الحياة اليومية هي معيشنا الذي نرتكبه ونفعله ونصنعه وننتجه ونستهلكه وننسج بشأنه علاقات كل يوم. هي ما تمور به ساعاتنا منذ أن نفتح عيوننا على شمس يوم جديد. لذلك فإن أكثر من نصف هذه الأعمال تشكل نسخة طبق الأصل مما قمنا به في زمن سابق يدعى الأمس. وهي تثبيت لأعمال أخرى سنقوم بها ونكررها في يوم قادم يسمى غدا. ومتى دار هذا الكوكب -الذي يجمعنا- حول نفسه، سنتماهى أيضا مع نفس الحركة. على امتداد يومنا هناك المئات من الأشياء المألوفة، التي ترتبط ببعضها البعض وتتحول إلى شريط مسترسل لا يتوقف. أشياء بسيطة نقوم بها أو يقوم بها آخرون، قلما نلحظها لأنها تتكرر، حتى أن فعلها لا يكون صادرا عن الذات الواعية، وإنما يتمثل كفعل مستقل ينتج نفسه ويتفاعل مع باقي الأحداث في سيرورتها. مجمل هذا المألوف هو ما يشتغل عليه عينة من السوسيولوجيين، بل بات فرعا مستقلا من علم الاجتماع يعنى بالحياة اليومية. وهو يحاول الانكباب على دراسة مجمل السلوك والإنتاج اليومي للبشر (اجتماعيا وسياسيا وثقافيا وفكريا واقتصاديا...) بما في ذلك التافه والعادي، الذي يحول رموزه وإشاراته إلى قواعد أساسية للحياة من خلال تفكيكها وتحليلها والبحث عن مرجعيتها. لذلك فإن «التفاهة»، التي تصنع اليوم في مواقع التواصل الاجتماعي وكل ما تشمله التكنولوجيا الحديثة هي موضوع للدرس، تضعنا زمنيا في حقبة شبيهة بعصر الانحطاط الأدبي، لعلنا نسميه اليوم عصر الانحطاط «الاستهلا-كولوجي»، أي عندما تصبح التكنولوجيا وسيلة يومية لاستهلاك التفاهة وإنتاجها لأسباب اجتماعية قد تتعلق بالحضور والبريستيج والانتشار، أو لأسباب مادية تتعلق بتحقيق أرباح مالية. لكن بأي مقياس يمكن أن نفرق بين سلوك تافه وآخر غير ذلك؟ وكيف نعرف هذا التافه؟ هل هو شيء هامشي لا يعتد به، أم أنه ضد كل سلوك محسوب وعقلاني، أم أنه ببساطة شيء لا أهمية له وغير ذي قيمة؟ من الحمق القول إنه علينا استخلاص شيء من دراسة هذه التفاهة (!) لكنها الحقيقة التي يجب أن تقودنا إلى معرفة: لم نحن أو بعضنا تافه، ويعيش من تفاهته، ويريد أن يصنع مجالا تافها يثبت وجوده، ويعمل على توريث هذه التفاهة للأجيال القادمة؟ الحياة التافهة «داخل» وسائط التواصل الاجتماعي هي امتداد لواقع معين أو لجزء منه. وهي لا تنقل سلوكا تافها فقط، بل هي تحول الجمهور الوفي لهذا السلوك إلى قاعدة جماهيرية تافهة يستمد منها الفعل التافه قيمته وجدواه، وكلما توسعت هذه القاعدة، كلما خلق هذا الفعل فضاء مؤسسا له ينافس من خلاله باقي الفضاءات التي تستوعب أشكالا أخرى للتعبير والتواصل، وينسف الحدود التي تفصلها. تنبهنا التفاهة أحيانا إلى أشياء ذات أهمية أهملناها، وقد تنبهنا إلى تفاهتنا أحيانا أخرى.