حسنا فعل الفريق الفيدرالي داخل مجلس المستشارين حينما نجح في إدخال تعديل على مشروع قانون المالية لسنة 2012 يقضي بفرض ضريبة تضامنية على الثروة وتم تبنيه من طرف لجنة المالية، ذلك أنه أحرج حكومة «العدالة والتنمية» التي مافتئت تردد منذ تعيينها على إرادتها القوية في إرساء العدالة الاجتماعية وإنصاف الفئات المحرومة والمهمشة والحد من الفوارق الطبقية، كما رفع طابوها كان سياسيونا لا يجرؤون على الاقتراب منه ولو على سبيل الترف الفكري، وتبقى قيادة حزب التقدم والاشتراكية الخاسر الأكبر من هذه المبادرة الشجاعة التي ضربت مصداقيتها في الصميم ذلك أنها التزمت أمام المواطنين بتطبيق ضريبة على الثروة وأخرى على الإرث كإجراءات ذات أولوية ضمن برنامجها الانتخابي للحملة التشريعية الأخيرة (نوفمبر 2011 )، وقد استبشر عدد من المناضلين التقدميين خيرا بهذه المبادرة التي ذكرتهم بمقترح قانون الذي سبق لحزب التقدم والاشتراكية أن قدمه في أواخر السبعينيات من القرن الماضي إلى البرلمان المغربي والذي كان يرمي إلى سن ضريبة على الثروة كإجراء ضروري للحد من التفاوتات الطبقية والاستقطاب الاجتماعي وإرساء قواعد العدالة الجبائية وتشجيع الاستثمار المنتج عوض تجميد الأموال في ممتلكات ذات طابع ريعي لايستفيد منها المجتمع. كما تفاءلت عدد من الأوساط بهذا الالتزام من حيث إنه يعيد الاعتبار لقيم العدالة الاجتماعية والمساواة والاصطفاف إلى جانب الفئات الاجتماعية المستغلة والمهمشة التي كانت تميز الهوية الإيديولوجية لحزب التقدم والاشتراكية وخطه السياسي اليساري التحرري والمناهض للاستغلال الرأسمالي للإنسان، غير أنه مع تشكيل الحكومة وصياغة البرنامج الحكومي، لم يرد أي ذكر لهذا الالتزام الأخلاقي الذي قطعته قيادة الحزب على نفسها أثناء الحملة الانتخابية وجندت له أقلاما، دافعت عنه على صفحات جريدتي الحزب. الأنكى من هذا هو أن الفريق الديمقراطي الذي يمثل الحزب داخل مجلس المستشارين لم يجد أي غضاضة في التصويت إلى جانب الفرق الأخرى المساندة لحكومة «العدالة والتنمية» ضد التعديل المقدم من طرف الفريق الفيدرالي والقاضي بسن ضريبة تضامنية على الثروة! فماهي المبررات التي قدمتها هذه الفرق لرفضها لهذا المقترح الجريء؟ وكيف نفسر هذا التناقض والتضارب اللذين طبعا موقف حزب التقدم والاشتراكية إزاء هذا الموضوع المرتبط ارتباطا وثيقا بمبادئ العدالة الاجتماعية والضريبة ومحاربة اقتصاد الريع؟. قبل الإجابة عن هذين السؤالين، لابد من التذكير أن الضريبة على الثروة تعتبر حسب د. محمد العمر (انظر مقالته على الأنترنيت حول أنواع النظم الضريبية) «من الضرائب المباشرة على الرصيد من الموارد الاقتصادية المملوكة في لحظة زمنية معينة. وتفرض هذه الضرائب إما على أساس حوزة هذه الثروات في شكل ملكية ، مثل الضريبة على الملكيات والضريبة على صافي الثروة. وإما أن تفرض على أساس انتقال هذه الثروات من شخص لآخر. وتفرض الضريبة على صافي الثروة على الأشخاص الطبيعيين (وليس الاعتباريين) وتطبق على صافي القيمة الكلية للأصول الثابتة والمنقولة. ويتضمن ذلك مجموع الأصول الثابتة والمنقولة، مثل الأموال العقارية، والحسابات الجارية، والودائع في البنوك، والأوراق المالية وتخصم منها الالتزامات على هذه الأصول، مثل الديون التي للغير». هناك عدة مبررات لرفض سن ضريبة على الثروة تم تقديمها من طرف الأغلبية الحكومية وأصحاب المال والأعمال، وهي كالتالي : التحامل على النجاج والاستحقاق الذي يحققه البعض في المجتمع، إضعاف قدرة الاقتصاد المغربي على جلب الاستثمارات الأجنبية، تشجيع تهريب رؤوس الأموال إلى الخارج..إلخ. فيما يخص المبرر الأول، ينبغي الإشارة إلى أن الهدف من إقرار الضريبة على الثروة ليس التشهير بالأغنياء أو المس بالنجاح الفردي، بل هو أولا إبراز لحقيقة مفادها أن الثروات التي تم تكديسها منذ الاستقلال إلى الآن ليست ثمرة لمجهود أصحابها فقط، بل هي عملية جماعية لعبت فيها الدولة دورا حاسما عبر آليات السياسات العمومية، كالحماية الجمركية والمغربة والخوصصة وتخفيض الضريبة على رأس المال والإعفاءات والامتيازات الضريبية الأخرى، والصفقات العمومية وسياسة الأجور المنخفضة والقروض البنكية المقدمة بسخاء والأراضي والضيعات المحولة للخواص بأثمنة أقل بكثير من قيمتها في السوق، ألخ، كما إن تكوين هذه الثروات جاء نتيجة تضحيات المجموعة الوطنية من أجل توفير البنيات التحتية الضروية للإنتاج وللتراكم الرأسمالي. من هنا جاء استنتاجنا الثاني بشرعية مطالبة الفئات الغنية في المجتمع بالمساهمة حسب قدرتهم على دفع الضريبة في تحمل أعباء العيش المشترك وإرساء حد أدنى من الاستقرار الاجتماعي والسياسي، خاصة وأن الفئات المهمشة والمحرومة من شعبنا التي تتحمل عواقب وآثار الأزمة الخطيرة والعميقة للرأسمالية المعولمة على المغرب، ولابأس من التذكير في هذا الصدد بأن الفصلين 39 و 40 من الدستور الجديد ينصان أنه :« على الجميع أن يتحمل كل على قدر استطاعته. التكاليف العمومية... وعلى الجميع أن يتحمل، بصفة تضامنية وبشكل يتناسب مع الوسائل التي يتوفرون عليها، التكاليف التي تتطلبها تنمية البلاد..». أما الادعاء بأن فرض ضريبة على الثروة سيشجع المستثمرين الأجانب على العزوف عن توظيف أموالهم بالمغرب، فإنه لا يصمد في وجه التحليل الموضوعي، ذلك أن ما يتحكم في قرار الاستثمار من طرف رأس المال المتعدد الجنسيات في بلد ما بالدرجة الأولى هو توفر هذا البلد على بنيات تحتية عصرية ومتطورة ووجود يد عاملة مؤهلة وحركية اقتصادية واعدة ونسيج صناعي محلي فعال. في حين تأتي التحفيزات المالية والضريبية في مرتبة أقل، وهذا هو ما يفسر أن بلدانا كفرنسا والهند مثلا تتمتع بجاذبية كبيرة للاستثمار الأجنبي رغم فرضها لضريبة على الثروة بالنسبة للأغنياء. أما فيما يخص احتمال تهريب أموال إلى الخارج لتفادي أداء الضريبة على الثروة، وإن كان واردا، إلا أنه لا يجب أن يحجب عنا أن هذه الظاهرة تكاد تكون هيكلية في الاقتصاد المغربي ومرتبطة بسلوك عدد من الفاعلين الاقتصاديين. فحسب تقديرات عدد من المؤسسات الدولية (من بينها البنك العالمي وصندوق النقد الدولي) بلغت التحويلات المالية غير القانونية إلى خارج المغرب خلال المرحلة مابين 1970 و 2004 25 مليار دولار ، أي بمعدل 735 مليون دولار سنويا. وترجع هذه السلوكيات والممارسات إلى العديد من العوامل، منها انعدام الثقة في الاقتصاد الوطني ومستقبله والخوف من اللااستقرار السياسي وضعف الوطنية الاقتصادية عند بعض الفاعلين الاقتصاديين، وكذلك البحث عن مشاريع ذات ربحية سريعة ومضمونة. على مستوى آخر، وخلافا لادعاءات بعض أعضاء الحكومة الحالية حول تخلي عدد كبير من الدول عن الضريبة على الثروة، تبين المعطيات المتوفرة أن البلدان التالية تفرض كلها ضريبة على الثروة التي تملكها الفئات الميسورة : فرنسا، فنلندا، إسلاندا، اللوكسمبورغ، النرويج، السويد، سويسرا، كما أن إسبانيا أعادت العمل بالضريبة على الثروة لسنتي 2011 و 2012، وذلك بعد أن قامت بإلغائها سنة 2008، وقد بررت هذا القرار بضرورة مساهمة الأغنياء في تقليص عجز الميزانية العامة للدولة وتحمل جزء من مخلفات الأزمة الاقتصادية والمالية الخانقة، كما أن النقاش العمومي حول جدوى تطبيق ضريبة على الثروة بدأ يأخذ مجراه في دول مثل الولاياتالمتحدة وإيطاليا ، إن بداخل المحافل الأكاديمية أو وسط الرأي العام. ويبدو هذا المنحى طبيعيا بالنظر إلى الأزمة العميقة للرأسمالية المعولمة وانعكاساتها على الفئات الاجتماعية المتوسطة والمستضعفة والاتساع المهول للفوارق الطبقية من جراء السياسات النيوليبرالية المتبعة في هذه البلدان منذ ثمانينيات القرن الماضي والتي أغدقت الهدايا الضريبية للرأس مال وللفئات الميسورة ودفعت بذوي الدخل المتوسط والصغير إلى الاستدانة المفرطة في محاولة للحفاظ على مستوى عيشهم، مما نجم عنه تصاعد الحركات الاجتماعية والاحتجاجية والمطالبة بالعدالة الاجتماعية وإعادة التوازن للمجتمع حفاظا على انسجامه وتماسكه. نأتي الآن إلى السؤال الثاني الذي طرحناه والمتعلق بمحاولة فهم أسباب وأبعاد تملص قيادة حزب التقدم والاشتراكية من الالتزامات التي قطعتها على نفسها أمام الناخبين والناخبات والتي بلغت حد الانقلاب على بعضها والتنكر لها بالتصويت ضد فرض ضريبة على الثروة كإجراء تعديلي لمشروع ميزانية 2012 إن هذا التذبذب في المواقف راجع أولا وقبل كل شيء إلى التصدع الذي أصاب المرجعية الفكرية والإيديولوجية للحزب بعد سقوط جدار برلين وتحول العديد من قيادييه إلى الفكر الليبرالي الاجتماعي القاضي بضرورة التكيف مع العولمة النيوليبالية وتبني العديد من الوصفات الجاهزة والمقولات التي تروج لها المؤسسات المالية الدولية، كالحكامة الجيدة والخوصصة وشبكات الأمان الاجتماعي والعولمة «السعيدة» والتنافسية ومرونة سوق الشغل ، إلخ مقابل ذلك تم نبذ العديد من المفاهيم التي كانت تؤثث الخطاب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية كالطبقة العاملة والطبقات الاجتماعية والصراع الاجتماعي والطبقي والجماهير الشعبية والقطاع العام والتصنيع والثورة الوطنية الديمقراطية... في ظل هذا الانعطاف الليبرالي اليميني، لا يمكن فهم المبادرة باقتراح سن ضريبة على الثروة من طرف قيادة الحزب إلا كمحاولة للركوب على موجة الحركات الاجتماعية والربيع العربي لإعادة شيء من البريق إلى خطاب سياسي مترهل تجاوزته الأحداث. أما العامل الثاني الذي يدفع الملاحظ إلى التشكيك في جدية وصدقية التزام هذه القيادة بوعدها هذا، فيمكن في التحول العميق الذي حدث على التركيبة الاجتماعية للحزب بتغلغل ما يسمى بالأعيان داخل صفوفه وتحكمهم في هياكله في تحالف وثيق مع بعض أعضاء هذه القيادة، مما يجعل من المستحيل تمرير أي إصلاح يهدد مصالحهم الطبقية الضيقة .. وهذا ما يفسر السرعة التي تجاوب بها الفريق التقدمي الديمقراطي بمجلس المستشارين مع قرار الأغلبية الحكومية بالتصويت ضد التعديل المقدم من طرف الفريق الفيدرالي لفرض ضريبة على الثروة. إن هذا التخبط والتضارب في المواقف يكاد يصبح عادة ملازمة للأداء السياسي لقيادة حزب التقدم والاشتراكية ويحيل إلى نوع من السكيزوفرينيا (مرض انفصام الشخصية)، ألم بجزء من الطبقة السياسية وجعلها تفقد الكثير من مصداقيتها ، فعلى سبيل المثال لا الحصر، أعلنت هذه القيادة تصميمها على محاربة اقتصاد الريع، لكنها سارعت إلى التنديد بنشر لائحة المستفيدين من المأذونيات من طرف حليف لحزب التقدم والاشتراكية داخل نفس الحكومة لا لشيء إلا لأنها ضمت اسم عضو من مكتبه السياسي، وعلى نفس المنوال، تدعي هذه القيادة الدفاع عن حقوق المرأة وقضية المساواة بين الجنسين، وتقبل بأن يتم تهميش هذه الإشكالية المجتمعية الاستراتيجية، إن على مستوى التصريح الحكومي أو في التشكيلة الوزارية. خلاصة القول إن التناقض الذي ميز أداء الحزب في تدبيره لملف الضريبة على الثروة أضر كثيرا بمصداقيته، وسيؤدي إلى عزله أكثر عن اليسار المغربي وعن باقي قوى التغيير والحركات الاجتماعية. سعيد السعدي