ما نعرفه هو أن الدستور ينص في فصله التاسع والثمانين على أن الحكومة تمارس «السلطة التنفيذية. تعمل الحكومة، تحت سلطة رئيسها، على تنفيذ البرنامج الحكومي وعلى ضمان تنفيذ القوانين. والإدارة موضوعة تحت تصرفها، كما تمارس الإشراف والوصاية على المؤسسات والمقاولات العمومية». وهذ الفصل لا يقول لنا إن رئيس الحكومة ينسق عمل الحكومة، بل يقول لنا بوضوح «تحت سلطة رئيسها»، وهو يقول لنا أيضا بوضوح مشابه إن «الإدارة موضوعة تحت» الحكومة. ولذلك ليس من المقبول ولا المعقول أن نقطع كل تلك المسافات الوعرة في رحلة الإصلاحات الدستورية، ونصل إلى توافقات مجتمعية سنة 2011 حول هذا الفصل وغيره، كي يعود بنا البعض إلى ترديد مقولات من دستور 1996. ومن هذا البعض مثلا أن يقول لنا الحزب الاشتراكي الموحد في بلاغ مكتبه السياسي إنه يتابع «بقلق كبير، استمرار انفراد وزارة الداخلية بمسؤوليات وصلاحيات تدبير تداعيات جائحة كورونا، ولعل قرارها الأخير والقاضي بمنع التنقل من وإلى ثمانية مدن، أبرز مثال على هيمنة عقلية الداخلية ومقاربتها التحكمية». ومع ذلك قد نجد لرفاق نبيلة منيب عذرا أو أعذارا، فهم لم يصوتوا لصالح هذا الدستور. ولا يرون فيه شيئا غير ذي بال مادام لم ينص على «الملكية البرلمانية» التي يطالب بها من عجز حتى عن إنجاح ديمقراطيته الداخلية، والاشتراكي الموحد لا يرى دولة ولا مؤسسات، فكل شيء بالنسبة إليه مازال مشدودا إلى «زمن المخزن»!! من العادي أن تكون تلك عقيدة حزب يساري راديكالي، لكن ما ليس عاديا بتاتا هو أن يسرب الحزب الذي يقود الحكومة باسم المنهجية الديمقراطية والإرادة الشعبية، عبر أعضائه ونشطائه، رواية أن رئيس الحكومة غير مسؤول عن قرارات بعض وزرائه، وأنه لا علم له بها، وهي تتخذ في غفلة منه، بل ويذهب الخيال بعيدا ببعض مثقفيه إلى القول، علنا وجهارا، أن قرارات حكومية لم تتخذ إلا لإرباك هذا الحزب في سنة انتخابية حاسمة. هذا عبث سياسوي وليس ممارسة دستورية تربط المسؤولية بالمحاسبة، وفي الديمقراطيات التي تحترم نفسها، ويحترم فيها سياسيوها أنفسهم ومواطنيهم، يدعو المنطق رئيس الحكومة إلى تقديم استقالته متى ظهر له أن قراراته يتم تهريبها بعيدا عنه، وحتى إن لم يشأ أن يصل إلى هذا الحد تفاديا للتأزيم السياسي، فإن الدستور يعطيه صلاحيات ممارسة سلطته على الوزراء وتعديل قراراتهم لإرجاعها إلى بيت الطاعة الدستورية. لكن هذا الرجل مازال حريصا على أن يكون وزيرا أول يجلس في ربع كرسي رئيس الحكومة. ولا يختلف التجمع الوطني للأحرار في شيء عن العدالة والتنمية، ويبدو أنه تتلمذ على يديه في الآونة الأخيرة فيما يتعلق بإنتاج القرار الحكومي والتبرؤ منه، لقد تابعنا كيف أشرف وزير تجمعي على إعداد مشروع قانون المالية التعديلي، ورأينا كيف صوت له برلمانيو الحزب في غرفتي البرلمان، ثم صدمنا ببلاغ للمكتب السياسي لنفس الحزب يهاجم وزيره، ويعلن براءته من هذا القانون مثل براءة الذئب من دم يوسف. ومشكلة التجمع أنه لم يتعلم في تاريخه أن يكون معارضا بالمعنى الحقيقي للمعارضة، ولذلك حين يحاول اقترافها، يرتكب حماقات كتلك التي صدرت في بلاغ مكتبه السياسي، ثم حاول تداركها بتسريبات «قال مصدر مطلع»، والحال أن قاعدة توازي الأشكال تفرض أن يتم تصحيح زلة بلاغ ببلاغ، وليس بتحليل مبني للمجهول. من وضع قانون المالية التعديلي إذن حتى يتبرأ منه الحزب الذي يشرف على القطاع الوزاري الملكف بإعداده؟ ومن يتخذ القرارات الحكومية الكبرى إن كان رئيس الحكومة على غير علم بها؟ إن الذهاب في هذا المنطق يقودنا إلى نتيجة كارثية سياسيا ومؤسساتيا: حكونة تعتبر، دون أن تمتلك شجاعة قول ذلك صراحة، أن هناك حكومة أخرى تتخذ قرارات هي من صميم صلاحياتها!! وأحزاب تتقاتل من أجل المسؤولية الحكومية كي تقول لنا في نهاية المطاف إنها لا تتحمل أية مسؤولية؟ هيئات ومؤسسات تتنصل من عواقب قراراتها وتحملها لفاعل مبني للمجهول. السياسي ليس جبانا فقط، ولا انتهازيا وكفى، هو أيضا عنصر تخريب للمؤسسات حين لا تخدم مصالحه الانتخابية ولا ترضي زبناءه وقواعده الاجتماعية، وهذا النوع من السياسيين يعرف متى يخلق المطابقة بين الدولة والحكومة، ومتى يصنع الفاصل بينهما، ولو كنا أمام حياة سياسية طبيعية بأحزاب سياسية طبيعية، لكانت الدولة هي الحكومة والحكومة هي الدولة، لكننا نعيش زمنا غير طبيعي في كل شيء، ومن صوره غير الطبيعية أن تخاطب سياسيو الحكومة الدولة كما يخاطبها أي حزب راديكالي معارض. خلال فترة الحجر الصحي وبينما كان الوزراء التقنقراط يراكمون النجاحات، ظل السياسيون يتزاحمون ليتقاسموا معهم نجاحاتهم، وحين تسرب العياء والإنهاك والارتباك إلى التقنقراط واشتد عليهم ضغط المعطيات الصحية والاقتصادية والاجتماعية، صار السياسيون يبدعون كل الأساليب الممكنة للتبرؤ من التقنقراط وقراراتهم. إنها قمة الانتهازية المقيتة، وقمة الصبيانية في ممارسة السياسة السياسوية في ظرفية وسياق عصيبين جدا. وقد لا يكون من المبالغة في شيء القول أن هذا الشعب لا يستحق نوعية السياسيين الذين ابتلي بهم كما ابتليت بهم مؤسسات الدولة.