علينا أن نتحلى بأعلى درجات الواقعية، لنعترف بأن من يحكم فعلاً اليوم هو "نظام التفاهة" بتعبير الفيلسوف الكندي آلان دونو، فقط هي التفاهة التي تتحدر من أنظمة الاستبداد العسكرية والأيديودينية، وتدين بالوجود والامتداد لثقافة الاستهلاك التي تدعمها الليبرالية المتوحشة، هي التي تتفوق على كل الأجهزة الحاكمة، فالميديوقراطية mediocratie هي التي تتسيد الموقف، وتقود المجتمعات نحو هاوية السطحية والضحالة واللا معنى. هنا والآن، ليس مهماً أن تكون "مثقفاً ألمعياً" ولا "مناضلاً نقياً" لكي يُعترف بك، ويُسْتَدَلَّ بك وعليك في سِجلَّيْ الميديا والميديو. فالأهم من ذلك كله أن تكون تافهاً سطحياً، من دون أفق سياسي ولا خلفية أيديولوجية ولا انهمام إنساني، فمن يفوز في هذين السجلين هو من يحصد ملايين اللايكات والمشاهدات ممن يصنعون "البوز" عن طريق الفضائحية والبؤس القيمي، ذلكم هو "العَلَّامة" و"الفَهَّامة" في نظام التفاهة السائد. هنا والآن، ليس مهما أن تنسجن لسنوات طويلة، وتؤدي الثمن غالياً دفاعاً عن حلم سياسي باذخ، وليس ضرورياً أن تُجهد نفسك بالقراءات والكتابات المتواترة أملاً في الترافع بشأن أطروحة فكرية بحثاً عن المعنى. ولا أن تُمضي عمرك كله في أقبية المختبرات، لتركيب المعادلات وإجراء التجارب لإنتاج نظرية علمية أو صناعة عقار يخلّص الإنسانية من آلامها. كل هذا لن يقابل ب"الاعتراف" نفسه والاحتفاء الذي يكون من نصيب "نجوم" نظام التفاهة الذين يحكمون العالم ويقودونه نحو ما تقتضيه مصالحهم ومصالح من يقف وراءهم. في هذا الصدد يقول آلان دونو بأن "التافهين ربحوا الحرب، وسيطروا على عالمنا وباتوا يحكمونه. فالقابلية للتعليب حلَّت محل التفكير العميق"، ولهذا يوصينا هذا الفيلسوف الكندي بنبرة لا تخلو من"كوميديا سوداء"، قائلاً: "لا تقدم أي فكرة جيدة فستكون عرضة للنقد، لا تحمل نظرة ثاقبة، وسع مقلتيك، أرخِ شفتيك، فكّر بميوعة وكن كذلك، عليك أن تكون قابلاً للتعليب، لقد تغير الزمن، فالتافهون قد أمسكوا بالسلطة". على كل رافض لِوَسْمِ عصرنا هذا بالتفاهة أن يلقي نظرة خاطفة على استعمالات يوتوب لدى ربات البيوت المغربيات، من خلال العدوى المنتشرة حالياً تحت اسم "روتيني اليومي"، فالبحث عن الشهرة والانشغال بحصد اللايكات والمشاهدات لأجل حصد الدولار نهايةً، دفع بكثير من النسوة إلى"استعراض أشغال البيت" ولِمَ لا ممارسة نوع من "الاستعراء الجنسوي" أيضاً، في سباق محموم لا يُفهم منه سوى"انتصار" عصر التفاهة والتسطيح. والنتيجة أن نجمات "روتيني اليومي" هن الأكثر شهرة ومتابعة من كل المغربيات اللواتي حققن التميز والشموخ في مسارات العلوم والآداب والفنون والسياسة والاقتصاد، وأن ما تتحصل نجمات التفاهة مادياً وحتى رمزياً، لن تحققه أبرز قاصة أو روائية مغربية لن تتجاوز مبيعات أعمالها 500 نسخة في أفضل الأحوال، فيما الأخريات يحظين بالمتابعات المليونية والمداخيل الخيالية. فلا حديث في المغرب إلا عن "الروتين اليومي" لربات البيوت، وهن يعدن إنتاج صورة نمطية عن المرأة حيث لا مكان لها إلا في دائرة الطبخ "والشقاء المنزلي"، لا حديث في المغرب وخارجه إلا عن تسليع للجسد الأنثوي و"اغتصاب" لحقه في التحرر من لعنة الروتين اليومي الذي أنتجته الميديوقراطية وعضدته قيم الاستهلاك والتوحش الرأسمالي. فلا يمكن فصل ما يحدث في يوتوب عن "الروتين السياسي" العام الذي يسعى لاستبعاد الفكر والثقافة من خارطة الانشغالات المواطناتية. لا بأس أن نعيد النظر في تعريف التفاهة، حتى نقترب من شروط إنتاج نظامها وتسييده عالمياً، فالتفاهة تدل على انتفاء القيمة. فالتافه هو الضعيف والمعدوم القيمة والصلاحية، ومنه نقول تَفِهَ الطعام أي صار بلا طعم، وتَفِهَ الرجل أي فقدَ قيمته وبات بلا عقل، وتَفِهَ العمل بمعنى حقرت قيمته ومكانته. فالتفاهة تدل على"الحضيضية" في الوقائع والأشياء، ونظامها المتسلط سيستهدف تحديداً إفراغ المجال العام من معناه الثوري الراغب في التغيير، لأنه يرنو إلى إنتاج "وعي مُعلّب" لا ينشغل أصحابه بالاحتجاج ولا المطالبة بإعادة توزيع الثروة، والمشاركة في صناعة القرار، فلا هَمَّ لهم سوى ترقب من يرتقي في الطوندونس "tendances" ويفوز في التالانت "talents"، وما يستجد في الفضائحيات التي لا تنتهي. لا سبيل إلى المزيد من التحكم في مصائر الشعوب إلا بتكريس التفاهة والرداءة، فالشعوب التي تنشغل أكثر فأكثر ب"البوز" و "تلفزة الواقع" وأخبار النجوم و"الروتين اليومي"، هي ذاتها الأكثر جُهُوزِية للانقيادية السلسة وللهتاف بحياة الجلادين مهما أمعنوا في التنكيل بها. وعليه فإن "ضجيج" التفاهة الذي تسعى بنيات الاستبداد لجعله الأعلى صوتاً ومكانةً في تدبير اليومي العربي لا يمكن أن يواجه إلا بحرية الفكر والعلم، الحرية ذاتها التي تعيد إلى المثقف حضوره وتبعد عنه شرور الإقصاء أو الاحتواء والتزييف.... هنا والآن يحضرنا المثل الفرنسي الذي يقول: "من يدفع أتعاب الفرقة الموسيقية هو الذي يختار نوع المعزوفة"، فمن يتحكم في وسائل الإنتاج والإكراه هو الذي يحدد محتوى"الروتين اليومي" للمواطنين، ما بين أن يكون مفتوحاً على التدافع السياسي والتناظر الفكري والإبداع الفني، وأن يكون متصلاً بالتفاهة والرداءة والفراغ. ... فالتفاهة تقود إلى إنتاج شعوب "مُستقيلة" غير منشغلة بالصراع السياسي، فقط همها الأساس هو: هل قامت المغنية الفلانية بالشفط أو الزرع؟ وهل تزوج الممثل الفلاني أم طلّق؟ وهل قامت نجمة يوتيوب بالطبخ أم التصبين في إطار "الروتين اليومي"؟