غياب محاور في السنوات الأولى ل"العهد الجديد"، شكلت الصحافة، وخاصة منها الجيل الجديد من الصحافة "المستقلة"، حصان طروادة للمحيطين بالملك الجديد، ورموز قطيعة مع عهد طالما وصف بالدكتاتورية وقمع الحريات. وساهمت بعض الشخصيات، في مقدمتها زميل دراسة الملك محمد السادس، حسن أوريد، في إبقاء قنوات الاتصال مفتوحة وسبل تبادل التوضيحات وتبديد التوترات ممهدة. بل إن القصر الملكي بادر في سابقة تاريخية إلى تعيين أوريد ناطقا رسميا باسم القصر الملكي، وتوالت، على قلتها، الحوارات والخرجات الإعلامية لملك حرص الجميع على إظهاره في صورة المنفتح الودود والمقبل على التواصل. لكن قنوات الاتصال هذه سرعان ما انقطع حبلها، واستعاض عنها مجاورو السلطة بآذان من طين وأخرى من عجين. الخوف من الخبر في تاريخ صراع الدولة المغربية مع "خصومها" أو مزعجيها، كان الهاجس الذي يسكنها تجاه الصحافة والصحافيين هو محاولاتهم للتعبير عن آراء قد لا تروق الماسكين بزمام السلطة وانتقادهم. فكانت جل الحوادث التي وقعت بين الدولة وصحافة المعارضة وبعض الصحف "المستقلة" الأولى تحدث بسبب نشرها لكتابات تعبر عن آراء لا يتسع صدر الدولة لقبولها. لكن الجديد في الفصول الأخيرة لحرب الدولة على جزء من الصحافة هو خوفها الشديد من تسرب المعلومة وتداول الأخبار حول الملفات والمجالات الحساسة، بدءا من كل ما يتعلق بالمؤسسة الملكية ثم الجيش والأجهزة الأمنية والامتيازات الاقتصادية... وأصبح شعار المملكة تجاه صحافتها: "عبر كما شئت لكن احذر الوقوع في "الأخبار" المحظورة". قضاء "خدوم" أحد أهم أسباب التوتر شبه الدائم في علاقة الدولة بالصحافة هو يقين الجهات المعترضة على تمتيع هذه الصحافة بهامش من الحرية، وتركها لتطورها الذاتي والطبيعي، من أن لجوءهم إلى القضاء سوف يكون بنتائج مضمونة. إذ لم يسبق أن قرر أحد أجهزة الدولة أو مراكز نفوذها متابعة الصحافة بتهمة معينة، دون أن يصدر القضاء حكما يرضي تطلعاتها ويطابق ما أشارت به في "شكايتها" أو بلاغها أو حتى تلميحاتها. ولو أن القضاء تجرأ يوما على القول بخطأ الدولة في قراراتها وتأويلاتها لما تقوم به الصحافة لفكرت منذ سنوات في إعمال المؤسسات والقوانين المتعلقة بالصحافة، وضمان حصانة ذاتية للجسم الإعلامي، عوض تجميد كل الأوراش والاعتماد على سيف القضاء. ضعف الجسم الصحافي منذ أن تأسست النقابة الوطنية للصحافة المغربية في ستينات القرن الماضي، بهدف استراتيجي أول هو انتزاع صحافة "ماص" من يد الثري الفرنسي الذي خدم الاستعمار قبل أن ينتقل إلى خدمة "المخزن"، لم يتمكن الجسم الإعلامي المغربي من تطوير أداته التنظيمية النقابية، رغم انتقال النقابة من تمثيل أرباب الصحف إلى محاولة لم شمل الصحافيين خلال الثمانينيات. فتطورت الاختلافات وتعمقت الهوة بين مكونات هذا الجسم الإعلامي، فيما لم تواكب فترة الانفتاح النسبي التي انطلقت في بداية التسعينيات، بتحيين الممارسة المهنية والرفع من مهنية حاملي الأقلام، لتصبح العوائق الذاتية جزءا من المشكلة الكبرى. لوبيات نافذة على جنبات مركز السلطة، نمت لوبيات اقتصادية وسياسية، وأنتجت مصالح سعت إلى حمايتها من خلال التسلل إلى بعض المؤسسات الإعلامية، ولجأت إلى كل السبل والوسائل لحماية مصالحها. فكان سلاح المال والإشهار أداة فعالة في محاولة ضبط خطوط التحرير وتوجيهها. وعندما جمعت بعض تلك اللوبيات بين سلطة المال وسلطة القرب من مراكز القرار واستفادت من حصانتها رفعت من حدة هجومها واستهدافها للمنابر العصية على التطويع أو المشاغبة. ولا تزال خطط الاختراق والتضييق والحصار جارية في انتظار رسوها على خريطة جديدة. انتقال ناقص مفهوم العهد الجديد الذي ارتبط باعتلاء الملك محمد السادس عرش البلاد خلفا لوالده الراحل، الحسن الثاني، ارتبط بفكرة الانتقال من دولة القمع والدكتاتورية والتضييق على الحريات إلى "جنة" الديمقراطية الموعودة. وكان الملف الحقوقي في مقدمة شعارات "العهد الجديد" وتوسيع هامش حرية الصحافة أبرز تجلياته. لكن انتهاء هيئة الإنصاف والمصالحة من مهامها وتثبيت دعائم حكم رجال الملك الجديد، كانا بمثابة نهاية مبكرة لمسلسل الانتقال الذي كان يفترض فيه أن يفضي إلى "مملكة ديمقراطية". لكن مسار الانتقال لم يرتد لباس المأسسة، فبقي حبرا على وثائق رسمية. تكسير الطابوهات والت الصحافة المستقلة منذ السنوات الأخيرة في حياة الملك الراحل الحسن الثاني، وعلى امتداد السنوات العشر لحكم ابنه محمد السادس، تحطيم الطابوهات واختراق حدود المحرمات. من الدين إلى السياسة مرورا بالاقتصاد، نبشت الصحافة الجديدة في حقيقة الممارسات الدينية بالمملكة، وكشفت تناقضات الخطاب السائد بعادات وأسرار المغاربة في حياتهم اليومية، وفتحت ملفات شائكة حول المؤسسة الملكية ووظائفها وكلفتها، ومؤسسة الجيش البكماء واختلالاتها، ثم خريطة اقتصاد الريع وأطراف أخطبوط المتنفذين في دواليبه... ومع كل هذه الاختراقات، كانت مراكز النفوذ والمحافظة تتوجس من استمرار هذا المد وإمكانية تهديده لمصالحها.