رفض وتوتر و تخوين وسب وشتم والتباس في المفاهيم ... هكذا تبدو طبيعة الكثير من النقاشات التي تشعل مواقع التواصل بين حين وآخر، ولعل أخذ مسافة بسيطة من كل هذا الكم من "الغليان الافتراضي" يجعل المتتبع يلمس بسهولة تشابك الخيوط بين ما هو تاريخي وما هو حاضر، بطريقة تجرف بعض النقاشات نحو الباب المسدود، بينما تضعك أخرى أمام سيل من علامات استفهام ظلت معلقة رغم المحاولات الجادة لعدد من المفكرين من تقديم إجابات يبدو أنها لم تتمكن بعد من شق طريقها إلى ناشئة تتلمس بناء قناعات سياسية ودينية وحقوقية من "معرفة افتراضية" بعد أن تراجعت المدرسة عن دورها في أن تكون الحاضن الأول لهذه التساؤلات. المفكر والمؤرخ امحمد جبرون، يوضح لنا بميزان المشتغل على التاريخ للناشئة وقضايا تطور الفكر السياسي الإسلامي، بعضا من أسباب هذا التخبط الذي تكشفه نقاشات الشباب الافتراضية. يشكل التاريخ مجال اشتغالكم، ومن المؤكد أنكم تلمسون من خلال تواجدكم على مواقع التواصل شحنات من التوتر خلال مناقشة العديد من المواضيع، هل تعتقدون أن الجهل بأصل الأشياء يؤجج أجواء الرفض بالنسبة للبعض؟ - فعلا، هناك مشكلة حقيقية يعاني منها العديد من المغاربة وخاصة الشباب، يمكن الاصطلاح عليها بأزمة الوعي التاريخي، وتتمثل في أن الكثير من القضايا المثارة اليوم والتي لها امتدادات تاريخية، لا يجد هؤلاء الشباب أثناء معالجتها والتعامل معها الموارد التاريخية والثقافية التي تسعفهم في تقديم إيجابات وحلول مناسبة ومتوازنة لها، الشيء الذي يزكي الانقسام والنزاع ليس فقط في وسائل التواصل الاجتماعي بل وخارجها، وفي بعض الأحيان بين عناصر يحسبون على النخبة. إن هذه الأزمة تذكرنا بالحاجة الماسة لإصلاح الدرس التاريخي في المدرسة، وإعادة الاعتبار للثقافة التاريخية في الإعلام ووسائل التنشئة بشكل عام، فبدون هذه الإصلاحات سيستمر هذا التنازع وهذا الصراع. في ظل سطوة مواقع التواصل وما تسببه من تشتت في استقاء المعلومات، أصبح من السهل انجراف الناشئة نحو نبرة التعصب التي يسهل التأثر بها تحت غطاء شعبوي، بما أنكم توجهتهم بالكتابة لهذه الفئة، ما هي الوسيلة التي تعولون عليها لربط جسر مع اليافعين حتى يتمكنوا من التفاعل مع تاريخهم بعيدا عن ثنائية الحفظ والاستظهار؟ - كما أسلفت القول، إن الاهتمام وإصلاح الدرس التاريخي في المدرسة أولوية قصوى لتمكين الشباب والناشئة من وعي تاريخي إيجابي وفعال مناسب للظرف الذي يعيشه بلدنا، ولا يمكن الرهان في هذا السياق على درس متجاوز واقعيا. ومن جهة ثانية، إن الدرس التاريخي الذي يتوخى بناء وعي تاريخي لا يعول على الحفظ والاستظهار بقدر ما يعول على منهجية التفكير التاريخي، والتي يجب أن تكون الكفاية الأساس في تدريس التاريخي، فتمكين المتعلمين من منهجية التفكير التاريخي القائمة على التحليل والتفسير، والاستشكال، والتركيب.. من شأنه أن تحرر درس التاريخ من الصورة النمطية التي التصقت به باعتباره درس للحفظ، وأيضا يجعل من تعلم التاريخ تعلما ممتعا، ويتجاوز أسوار المدرسة إلى الشارع والحياة.. سبق أن أشرتم أن تعريف الناشئة بالتاريخ فرصة للحفاظ على قيم الوطنية والتعايش والتعددية .. ومعلوم أن المقررات المدرسية تشكل أول نافذة للناشئة على التاريخ، ولكن مع الأسف هناك حلقة مفقودة لفهم سبب عدم استحضار تأثير هذه المقررات في شخصية بعض الناشئة التي تعكسها طبيعة نقاشاتهم على مواقع التواصل؟ هل نتحدث هنا عن أزمة مدرسة، وتحديدا عن أستاذ عاجز عن تمرير قيم إيجابية للتلاميذ، أم أزمة تواصل بين أجيال؟ - ببساطة درس التاريخ في التوجيهات التربوية الرسمية، وفي الكتب المدرسية غافل بصورة شبه نهائية عن الكفايات والأهداف القيمية، درس التاريخ لحد الآن عمليا ليس درسا تربويا، يفتقد لأي رهان تربوي واضح، وهذا أمر فضيع يسائل المسؤولين على التربية والتكوين. وعليه فإن أطفالنا يدرسون التاريخ وقضايا ومحاور تاريخية لا علاقة لها بحياتهم اليومية ومستقبل أمتهم، في حين أن التاريخ المدرسي من المحددات الأساسية له أن يكون متجاوبا ومتناغما مع متطلبات الحياة.. أو بعبارة بسيطة، عندما ندرس التاريخ في المدرسة، فإننا في الجوهر ندرس الحاضر، وليس الماضي لنعيش فيه. وهكذا، فإن المسألة ليست أزمة أستاذ، أو أزمة تلاميذ.. إنما الأزمة في العمق أزمة تخطيط تربوي، وهندسة بيداغوجية أضعفت حضور القيم في التاريخ المدرسي، وهمشت القضايا التاريخية الحقيقة.. تراكم في مسيرتك الأكاديمية والحزبية والمهنية تجربة تمكنك اليوم من الوقوف في مكان قد يجعلك أكثر قدرة على تقديم قراءات دقيقة فيما يخص تبخر ثقة بعض الشباب في السياسة عبر بوابة الدين، وأعتقد أن عددا من الشباب ربما يعيد تكرار سيناريو سبق أن عشتم تفاصيله وأنتم ترون تغير مسار طريق يتقاطع فيه الديني بالسياسي؟ - إن مشكلة ثقة الشباب في السياسة والسياسيين هي قضية معقدة لا علاقة لها بوجود تيار معين في السلطة أو استعمال الخطاب الديني في السياسة، فهذا الأمر لا يفسر لنا أزمة الثقة، ذلك أن استعمال الدين في السياسة خاصية مشتركة بين الإسلاميين والدولة، والعديد من التيارات السياسية في الغرب، وقد لاحظنا على سبيل المثال مدى حضور الدين في الولاياتالمتحدةالأمريكية وتنصيب الرئيس الأمريكي الجديد.. إلخ. فالمشكلة بالأساس مرتبطة بالديموقراطية، ومدى التجاوب بين الساسة والشباب، وثقافة المشاركة، وطبيعي جدا في هذا السياق أن تنشأ عدد من المواقف الرافضة للتجربة الحالية، او الناقمة عليها باعتبارها لم تحقق المتوقع من الطموحات والآمال. الشباب عموما عازف عن السياسة، ومع دخول الإسلاميين دائرة السياسة والتدبير، ربما نجحوا بامتياز في قتل شعار" الحل هو الإسلام" الذي اعتبره البعض بديلا عن الموجود، هل تعتقدون أن هذا التعثر ناتج عن تمثل مرتبك لعلاقة الدين بالسياسة، أم أنه انعكاس لتحول المبادئ إلى شعارات؟ - لا، لم يدخل الإسلاميون بالمغرب حلبة السياسة والتدبير الحكومي بشعار الإسلام هو الحل، بل على العكس من ذلك فرض عليهم عدم استعمال الدين بصورة شبه تامة في ممارستهم للسياسة، ومن ثم، لاحظنا خفوت حضور الدين في الحياة العامة مع دخول حزب العدالة والتنمية المعترك الحكومي مقارنة مع زمن المعارضة. وقد كان هذا الوضع مناسبة لمراجعة عدد من القناعات حول علاقة الدين بالسياسة لدى الإسلاميين وخاصة ما يتعلق بمفاهيم الدولة المدنية والحريات الفردية وحرية الضمير.. ربما هذا الأمر يكون صحيحا بالنسبة لبعض التيارات الاحتجاجية التي لا زالت تنشط في الهامش أما بالنسة للإسلاميين المشاركين فالأمر غير صحيح. في الآونة الأخيرة اختارت العديد من الشابات ممن ولجن السياسة عبر بوابة الدين، إعلان "عصيان ناعم" من داخل المشروع الإسلامي، هل تعتقدون أن الخطاب الديني أقل تماسكا فيما يتعلق بالجانب النسائي، حيث نلمس اليوم شابات يرفضن "التحكم والوصاية" - إن مفهوم الالتزام الذي كانت تتبناه مجموعات اليسار في مرحلة من المراحل، وهو المفهوم نفسه الذي تبناه الإسلاميون ولا زالوا عادة ما يتمثل في ثقافة تنظيمية أو حزبية مهيمنة، تشكل مشتركا بين عموم أفراد التنظيم. وفي هذا المناخ كل الأفراد الذين تسول لهم نفسهم الخروج أو التمرد على ثقافة التنظيم، وخطابه العام يعاني من التضييق والنقد، واللوم..، وحصل هذا مع الكثيرين في الماضي من اليسار ومن الإسلاميين. ويتساوى في هذا الأمر الرجال بالنساء.. ولهذا في تقديري أن مشكلة بعض المنتسبات للعدالة والتنمية قد تكون من هذا الجنس، أي أنهم بلباسهم، بتصرفاتهم، بآرائهم.. يشكلون تحديا لثقافة التنظيم، ومفهوم الالتزام داخله، ومن ثم، والحالة هاته، طبيعي أن يواجهوا بقدر من النقد أو الطعن. اليوم، وأنتم في حل مما وصفتموه سابقا ب"ورطة الاصطفاف"، ومن منطلق المفكر والباحث في تاريخ الفكر السياسي الإسلامي، هل تعتقدون أن المشروع السياسي الإسلامي يفقد خيوط التواصل مع شباب يعيش على إيقاع أولويات ومفاهيم وقيم مغايرة لما يعتقده البعض مفاهيم مقدسة خارج عن سياق الزمان والمكان الذي كانت وليدته؟ - إن علاقة المشروع الإسلامي بالشباب هي علاقة معقدة، فمن جهة هي فرع عن مشكلة الديموقراطية في بلادنا، والمكانة التي يحتلها الشباب في نظامنا الديموقراطي، ومدى حضورهم واهتمامهم بالحياة السياسية، والإسلاميون من هذه الناحية يشبهون غيرهم، لكن إذا التفتنا إلى ناحية الشباب المنتمي للحزب الإسلامي، ربما تتخذ المشكلة بعدا آخر يتعلق بما هو ثقافي، وكيف يتصور هؤلاء الشباب السياسة؟، وكيف يفهمون المشروع الإسلامي؟ وما هي القيم المرجعية الأساس؟ وغير ذلك من الأسئلة، فتعريف "الإسلامي" بالنسبة لهؤلاء الشباب يختلف عن تعريفه لدى الجيل المؤسس. وفي هذا الجانب يمكن أن نسجل تباينا واختلافا بين الأجيال، فجيل السبعينيات الذي يسود اليوم على صعيد تدبير الحزب، يختلف في الكثير من قسماته عن جيل التسعينات..، وربما تعبر خريطة الثوابت والمتغيرات لدى الجيلين عن هذا الاختلاف والتباين.