قلة من القراء فقط، تعرف أننا ومع إعلاننا منذ عدد الويكاند أي السبت والأحد الماضيين، أننا سنتوقف عن الصدور الورقي خلال فترة الحجر الصحي في بلادنا، واصلنا السعي مع شركائنا في المجال الإعلامي إلى التأكد من وجود « صيغة ما » لمواصلة الوصول ورقيا إلى مختلف مستهلكي هذه البضاعة المسماة صحفا يومية مكتوبة. أمضينا يوم السبت الماضي كله، حتى ساعاته الأخيرة نتأكد من وجود قرار ما يقضي بإيقاف جماعي أو بإمكانية السماح لنا جميعا بأن نواصل الإصدار. في الساعات الأولى من الأحد اتضح أننا سنواصل الصدور. شركتا التوزيع قالتا إنهما حصلتا على رخصة التنقل الاستثنائية، وأنهما ستخصصان نقط بيع في المدن المغربية التي سيصلها أسطولها. استأنفنا العمل الأحد على أساس أنه لايمكن أن نغيب عن موعد وطني هام وحاسم مثل هذا وأنجزنا عددنا وأرسلناه إلى المطبعة، واعتقدنا أن الأمر انتهى.. في المطبعة وجدنا زملاءنا في « المساء » وقد انتهوا من الطبع، ووجدنا زملاءنا في « ليزيكو » يستعدون لدخول مانسميه في دارج حرفتنا « الفران »، قبل أن يحين دورنا نحن أيضا لكي نحول صفحات « البي دي إيف » الخاصة بنا إلى أوراق تجوب المغرب طولا وعرضا وتصل أماكنه المختلفة. قبيل الطبع بهنيهات قليلة، صدر بلاغ عن وزارة الثقافة والاتصال يطلب تعليق إصدار ونشر وتوزيع المطبوعات والصحف الورقية في المغرب. لم نطبع عدد الإثنين. توقفنا. علمنا أن قرارا مثل هذا وإن صدر بصيغة « تدعو إلى التعليق ولا تأمر به » إلا أنه يعني في العمق والحقيقة الأمر بذلك. شرعنا في طرح السؤال على شركائنا المختلفين: « هل اتصلت بكم الوزارة قبل أن تصدر هذا البلاغ؟ » الجواب كان قطعيا: لا. لاإشكال لدينا في الموضوع، فقد كتبنا افتتاحية منذ السبت الفارط نقول فيها إننا قررنا الذهاب اختياريا إلى صيغة النشر الرقمي لمحتويات جريدتنا إلى أن يرفع الله غمة كورونا، لكننا وجدنا أنه من الغريب ألا تكلف الوزارة نفسها عناء إخبار المعنيين الأوائل بالحكاية بهذا الموضوع. ماعلينا، هذا الهم، يبدو اليوم آخر هموم المغاربة، ونحن أيضا في الميدان الإعلامي نعتبره آخر همومنا لأننا أحسسنا بوقع إقفال المقاهي التي دأبت على ترويج منتوجنا « مجانا » لزبنائها على مبيعاتنا جميعا، وفهمنا أن أوقاتا أصعب من الصعبة تنتظر هذا الميدان الهش أصلا في المغرب والذي لم يكن يحتاج كورونا وآثاره المدمرة لكي يزداد هشاشة الأهم الآن من كل هاته القرارات، سواء أخبرنا بها أم تم اتخاذها وتطبيقها علينا، هو كيفية التعامل مع المعلومة في زمن كورونا. هذا سؤال مؤرق ليس فقط للمهنة وحرفييها. هذا سؤال يجب أن يكون مؤرقا أساسا لكل من يعنيه البلد.. اليوم لدينا أكثر من 26 مليون مشترك في خدمة الأنترنيت في المغرب. أغلبيتهم لا تنتظر توقيت نشراتنا الرسمية في القنوات العمومية، ولا تنتظر صدور « الأحداث المغربية » أو « الصباح » أو « أخبار اليوم » أو « المساء » أو « الأيام » أو « الأسبوع الصحفي » أو غير هاته العناوين لكي تبحث عن إشفاء غليلها من الأخبار: أغلبية الناس اليوم تمسك بين أيديها لوحة رقمية صغيرة أو هاتفا ذكيا أصغر، وتنقر من خلاله على كل الروابط وتتلقى سيلا هائلا ومرعبا ومهولا من الأخبار من ضمن هاته الأخبار نسبة مهمة وكبيرة من الصادق، لكن من بين هاته « الأخبار » نسبة تفوق الرعب نفسه من الكذب والاختلاق والافتراء مما نسميه « اللاأخبار ». ثم هناك النيات السيئة تلك التي لا تكتفي بتلفيق الأخبار أو نشر الزائف منها، بل التي تعمل على توظيفها في هذا الاتجاه أو ذاك، وهذه مسألة مشروعة في أي حرب، ونحن في حالة حرب، ليس ضد كورونا اليوم، بل ضد كل من يستهدف صورة البلاد منذ قديم الزمان.. في وقت سابق عندما كنا نتحدث عن الكتائب الأنترنيتية كان البعض يعتقد أنا نبالغ. بعد ذلك ومع وقوع أحداث عديدة فهم ذلك البعض أننا كنا نقول ماهو أقل من الحقيقة. فهم البلد أن هناك جهات تشتغل فعلا على موضوع الأنترنيت هذا وشحنه بكثير من التوجيهات للنيل من عديد الأشياء. لحسن حظنا في هذا البلد الأمين والاستثنائي مجددا أن الانتباه يأتي دوما قبل الأوان. لذلك تم ملء كثير من الثغرات في المجال الإعلامي عبر الأنترنيت، وتم الانتباه إلى كثير من الكوات التي كانت تتسرب منها عديد النيات الخبيثة والسيئة إلى الوطن. اليوم نحن أمام معطى جديد. حتى تلك الأوراق القديمة التي تبدو للجيل الجديدة متهالكة، لكن يعرف الجيل السابق له أنها تتضمن بعض الجدية وبعض المعقول في صياغة الخبر وفي البحث عنه، والتي لازالت تستند إلى تلك الأسطورة القديمة « راه قالوها فالجورنان » لم تعد تصدر... وللأمانة، ولكي نصارح بعضنا البعض حتى وإن مر كورونا فإن زمن الورقي قد انتهى منذ فترة طويلة، وهذه بديهية لايريد الكثيرون إدخالها إلى أذهانهم، لكنها الحقيقة اليوم الرهان كله هو كيفية نقل الطريقة السوية والجدية والجادة في التعامل الصحافي الحرفي المهني الرصين من الورقي إلى الأنترنيت. ولنصارح أنفسنا مجددا بشكل مباشر: ماوقع لنا هو أفضل ماكان يمكن أن يقع لكي نجد أنفسنا اليوم وظهرنا للجدار ولاخيار لنا إلا الانخراط فعليا هاته المرة في عملية الانتقال هاته، لأن الكثيرين ظلوا على ترددهم يقولون « لن ينقرض الورقي أبدا »، ولأن الكثيرين تكاسلوا عن القيام بذلك الجهد الضروري المفروض علينا لكي ندخل عصرنا الحالي عوض أن نبقى جالسين في العصور القديمة نبكي على أطلالنا ونتحسر على الماضي ونكتفي بالعويل بالمقابل أيضا اتضح اليوم أن الرهان على مواقع البوز والإثارة الفارغة وصنع النجومية الزائفة على ظهر العاهات والتشوهات المجتمعية هو رهان فاشل تماما. رهان أعطى العكس من المراد منه، والناس وفي أول منعرج عبرت عن هذا الأمر بشكل واضح وصريح ومباشر واتهمت كل من انخرط في إعلام البوز الأنترنيتي أنه سبب من أسباب التضبيع والتجهيل التي تمس مجتمعنا المغربي، من « مي نعيمة » حتى « أبي النعيم » وبقية الفقاعات « المؤثرة » التي أمطرتنا بها تقنية « اللايف » المسكينة في السنوات الأخيرة. هذا المعطى يفرض علينا إعادة النظر في عديد الأمور، والاقتناع مرة أخرى بأن الصحافة مهنة، وهي ليست هواية متاحة لكل من هب من فراشه ودب على سطح الأنترنيت، وشرع في البوح الشفاف بما يفقه فيه ومالايفهم فيه « الذي بعث ». الرهان اليوم بعد أن يحمل كورونا أوزاره أن نفكر بعيدا عن الحسابات الشخصية والمصلحية الصغيرة لكل متدخل في هذا المجال عن الطريقة التي ستخاطب بها صحافتنا المغربية المستقبلية الناس، والتي ستجد مع هاته المخاطبة ومن خلالها الآذان الصاغية المصدقة، التي تعرف أن مانوصله إليها هي أخبار يجب أن تعرفها لكي تكون رأيها فيما بعد، وليست اختلاقات نمطرها بها لفائدة هاته الجهة أو تلك. وهذا هو جوهر ميدان إخبار الناس بأخبار الناس الذي يسمى الصحافة. هذا هو أهم ما في هذا الهراء كله: أن يستمع إلينا الناس وأن يصدقوا مانقوله لهم، في زمن كورونا وبعد أن ينتهي الفيروس طبعا. البقية كلها تفاصيل تقنية سهلة للغاية ومقدور عليها بكل بساطة...