غني عن البيان القول إن كلمة "ثقافة" ترتبط في أذهاننا بشؤون الفكر العامة، "فالكلمات تاريخ وهي أيضا إلى حد ما تصنع التاريخ"[1] إن الوعي بمكانة الثقافة المدرسية في حياتنا أفرادا ومجتمعات يجعلنا ندرك أهمية المدرسة كمؤسسة تربوية تلج إليها الثقافة من أفراد المجتمع، ومن هنا تبدو علاقة الثقافة بالتربية وثيقة الصلة. تاريخيا لعبت التربية دورا مهما في بناء شخصية الانسان بكل مقوماتها الأخلاقية والعقدية والسلوكية، فكان أن لوحظ منذ القدم أهمية المؤسسة المدرسية في بناء ثقافة الفرد من خلال ما تقدمه التربية من مناهج وبرامج ومعايير تقويم وقياس، ومن خلال تلك العلاقة الديناميكية التي تتشكل في البنية التربوية بين مختلف الشركاء والفاعلين، ولأن المدرسة تعد من البنيات الأساسية للمجتمع، فينبغي إذن النظر إلى كل تطور في العمل أنه يمثل مساهمة في تحول المجتمع ذاته، "فالمدرسة تشكل نظاما حيويا متكاملا ومتفاعلا من العناصر والديناميات والمفاهيم والوظائف"[2]، وعلى هذا الأساس فالمؤسسة المدرسية تقدم نفسها كنظام مركب ومعقد تكمن أهميته في اعتباره تكوين فكري واجتماعي تربوي وكرؤية يعبر من خلالها على النظرة المستقبلية. إذن فما المقصود بالثقافة المدرسية؟ إذا كانت لكل مؤسسة ثقافتها الخاصة، فإن المؤسسة المدرسية تكمن ثقافتها في التقاليد والقيم والمبادئ التي تصف لنا التفاعل الإنساني من داخل هذا الوسط. فالثقافة المدرسية منظومة من القيم والمعايير والمعتقدات والممارسات...[3] التي تكونت داخل مجتمع المؤسسة بين مختلف الفاعلين والشركاء (مدرسين، إدارة، متعلمين...) عن طريق مواجهة التحديات والمشاكل المطروحة في الوسط المدرسي. وهي منظومة تتكون من التوقعات والقيم التي تشكل طريقة تفكير الناس ومشاعرهم وتصرفاتهم في المدرسة، وهذه التأثيرات هي التي تجعل المدرسة بيئتها الداخلية وذلك بأهدافها، وهياكلها ومناهجها ونظامها التعليمي وأسلوبها وفرادة خصوصيتها.[4] يستخلص من ذلك أن الثقافة المدرسية هي مجموعة من القيم والسلوكات والأفعال والتقاليد التي تشكلت داخل المؤسسة المدرسية، وهي أيضا تلك النماذج المنقولة عبر الأجيال من الاحتفالات والمبادئ والأساطير والمعتقدات والتي تفهم بدرجات مختلفة من قبل أعضاء المجتمع وتخضع هذه الثقافة أساسا لعاملين وهما الثقافة العامة للمجتمع والفلسفة التربوية التي تحدد المنهج والأهداف التربوية المقررة من طرف الوزارة الوصية.[5] وعطفا على ما سبق ذكره، تعتبر الثقافة المدرسية ذلك المناخ الوظيفي المندمج في مكونات العمل المدرسي والذي ينبغي التحكم فيه لضمان مناخ سليم إيجابي، وللثقافة المدرسية تأثير أيضا على المناخ التنظيمي السائد في المؤسسة المدرسية، فهو يتأثر بنتائج التفاعل وبالأثار المتبادلة بين مختلف مكونات النظام التربوي والإرادي والأكاديمي والخدماتي. تحتضن المدرسة أنماطا ثقافية كثيرة، وذلك لوجود ثقافات متعددة في المجتمع، فالمغرب على سبيل المثال غني بروافده الثقافية ومزيج من الانتماءات الثقافية (أمازيغية، عربية، حسانية، عبرانية وإفريقية وأندلسية ومتوسطية...)،[6] فكانت المدرسة ذلك الوسط الحي المستقبل لهذا الغنى والتنوع الذي يحمله كل فرد متعلم، إضافة أيضا إلى الفاعلين والأطر التربوي. وباعتبار المؤسسة المدرسية تتفاعل مع هذه الانتماءات، كانت بالضرورة أن يكون لها الدور البارز في كيفية التعاطي معها بإنصاف وعدالة دون إقصاء لأي مكون معين، من خلال انتقاء الأخلاق والقيم والممارسات التي وجب أن يصطدم بها المتعلم، والتخلي بذلك عن الأشكال غير الأخلاقية الأخرى، والقضاء على البيروقراطية الثقافية، عبر تكريس مبدأ الديمقراطية المدرسية. فالمدرسة ليست فقط مكان تجتمع فيه الناشئة لتلقي المعارف الخالصة، أي الثقافة العالمة، لكن الأساس من التربية المدرسية هو اختزال لكل الثقافات في علبة واحدة مهمتها ربح أفراد نموذجيين يقرون ويعترفون بحق الانتماء الثقافي مناهضين لكل السياسات العنصرية والتمييز المجتمعي سواء في البنية التي يعشون فيها أو خارجها، عندئذ سيكون لنا الحق في الحديث عن التثاقف والمثاقفة والاعتراف بالأخر كواحد منا وليس بغريب عنا. فالمدرسة ليست مصنوعة من المعرفة الفكرية للتدريس فقط، وإنما مكان مغلق للتعايش وفقا لقواعد اللعبة والطقوس: قيم التنظيم واحترام المساحات والأشياء المشتركة في التفاعل اليومي، ولو أنها "تكون نخبوية في كثير من الأحيان عن غير قصد ولصالح تعزيز اجتماعي لثقافة النخبة التي تطمح للتمييز عن المشترك"[7]. ووفقا لجيروم برونر "التعليم هو المحاولة المعقدة للتكيف لاحتياجات أعضائها وتكيف أعضائها وطريقة تعلمهم لاحتياجات الثقافة"، وبعبارة أخرى فإن فكرة "ثقافة المدرسة" تعطي هنا المعنى المزدوج وهو كخطوة أولى ثقافية تربوية للتكيف مع احتياجاتنا، وفي خطوة ثانية تلبية احتياجاتنا لهذه الثقافة. ومن خلال هذه الخاصية المعقدة للتعليم يظهر ان النظام التعليمي لم يعد لديه تصور واضح للثقافة ليتم نقله ربما لأننا بين مفهوم نخبوي للثقافة وتصور أنثروبولوجي لها، وبالتالي عدم التوافق بين معاني المفهوم، فمن "وجهة نظر نخبوية كونها ثقافة الطبقة المهيمنة، أما من وجهة نظر أنثروبولوجية هي معرفة الحياة اليومية"[8]، وبالعودة إلى الثقافة المدرسية قد يكون لنا في تعريفها إطار وتصور أكثر وضوحا قائم على ثنائية: ● اللغة: المكون الرئيسي للتراث الثقافي والذي يكون إتقانه أساسا للوصول إلى مجالات من المعرفة والثقافة العالمية. ● التاريخ: المكون الأساس لأي مجتمع، حيث لديه معرفة تضيء الحاضر والمستقبل. إن الوسط الثقافي للمدرسة تحدده جملة من المتغيرات الثقافية، فمن اللازم بداية أن نميز بين وظيفة المدرسة التربوية ووظيفتها العلمية، فالمدرسة إذن قبل كل شيء مؤسسة تربوية لإعداد الأجيال وتربية الناشئة، والثقافة المدرسية أنواع: ● الثقافة المدرسية الرسمية: يقصد بها كل ما يتضمنه الحقل المدرسي بإنتاجه وإعادة إنتاجه من قيم ومعارف، اتجاهات، خبرات، تصورات، علاقات، تفاعلات وأنظمة رمزية وأشكال فكرية وكفايات ونماذج ثقافية وأشكال السلوك والممارسات والأفعال والعواطف والإحساس ... التي يتم انتقاؤها وتأطيرها، ومن ثم التشجيع عليها للأخذ بها بشكل رسمي وعلني من قبل نظام تعليمي محدد، وهو ما يعرف بالعملية التنشئوية، باعتبار المدرسة "حقل رسمي مؤسسي يوجه ويؤطر حياة المتمدرسين"[9]. وهي عملية تفاعلية تتحقق بين المتعلمين والفاعلين التربويين، في إطار وضعية تنشئوية خاصة ذات طبيعة مركبة لها صبغة رسمية ومؤسسية. من هنا فهي حقل مركب يهدف بشكل صريح إلى تحقيق أهدف تربوية وتعليمية يكون القصد منها تنشئة المتعلمين وتربيتهم وتعليمهم وتكوينهم وفق نماذج ثقافية محددة ذات صبغة مؤسسية وذات طبيعة مركبة وهجينة، تؤطر بكيفية قصدية مجموع الاختيارات التعليمية والتربوية والايديولوجية والسياسية وكذلك القيمية والسلوكية التي تعمل على تربيتها للمتعلمين. ● الثقافة المدرسية اللامؤسسية: تنتج بشكل عفوي من داخل الحقل المدرسي، وذلك عبر عمليات التأثير والثأثر التي تحدث بين الفاعلين المدرسيين، إذ تشمل هذه الثقافة المنتجة بدورها القيم والمعايير والأنماط الثقافية والإجتماعية والأخلاقية، التي تنتشر في وسط مدرسي غير قصدي، وبعبارة أخرى بشكل غير رسمي، مما سيؤدي إلى ظهور "نسق قيمي لاشكلي[10]". هنا يكمن الفرق بينها وبين الثقافة المدرسية الرسمية التي لها وظيفة رسمية وقصدية في إنتاجها، إلا انه يمكن رغم ذلك أن تجد تقاطعات وتكامل بينهما على مستوى بعض أوجهها المشتركة، وتجدر 0لإشارة إلى أن قوة تأثير الثقافة المدرسية اللامؤسسية في المجال المدرسي لاتقل أهمية عن قوة تأثير البعد المؤسسي الرسمي لهذه الثقافة. بناء على ذلك يمكن القول إن نجاح المتعلمين في المدرسة، لايتوقف على مدى تمثلهم للجانب العلمي في ثقافة المدرسة فحسب، وإنما مدى قدرتهم على تمثل معاييرها السلوكية وفي تشربهم لقيمها الثقافية، فالمدرسة بيئة نفسية و0جتماعية قبل أن تكون بيئة معرفية. المراجع: - عبد الفتاح ديبون، أفق المدرسة، الطبعة الأولى، منشورات غرب ميديا، القنيطرة، 2003. - عبد الرحيم الحسناوي، الثقافة المدرسية وتكوين المدرسين، "الثقافة المدرسية: مفهومها وأسلوب إرسائها"، منشورات وليلي، دفاتر المدرسة العليا للأساتذة بمكناس، مجلة بيداغوجية وثقافية، العدد 15، فبراير 2010. - محمد الشهب، المدرسة وعملية التنشئة الاجتماعية: دراسة في الثقافة المدرسية وفي الأنساق الثقافية والتربوية السائدة في المدرسة المغربية، التدريس، المجلة المغربية لعلوم التربية، العدد الثالث، 2005. - Philippe Bénéton, Histoire de mot « culture » et « civilisation », Travaux et recherche de science politique :35 (Paris: Presse de la fondation nationale des science politique, 1975). - Philippe Perrenoud, Culture scolaire, culture élitaire?, Faculté de psychologie et des sciences de l'éducation Université de Genève, 1990, In Coordination n° 37, mai 1990, pp21-23. Repris in Perrenoud, Ph: La pédagogie à l'école des différences, Paris, ESF, 1996, chapitre 1. - La culture scolaire : Distance entre culture scolaire et culture familiale La culture scolaire au service de la mobilité sociale ou au service d'une compétition sociale, Les Analyses de la Fédération des Associations de Parents de l'Enseignement Officiel (FAPEO, Mai 2008). [1]- Philippe Bénéton, Histoire de mot « culture » et « civilisation », Travaux et recherches de science politique :35 (Paris : Presse de la fondation nationale des sciences politiques, 1975). [2]- عبد الفتاح ديبون، أفق المدرسة، الطبعة الأولى، منشورات غرب ميديا، القنيطرة، 2003، ص.36. [3]- عبد الرحيم الحسناوي، الثقافة المدرسية وتكوين المدرسين، "الثقافة المدرسية: مفهومها وأسلوب إرسائها"، منشورات وليلي، دفاتر المدرسة العليا للأساتذة بمكناس، مجلة بيداغوجية وثقافية، العدد 15، فبراير 2010، ص. 65. [4]- عبد الرحيم الحسناوي، الثقافة المدرسية وتكوين المدرسين، "الثقافة المدرسية: مفهومها وأسلوب إرسائها"، مرجع سابق، ص. 65. [5]- محمد الشهب، المدرسة وعملية التنشئة الاجتماعية: دراسة في الثقافة المدرسية وفي الأنساق الثقافية والتربوية السائدة في المدرسة المغربية، التدريس، المجلة المغربية لعلوم التربية، العدد الثالث، 2005، ص. 85. [6]- أوردت الفقرة 2 من ديباجة دستور 29 يوليوز 2011 أن "المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، متشبثة بوحدتها الوطنية والترابية، وبصيانة تلاحم وتنوع مقومات هويتها الوطنية، الموحدة بانصهار كل مكوناتها، العربية-الإسلامية، والأمازيغية، والصحراوية الحسانية، والغنية بروافدها الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية. كما أن الهوية المغربية تتميز بتبوإ الدين الإسلامي مكانة الصدارة فيها، وذلك في ظل تشبث الشعب المغربي بقيم الانفتاح والاعتدال والتسامح والحوار، والتفاهم المتبادل بين الثقافات والحضارات الإنسانية جمعاء". [7]- Philippe Perrenoud, « Culture scolaire, culture élitaire ?, Faculté de psychologie et des sciences de l'éducation Université de Genève, 1990, In Coordination n° 37, Mai 1990, pp21-23. Repris in Perrenoud Philippe: La pédagogie à l'école des différences, Paris, ESF, 1996, chapitre 1. [8]- " La culture scolaire: Distance entre culture scolaire et culture familiale La culture scolaire au service de la mobilité sociale ou au service d'une compétition sociale", Les Analyses de la Fédération des Associations de Parents de l'Enseignement Officiel ( FAPEO ,Mai 2008), p. 5 [9] - محمد الشهب، الثقافة المدرسية وتكوين المدرسين، "علم اجتماع الثقافة المدرسية وأهميته بالنسبة للعمل البيداغوجي"، منشورات وليلي، دفاتر المدرسة العليا للأساتذة بمكناس، مجلة بيداغوجية وثقافية، العدد 15، فبراير 2010، ص91. [10] - نفسه، ص92.