غادر رجل هادر الاثنين الماضي دنيا الناس هذه. سقط محمد الحجام في المحطة الطرقية لمدينة بني ملال وكان يعتزم السفر إلى الرباط. تعرفت على الحجام ، رحمه الله ،عن قرب خلال زياراتي المتكررة إلى بني ملال.اختار الحجام أن يمضي معظم وقته جالساً على نفس الكرسي في مقهى "دنيا داي" لذلك لم يجد أصدقاؤه مكاناً أنسب من الكرسي الذي إعتاد أن يجلس عليه ليضعوا فوقه باقات زهور، تعبر عن الأسى والحزن. كانت مسيرة محمد الحجام الحياتية والتعليمية والنضالية ملفتة.إذ تلقى دراسته حتى المرحلة الثانوية في بني ملال ثم حصل على البكالوريا من بغداد وكان وقتها من نشطاء "الشبيبة الاتحادية" ودرس علم الاجتماع بكلية الأداب في فاس ونال الإجازة وهو معتقل في" سجن عين قادوس" إذ كان من قيادات الإتحاد الوطني لطلبة المغرب، صدر عليه حكم بالسجن لمدة 30 سنة ،وغادر الجدران الرطبة بعفو ملكي . أسس في عام 1991 صحيفة "ملفات تادلة" وهي أول صحيفة جهوية في المغرب. بعد فترات سياسية صعبة ، أضحى الإعلام في نظره أهم من السياسة، لذلك أنخرط في أنشطة إعلامية كثيرة. كان يوزع وقته بين مكتب الصحيفة ومقهى "دنيا داي" وشقة متواضعة آيلة للسقوط في "زنقة أمغالا". يعتبره كثيرون ذاكرة للمدينة القديمة في بني ملال التي يطلق عليها "القصبة". ذات مرة استعنت به لإثراء مادة استقصائية عاش ناسها ودارت أحداثها في "القصبة" أدهشتني ذاكرته الطرية والكم الهائل من المعلومات. عاش الحجام حياة صعبة بين المعاناة والعناد. ظل سنوات يعاني ويعاند.كان يدخن بشراهة ويتحدث قليلاً ويستمع كثيراً. يحيط به في جلسات المقهى عدد من الأصدقاء ومريدين، كان اللولب والنجم، ينظر ، و يتذكر ويستدرك،أحياناً يحلل ويستنبط. كل ذلك دون إدعاء وبعيداً عن "غرغرة" الأدعياء و المتحذلقين .لا يحب الأمور السهلة وينقب عن المواضيع المعقدة.يتكلم بهدوء، كلام الواثق،يحدق بانتباه وكأنه يريد بالفراسة أن يكتشف الآخرين. يجمع بين الفكر الماركسي في أصوله وجاذبية الاشتراكيين الديمقراطيين، لكنه استمر يسارياً دون انتماء تنظيمي ، تستهويه الثقافة العربية وأناقة الفكر الفرنسي. لم يكن يهتم كثيراً بأناقته ، لكن عندما تتأمل وجهه تلاحظ أن الشقاء والمكابدة أخفى وجهاً آخر كان وسيماً وأنيق المحيا. كان صريحاً لا يخفي أن عتمة تسربت إلى دواخله وأوضاعه الشخصية اندفعت إلي ليل طويل، لكن ذلك لم ينل من إرادته. يمكن أن تقرأ الصعوبات وشظف العيش على وجهه لكنه لا يتحدثها عنها قط.عقله البارد ساعده على تحمل الأزمات الحياتية بلا انفعال.أٌعطيت له موهبة الانتظار.