لا أحد تساءل يوما: لماذا تقع الأمانة العامة للحكومة بين وزارتي الداخلية والمالية؟ حتى الاشتراكيون ممن لازالوا يربطون السلطة بالمال من خلال العبارة الماركسية: «الاقتصاد هو المحدد» لم ينتبهوا إلى الأمر؛ دخلوا الحكومة وخرجوا منها في زحمة لم تسعفهم لينتبهوا إلى هذا الأمر «الجلل». الكل يتحدث فقط بأن الأمانة العامة للحكومة هي «مقبرة القوانين» التي تُشرع أبواب ثلاجاتها في وجه تشريعات تأتي لاهبة من البرلمان نحو وزارة صمتها قاتل، ولا تخرج منها إلا إذا أصدرت سلطتا المال والأمن عفوا شاملا أو جزئيا عنها ليعود إليها الدفء وتنبعث الروح فيها. لكن قلة فقط هم من ينتبهون إلى رجال ونساء تسند إليهم مهمة تحرير هذه القوانين، بما تعنيه عبارة التحرير من معنيين: «الكتابة» و»الحرية». إنهم العاملون في المطبعة الرسمية، الذين يخرجون المراسيم والقوانين من «الظلمات» إلى «النور»، يبعثونها من مقبرة الحكومة لتصبح سارية المفعول نافذة الأثر. الجريدة التي أسسها الجنرال ليوطي قبل 100 سنة، اشتغل فيها إلى جانب الفرنسيين والمغاربة، لبنانيون وسوريون، تصر على كتابة أشهر السنة كما هو متعارف عليه في الشرق العربي «أغسطس»! نسأل محمد السوسي، مدير المطبعة، عن السر من وراء ذلك، فيتطلع إلى زميله أحمد الخلوي، رئيس قسم الإنتاج والتوزيع بالمطبعة الرسمية، فيبادله ضحكة خفيفة، ويقول: «الله يرحم السي عبد السلام القيسي، الأمين العام الأسبق للحكومة، هو الذي طلب منا تغيير كتابة أسماء الأشهر من الطريقة المتعارف عليها في المغرب إلى الطريقة الشرقية. لقد كان رحمه الله يريد توحيد «لغة» الجريدة مع الدول العربية». 132 من العاملين والموظفين، يطلق عليهم البعض تفكها: «جيش تحرير القوانين من قبضة ادريس الضحاك». يتوزعون ما بين 97 عاملة وعاملا في معمل المطبعة، و35 موظفا مكلفا بالأمور الإدارية والتجارية والمالية للمطبعة. لا تنحصر مطبوعات المطبعة في سحب الجريدة الرسمية، بل تتعداها إلى طبع «أعمال الطبع» لفائدة الإدارات العامة، إلا أن أعمال الطبع هذه، يؤكد ل»المساء» أحمد الخلوي، رئيس قسم الإنتاج والتوزيع بالمطبعة الرسمية، تراجعت بفعل تقدم القراءة الرقمية التي قلصت نسبة متابعة المطبوعات الورقية؛ فبعدما كنا نطبع كل المطبوعات النموذجية المعتمدة في الإدارات العمومية، من قبيل جوازات السفر، والورقة الرمادية للسيارات، وكناش الحالة المدنية، وسجلات الحالة المدنية وعقود الازدياد، فإن العديد من هذه المطبوعات قد تم الاستغناء عن نسخها الورقية، أو هي في طريقها إلى ذلك بعد استبدالها بأخرى بيومترية أو رقمية. هل أصبحت الآن الجريدة الرسمية بأنواعها هي أساس مطبوعات المطبعة الرسمية ؟ لا، يجيب أحمد الخلوي «الإعلانات هي «اللي هازة» المطبعة الرسمية، فنحن ننشر الإعلانات القضائية والإدارية وإعلانات التحفيظات العقارية مرة في الأسبوع، وهذه هي العمود الفقري للمطبعة الرسمية، والتي أصبحت ابتداء من يوليوز 1997 مسيرة بصورة مستقلة، بحيث تعتمد على مداخيلها لمجابهة مصاريفها فيما يتعلق بميزانية التسيير والتجهيز» ، ويعلق أحمد الخلوي «الحمد لله منذ سنة 2000 استغنت المطبعة الرسمية عن موارد الدولة وحققت اكتفاء ذاتيا في تسييرها وتجهيزها باستثناء الشق المتعلق بأجور الموظفين، والذي تتحمله الميزانية العامة للدولة». الجريدة الرسمية، التي هي المطبوع الأم داخل المطبعة الرسمية، هي آخر مطبوع يعول عليه في رفع ميزانية المطبعة: «الأمانة العامة للحكومة حددت ثمنا بسيطا للجريدة الرسمية، حتى تكون في متناول جميع المواطنين؛ لأن ثمن الاشتراك لا يتجاوز 400 درهم في السنة، مع أن العدد الواحد من الجريدة الرسمية يتجاوز عدد صفحاته أحيانا 400 صفحة، مثل تقرير المجلس الأعلى للحسابات، لذلك فإن مطبوع الجريدة الرسمية ليس مربحا فقط، بل إنه يشكل «عبئا» على ميزانية المطبعة التي تضطر أحيانا إلى القيام بطبعة ثانية لبعض النصوص التي تكون ذات أهمية بالنسبة إلى العديد من المغاربة. المشتركون في الجريدة الرسمية، والذين يتفاوت عددهم حسب نوعية نشرة الجريدة الرسمية، تقلص عددهم ابتداء من سنة 2009 بحوالي 30 في المائة بعد فتح البوابة المتعلقة بالجريدة الرسمية على موقع الأمانة العامة للحكومة وهو أمر حتى إذا كان على حساب المردودية المالية للمطبعة الرسمية، فإنه قد مكن الملايين من المغاربة من الاطلاع على نسخ الجريدة الرسمية على امتداد 100 سنة، منذ 1912 إلى الآن. وقد بلغ عدد زوار الموقع خلال الفترة ما بين يناير 2011 ومارس 2012، 42 مليون زائر. «الناس لا يعرفوننا، بالرغم من أن بابنا مفتوح في وجه الصحافيين والطلبة الباحثين» يقول أحمد الخلوي، رئيس قسم الإنتاج والتوزيع بالمطبعة الرسمية، ثم يضيف: الكل كان يصفنا ب»جريدة المخزن» أو جريدة «مقبرة القوانين» لكن ها أنت ترى أننا نفتح ذراعينا وقلبنا لكل من طرق بابنا». وكمن يتدارك، يقول: «إننا زملاء، إلا أن جريدتنا ليس لها رئيس تحرير ولا مدير نشر ولا صحافيين». يضحك ملء فيه ونحن نتجول بين مرافق المطبعة التي تعرض «ماعونها» القديم: «هذه مجموعة حروف خشبية متحركة باللغة العربية من حجم 144 نقطة، كان معمولا بها في 1913.. هذه مجموعة باريسية من حروف «إيطاليا» ذات حجم ،24 وحجم 48، وحجم 6 المعروف ب»كريكو كورسيف».. هذه حروف رصاصية وقربها سبيكة يطلق عليها اسم «سومون» من الرصاص المذوب كانت تستعمل في تصفيف الأسطر.. هذا ميزان قديم لتحديد قوة الورق.. هذا دبلوم الجائزة الكبرى حصلت عليه المطبعة سنة 1930 من طرف لجنة التحكيم العالمية في مجال الطباعة. وهؤلاء عمال وعاملات يشتغلون، داخل وخارج الوقت القانوني للعمل، لكي تكون الجريدة الرسمية في وقت واحد بين يدي من يطبق القانون ومن يطبق عليه.