الإبعاد السياسي أنموذجا 1955 – 1881 بقلم:حسام هاب يمثل مفهوم الإبعاد إحدى الممارسات العقابية القديمة التي تطورت تقنياتها وأهدافها بتطور الأنظمة السياسية، ويحتل الإبعاد السياسي خاصة حيزا متميزا في إطار هذه العقوبة. فهو شكل من أشكال العقوبات القضائية والإجراءات الإدارية الاحترازية ذات الطابع السياسي التي تصدر عن السلطة القضائية أو الأمنية أو السياسية لبلد معين بغض النظر عن طبيعة النظام السياسي الحاكم. لذلك تندرج هذه الممارسة في سياق العنف الذي تمارسه أجهزة الدولة المختلفة ضد الأفراد وحتى ضد المجموعات التي تراها معادية لها ولمصالحها واستنادا لمواقف سياسية أو ثقافية معينة أو بفعل ممارسة نشاطات تعتقد أنها تسيء إلىهيبتها ووجودها . تأتي هذه العقوبة أو هذا الإجراء في إطار رد فعل تلك السلطات بهدف تجميد حركة الأفراد أو المجموعات أو تحييدها أو الضغط عليها وصولا لإلغائها، مما يتيح لها الاحتفاظ بحق مزعوم، أي الانفراد بالسلطة. يعد الإبعاد من المفاهيم التي ظل يكتنفها الكثير من الغموض والالتباس، حيث عادة ما يتم تناول الإبعاد كظاهرة قانونية وإدارية دون تحديد ما يكتنز ممارسة هذا الفعل من عنف متعدد الأبعاد يسلط على الفرد أو حتى بعض المجموعات. من هذا المنطلق السابق يعتبر الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو أحد أبرز المفكرين الذين درسوا ظاهرة الإبعاد في كتابه : ” المراقبة والمعاقبة ولادة السجن “، حيث اعتبر أن المبعد في نظر السلطة شخص شاذ ومريض، لأن وجوده بالنسبة لها يشكل خطرا محدقا بالمجتمع الذي تتولى الدولة مهمة الإشراف على ضمان نقائه . لذلك تقوم بإبعاده أو عزله حتى لا تنتقل عدواه إلى بقية أفراد المجتمع، ويشير ميشيل فوكو في هذا الصدد إلى نفس المعنى، حيث تتخذ السلطات تجاه مجرمي الحق العام نفس الإجراءات ويقارنهم بالمصابين بالجنون أو الأمراض الخطيرة المعدية . هذا الموضوع الاستشكالي اهتم به المؤرخون الذين حاولوا في البداية دراسة وبحث بعض القضايا ذات العلاقة بعمليات القمع والاضطهاد التي عرفتها العديد من المجتمعات، وركزوا بشكل أساسي على الممارسات التي قامت بها السلطات الاستعمارية ضد السكان الأصليين في مستعمراتها، حيث برزت بعض البحوث والدراسات التي تناولت بعض أوجه السياسة العقابية بالتركيز، خاصة على بعض الأساليب المعتمدة – قبل ممارسة العقوبات الإدارية أو القضائية – كالتعذيب وعمليات الاغتصاب … وقد برزت هذه الظاهرة، خاصة عند بعض الأوساط الأكاديمية الفرنسية، أو عند بعض الجزائريين المقيمين في فرنسا، هذه الأوساط حاولت الغوص في قاع “العار” الفرنسي بالجزائر ( دون الاهتمام بما جرى بالمستعمرات الأخرى أو حتى الإشارة إليها). ورغم أهمية ذلك إلا أن الأمر يظل محدودا بالنسبة للفترة التاريخية المدروسة، حيث وقع التركيز على فترة الثورة الجزائرية (1954 – 1962) دون غيرها من الفترات، أو من خلال التركيز على جانب من العنف دون تناول الجوانب الأخرى. إن بعض تلك الكتابات ومن منطلقات علمية جريئة، ساهمت في حدود معينة في إبراز الوجه الشرس والبشع للاستعمار، الذي حاولت السلطات الوطنية وفي إطار ” صفقات سياسية مشبوهة ” أن تسكت عنه، وفي أحسن الأحوال أن تعتبره من الملفات المؤجلة التي يمكن توظيفها في الأوقات المناسبة. حيث ساهمت بوعي أو بدون وعي بتمرير بعض الآراء والأفكار التي حاولت أن تبرز الوجه “الإنساني” للاستعمار وذلك من خلال حديثها عن القوانين والإجراءات الإنسانية التي رسختها وكذا الإنجازات الاقتصادية التي حققتها الإدارة الاستعمارية في تلك المجتمعات. لقد مارست السلطات الاستعمارية الفرنسية المدنية والعسكرية في تونس، المغرب، الجزائر وغيرها من المستعمرات الإفريقية، عنفا متعدد الأبعاد ضد السكان والوطنيين ولم يتمظهر ذلك العنف ضد الأنشطة الوطنية العفوية منها أو المنظمة، بل يمثل مكونا أساسيا للإيديولوجيا والممارسة الاستعمارية، وقد يتخذ هذا العنف طابع الحدة أحيانا والشمولية أحيانا أخرى، ولكنه في الغالب يسري في ثنايا الحياة اليومية للسكان الأصليين في علاقتهم بالإدارة والأجهزة والمستوطنين وكل الممارسات المفروضة ضد إرادتهم وكرامتهم وثقافتهم . من هنا تكمن أهمية دراسة كتاب الأستاذ عبد اللطيف الحناشي أستاذ التاريخ السياسي المعاصر والراهن بجامعة منوبةبتونس والمعنون ب : ” المراقبة والعقاب بالبلاد التونسية: الإبعاد السياسي أنموذجا 1881- 1955، (جدلية الاضطهاد والمقاومة) “، والذي في الأصل أطروحة دكتوراه الدولة في التاريخ، تحت إشراف الدكتور عبد الجليل التميمي، وصدرت عن منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس سنة 2003 . فتح الأستاذ عبد اللطيف الحناشي من خلال دراسته حول الإبعاد السياسي بتونس خلال الفترة الممتدة من 1881 إلى 1955 بابا واسعا للنبش في التاريخ السياسي المعاصر لتونس المستعمرة، هذه الأخيرة عرفت مثل هذه العقوبة حتى قبل انتصاب الحماية الفرنسية، بل كانت تمثل إحدى أهم العقوبات التي تضمنها قانون الجنايات والأحكام العرفية الذي صدر منذ سنة 1860، ورغم الانتقادات التي كانت توجهها القوى الأوروبية لسلطات البايات حول ممارسة هذه الأخيرة للإبعاد السياسي، إلا أن الاستعمار الفرنسي بتونس عن طريق مختلف أجهزته العسكرية والأمنية والسياسية، أخذ يمارس تلك العقوبة بشكل واسع خلال جميع مراحل سيطرته على البلاد . حيث اعتمدت السلطات الاستعمارية الفرنسية عدة طرق ووسائل بغية تحقيق أهدافها الاستعمارية، وتبعا لذلك كانت بحاجة إلى سياسة عقابية حازمة وصارمة، تؤمن لها تلك الأهداف وذلك من خلال ترويض أو ترهيب أو قمع كل الذين يحاولون مخالفة سياستها أو فضحها أو مقاومتها قولا أو فعلا، بشكل فردي أو جماعي، علني أو سري، ومارست سياستها تلك استنادا إلى الإيديولوجيا الاستعمارية ونظرتها الدونية للآخر، وما تراكم من خبرات وتجارب في هذا الميدان في مناطق جغرافية … ولا شك أن دراسة تلك السياسة والكشف عن أسسها القانونية والفكرية وإبراز طرق وآليات تنفيذها وتحليل مجمل مكوناتها، سيساعدنا حتما على تحديد مدى نجاح السلطات الاستعمارية في التحكم في النشاط الوطني العام وتوجيهه، وذلك بالتوازي مع درجة وعي المناضلين بتلك السياسة وآليات ممارستها، وبالتالي مدى استعدادهم للتفاعل مع نتائجها المحتملة من ناحية، ومن ناحية أخرى فضح وبلا تردد ما تدعيه من مزاعم حول احترامها لحقوق الإنسان . لقد حاول ذ- عبد اللطيف الحناشي خلال هذه الدراسة تتبع مكونات وأسس عقوبة الإبعاد وتفكيك آلياتها ومرتكزاتها الفكرية والتطبيقية ودرجة ممارستها طوال فترة الحماية الفرنسية بتونس إلى إلغاء العمل بقوانين فرنسا بالبلاد التونسية. وارتكازا على هذا المعطى تكتسي دراسة مضامين وتقنيات السياسة العقابية عامة وذات الطابع السياسي خاصة أهمية معرفية بالغة، إلا أنها ورغم ذلك ظلت بمنأى عن اهتمام الباحثين والدارسين التونسيين والأجانب المهتمين بتاريخ تونس المستعمرة. تكمن أسباب اختيار ذ- الحناشي دراسة الإبعاد السياسي دون غيره من العقوبات إلى العوامل التالية : • كان الإبعاد – بمختلف أشكاله – من أولى العقوبات التي مارستها قوات الاحتلال الفرنسي ضد أفراد القبائل التونسية التي تصدت لها بالشمال الغربي، كما كان أول عقوبة مارستها السلطات المدنية تجاه أول تحرك سياسي اجتماعي “مديني” بالبلاد، ورغم انقطاع الطابع العسكري للإبعاد لصالح المدني، إلا أن النوع الأول كان يعاد العمل به في حالة الحصار عادة . • موقع الإبعاد في السياسة العقابية الفرنسية، حيث كان يمثل أحد أهم عناصر الضغط السياسي والقانوني الأقل تكلفة، وهو من أكثر العقوبات التي يكمن للسلطات أن تمارسها بدون الرجوع إلى السلطة القضائية، بل إن الإدارة لا تجد أي نوع من الحرج في تقديم مشاريع أوامر وقرارات الإبعاد للباي للتوقيع عليها بهدف إبعاد الوطنيين، وذلك عندما تخونها القوانين وحتى تلك التي وضعتها بنفسها. • ارتفاع وضخامة عدد الوطنيين الذي كانوا ضحية هذا الإجراء أو العقوبة وتنوع الانتماءات الجهوية والاجتماعية والسياسية والثقافية لهؤلاء . • عمق تأثيرات عقوبة الإبعاد على تطور الحركة الوطنية، سواء من حيث التنظيم والإشعاع، أو من حيث التأثير على مضمون الأطروحات والبرامج . • عدم تطرق البحوث والدراسات التاريخية لهذا الموضوع، ومن تناوله من الباحثين كظاهرة – على قلتهم – فقد كانت معالجتهم لهذا الموضوع محدودة جدا، وتشكو العديد من الثغرات المنهجية والمعرفية. انطلاقا من ذلك حاول ذ- الحناشي أن يعالج موضوع الإبعاد السياسي بالبلاد التونسية من منظور مختلف شكلا ومضمونا واعتبار عقوبة الإبعاد تمثل أحد أهم أسس السياسة العقابية التي استخدمتها السلطات الفرنسية ضد الوطنيين التونسيين خلال جميع فترات هيمنتها، كما ارتكزت معالجة ذ- الحناشي على تحليل تلك الممارسة العقابية ليس باعتبارها عقوبة أو إجراء مجردا، بل كتقنية عقابية بأبعادها ووظائفها السياسية والاجتماعية المختلفة، وما تتولد عنها من انعكاسات مختلفة، وأيضا مفاعيلها الإيجابية التي لم تكن في الغالب منتظرة : فإذا كان اتخاذ إجراء الإبعاد مؤشرا على تأزم الأوضاع السياسية والاقتصادية بالبلاد، وتعبيرا عن عجز السلطات، في كثير من الأحيان على ضبط الوضع السياسي وخاصة ضبط نشاط الوطنيين بالطرق التقليدية المعهودة، فإن اتخاذ إجراء الإبعاد وممارسته في هذه الحالة، يمثل ذروة درجات العقاب التي تسعى السلطة من ورائه إلى عزل من تصفهم ب “المرضى” أو “المشاغبين”، إلا أن ما تسعى إليه إدارة الحماية شيء وإرادة الوطنيين شيء آخر . تأسيسا على ما سبق، تمكن ذ- الحناشي في كتابه من معالجة وتفكيك مجموعة من الإشكاليات الأساسية والفرعية أهمها : • ما هي أبرز الأسس القانونية للإبعاد، وأي موقع احتله في مجمل سياسة الردع الفرنسية المعتمدة في تونس ؟ • ماهي أبرز مواصفات تقنيات الإبعاد ومدى تأثيرها على المبعدين ؟ • ما هي حدود ممارسة سياسة الإبعاد في مواجهة مختلف النضالات الوطنية ؟، وما هي أبرز المواصفات الاجتماعية والسياسية للمبعدين ؟ • إلى أي مدى انعكست عقوبة الإبعاد الفردية والجماعية على تطور الأحزاب السياسية ؟.