والسخي، فمحيطه هذا لا يفتأ يكبر ويبعده بالتالي عن نور النهار. وكلما ازداد حجمه بسبب تكاثر المنتسبين، يزيد الحجاب، الذي يشكله هؤلاء المحيطون المتوالون به، من العزلة الأميرية. بالتالي، فالظلام يخلق وسطا ملائما لهذه الحاشية وللسلطة بشكل عام. وبما أنه وسط يسود فيه الليل والصمت الذي تفرضه هذه الحاشية، فإنه يكون مسرحا لتكاثر نوع من الناس لا يعرفون كيف يحيون ويتحركون سوى في الظلام. إن هذه الحاشية تكون غائبة كليا بالنهار، ولذلك فهي لا تشارك في النشطات العامة للأمير ولا في النقاشات العالمة لديوانه. ولا تظهر سوى لما يعود إلى خلوته. فليس لها أي روابط واضحة مع العالم الخارجي. وبما أن هذه الحاشية لا تقوم على نسب نبيل بل وتكون أصولها مجهولة، فإنها تخشى النور الذي يفضح وضعها. ولا تشعر براحتها سوى في الظل، ويظل الغموض ميزتها الأساسية. ففي الظل تجد هذه الحاشية نفسها إلى جانب السلطة العليا، بل وتحتك بها في شخص مالكها الأمير. ومن تناقضات هذه الحاشية أنها تعمل على "تأليه" الأمير من خلال تمتيعه بمحيط غامض وضبابي، وفي الآن ذاته تقوم بمحاصرته داخل حلقة من الخدام. وعلى عكس الإله الذي يظل محيطه خفيا، فإن الملك البعيد ذا الراوبط الإلهية بالنسبة إلى الشعب يكون كائنا حقيقيا بالنسبة إلى خدامه المقربين. بطبيعة الحال، تقوم العبودية بتذويب هذا القرب من خلال سلب شخصيات هؤلاء الخدام الذين يتحولون إلى مجرد أشباح تقريبا. وكلما كبرت درجة القرب، ازدادت درجة العبودية. بيد أن الأمير يكاد يكون إلهاً في عيون الذين يخدمونه عن قرب، فإنه يبقى كائنا بشريا. هكذا يكتشف الأمير في سموه الإلهي أنه رهين شرطه الإنساني. إذ تنخرط كتلة الخدام المنفصلين عن الواقع الاجتماعي والذين لا يأبهون سوى بسيدهم الذي يتخاطفون رضاه، في صراع مرير لبلوغ غاياتهم، ويخول لهم الاتصال المباشر بالأمير وسائل تحقيقها. هكذا يتحول عالمهم إلى فضاء تسود فيه المكائد والوشايات والخيانات. ويدغدغون الغرائز الأكثر دونية في الإنسان، ويعملون جاهدين على تفكيك الروابط التي تربط الأمير بالعالم الخارجي، تلك التي تربطه بالدوائر المؤسساتية المكلفة بتدبير شؤون المدينة. إن السياسية في عالم هؤلاء الخدام تختزل في الضرب تحت الحزام والمؤامرات. وقد سجلت الذاكرة البشرية لؤم هذه الشريحة من البشر في اللغة، فهي تصف المنتمين لهذه الفئة بالدخلاء والدود الذي ينخر جسد الأمير نفسه. إن سعي الأمير إلى بلوغ السمو، الذي يليق بوضعه، يصطدم بالحدود التي تفرضها رغبة المقربين منه في محاصرته وجعله لا يستمع إلى أحد غيرهم. من هنا، يمكن للمرء أن يحس بالأهمية الإستراتيجية التي تكتسيها المؤسسات الاستشارية الموجودة خارج البلاط، فهي تعمل على إرجاع الأمير إلى نور النهار، تحريره من خندقه، جعله على صلة بالواقع الاجتماعي. إن هذه القناة حيوية جدا، فهي كفيلة بإحداث فجوات في السور المحيط بالزعيم، والذي شيده الخدام المقربين الذين يقوم منطقهم على ما هو ذاتي وآني وليس على ماهو سياسي.