نعيد نشر مرافعة الزعيم عبد الرحيم بوعبيد أمام المحكمة سنة 1981 تحت عنوان: "ربي.. السجن أحب إلي من الصمت" (ص 5)، بمناسبة محاكمته على قوله "لا" لمقررات نيروبي، والتي قبل بها الملك الراحل الحسن الثاني، وقبل معها إجراء استفتاء في الصحراء.. استفتاء رأى فيه الزعيم الاتحادي مسا بسيادة المغرب، ودخولا في متاهات لن تخدم المصلحة الوطنية كما يراها هو... وقد أنصفه الزمن رغم أن القاضي، الذي مثل أمامه، سجنه سنة ونصف السنة، لأنه بقي وفيا لقسم المسيرة، كما تصوره. العودة إلى محاكمة زعيم المعارضة، الذي قال لا لملك اسمه الحسن الثاني، ليس احتفاء بالنوستالجيا، ولا تقليبا لصفحات كتاب مغرب كانت فيه السياسة مسرحا لصناعة التاريخ، وليست خشبة تتحرك فوقها الدمى... العودة إلى هذه المحاكمة، التي قال عنها بوعبيد: "هذه المحاكمة سيكون لها تاريخ"، طريقة لتأمل سلوك النخب السياسية اليوم، وكيف صارت تخاف من كلمة لا، وتدمن لغة الخشب، وتحترف صناعة "النفاق"، وتظهر غير ما تبطن، ولا تجرؤ على قول الحقيقة للسلطة إلا في ما ندر... لقد باتت نخبنا السياسية تخشى من قول الصراحة للملك، رغم أن هذا الأخير أرسل أكثر من إشارة عن أنه يريد أسلوبا جديدا في إدارة الملفات وفي صناعة القرار، وفي مجابهة المشاكل... فقد اعترف بأن بلاده فيها فقر وتهميش، وأن مملكته عاشت لسنوات في ظل سنوات الجمر والرصاص، وأن مفهوم السلطة القديم لا يروقه، وأنه يتطلع إلى مفهوم جديد، وأن أوضاع المرأة تحتاج إلى تغيير، وأن القضاء يحتاج إلى إصلاح وإلى استقلال... جل الخطب الملكية، منذ 10 سنوات، احتوت على نبرة نقدية، فلماذا تخلت الأحزاب عن هذه اللغة بعدما تكلمت بها لعقود طويلة أيام كانت في المعارضة... هناك 3 تفسيرات لهذا الصمت المريب: الأول يقول إن الأحزاب السياسية وجدت نفسها متجاوزة "بالديناميكية" التي أطلقها الملك محمد السادس وفريقه، وإن جل المطالب التي كانت تنادي بها أصبحت برنامجا ملكيا، ولهذا لا يمكن لهذه الأحزاب أن تناقض نفسها، وتبدأ بالحركة على يسار القصر. التفسير الثاني يقول إن المعارضة السابقة أصبحت جزءا من جهاز الدولة، وليست كيانات مستقلة، وإنها ورثت وظيفة أحزاب الإدارة التي كانت تطبق التعليمات الملكية بالحرف بلا زيادة ولا نقصان. ألم يقل عباس الفاسي، في أول تصريح عندما عين وزيرا أول، إن برنامجه هو خطاب صاحب الجلالة، (لهذا لا تطلبوا من هذه الأحزاب أن ترجع إلى سيرتها الأولى.. لقد غيرت عنوانها وسكنت منزلا وظيفيا جديدا). السبب الثالث يقول إن الأحزاب تخاف من أن تُفهم خطأ من قبل القصر إن هي أبدت ملاحظات أو قالت لا لبعض القرارات الاستراتيجية، خاصة وأن الملك محمد السادس يدير اليوم شؤون مملكته مباشرة وبدون وساطة من حكومة أو حزب أو مؤسسة، فهناك خوف دائم من "سوء الفهم"، ومن الرجوع إلى أجواء التوتر مع القصر.. توتر لا يريد أحد الرجوع إليه لأنه أضاع على البلاد سنوات كثيرة، خاصة وأن لا أحد يطمئن إلى أن ما يقوله يصل إلى القصر كما هو دون تحريف ولا زيادة أو نقصان... كل هذه الأسباب موجودة، وبغض النظر عما إذا كانت أسبابا معقولة أو تبريرات غير منطقية، وما إذا كان أصحابها يخافون على أحزابهم أم على امتيازاتهم، فإن المصلحة الوطنية تفترض وجود تعدد في الآراء ووجهات النظر. السلطة اليوم، أي سلطة، تحتاج إلى المعارضة.. تحتاج إلى أجراس الإنذار، لأن القوة الكامنة في السلطة تحجب الرؤية مهما كانت قوة بصيرة من يوجد في قمرة القيادة...